خمس ساعات. ثلاثمائة دقيقة. ثمانية عشر ألف ثانية. وبغمضة عين، تغيرت حياتي إلى الأبد. قبل أن أدخل إلى غرفة العمليات، كنت أمشي على ساقين، وبعد انتهاء الجراحة أصبحت مبتور الطرف.
أتذكر بدقة كل تفاصيل اللحظات الأخيرة لجسدي السليم. في 3 فبراير/شباط 2010، كنت ممددًا على نقالة المرضى خارج غرفة العمليات حيث سأخضع لعملية بتر ساقي اليمنى. لحظات لن أنساها أبدًا: صوت عجلات النقالة، الأضواء الساطعة في الممر، الأبواب التي تُغلق خلفنا، صدى اسمي الذي يردده الممرضون المرتدون الكمامات. “هنا غرفة العمليات. يرجى عدم الدخول”. هذا آخر ما قرأته كعبدالناصر ذو الجسد الكامل والقوي.
وما إن استيقظت، مددت يدي أتحسس ساقي اليمنى، كان عقلي يخدعني ويوهمني أن ساقي لم تُبتر رغم أنني وقعت بنفسي على الأوراق التي تمنح موافقتي على إجراء عملية البتر، وكنت أدرك جيدًا أن ساقي قد بُترت.
لطالما واجهت المصاعب بجسد قوي وعقل أقوى، ولم يخطر على بالي قط أنني قد أخسر طرفًا من جسدي في يوم من الأيام. قيل لي أن والدي كان سعيدًا للغاية عند مولدي عام 1984، وكأنني طفله الأول كما قال لي أحد أقاربي، رغم أن ترتيبي الثامن بين إخوتي. كان مبتهجًا أنه رُزق بطفل يمتلك ساقين، هل سيعرفني الآن؟
غادرت منزلي في الجبال الوسطى والخصبة في محافظة تعز، وذهبت إلى العاصمة صنعاء لأدرس التجارة والاقتصاد في جامعة المدينة. اجتزت أول عامين بتفوق، وخلال سنتي الثالثة، بدأت أعاني من أعراض مرضية، ففي صباح أحد الأيام عام 2008، أيقظني ألم في ركبتي اليمنى. لم أفكر بالأمر كثيرًا حينها ولكن الألم اشتد لدرجة أني فقدت القدرة على المشي جيدًا. نصحني الأطباء بالذهاب إلى القاهرة، وفعلًا سافرت إلى مصر حيث قرر الأطباء ضرورة إجراء عملية لاستئصال الأجزاء الملتهبة من الأنسجة والالتزام بنظام غذائي معين.
أرعبني الأمر، خضعت لعملية استئصال الالتهاب وعدت إلى اليمن ظنًا مني أن الأمور ستتحسن، ولكن بعد عام، انتابني نفس الألم الشديد في ركبتي اليمنى، فسافرت إلى السعودية لتلقي العلاج، حيث تبين أني مصاب بالسرطان.
لطالما تخيلت السرطان على أنه ورم يشبه خليط ما بين سرطان البحر والعقارب السامة، ولم أصدق أن كائنًا كهذا يعيش داخل جسدي. أعدت الفحوصات مرارًا، ومعها كنت أصلي على أن تكون النتائج الأولى خاطئة أو تعود لمريض آخر اختلط ملفه مع ملفي، ولكن كانت النتائج هي نفسها: مصاب بالسرطان.
بدأنا على الفور بالعلاج الكيميائي والعلاج الإشعاعي على أمل أن يُعالج الورم، وبعد ثلاث جلسات، تبيّن أني لم استجب للعلاج ولا مفر من بتر ساقي.
منحني الأطباء عشرة أيام للتفكير وأخذ القرار. كانت تلك أسوأ أيام حياتي، قبعت في غرفتي كمن ينتظر تنفيذ حكم الإعدام، وانهالت أفظع الكوابيس التي أنهكت جسدي الذي بدأ يضعف يومًا تلو الآخر بعد أن نخر السرطان عظامي. كان عليًّ أن اتخذ قرارًا بأسرع وقت، وغرقت بالتفكير في الأمر لدرجة أني لم أعد أعي ماذا يدور حولي، وكأنني تحت تأثير المخدر. كان قرارًا صعبًا للغاية، ولكن لا مفر من هذا المصير.
أول شخص فكرت به بعد أن أخذت قراري كان زوجتي في اليمن، هاتفتها لأخبرها أنني لن ألومها إذا أرادت تركي. لم تتركني، وحبها كان سندي لأقاوم الألم.
عدت إلى صنعاء بعد أن دفنت طرفي المبتور في بلد آخر. شعرت وكأنني غريب عن نفسي، رجل يُدفن جسده مجزأً، وبدل اشتياق الآخرين له، وجدت نفسي اشتاق إلى جزء مني، وكأنني أصبحت شخصين منفصلين.
عندما وصلت إلى مطار صنعاء، كنت بحاجة إلى مساعدة لأنزل من على سلم الطائرة، وأدركت حينها ماذا يعني فعلًا أن تخسر أحد أطراف جسدك. لم يفارقني هذا القلق، فحين جاءت لي الممرضة بمولودي الأول لكي أراه عام 2013، كان أول ما فعلته -قبل حتى أن أتمعن في وجهه- هو التأكد من امتلاكه ساقين.
بعد إجراء عملية البتر بفترة وجيزة، زرت مركز الأطراف الصناعية والعلاج الطبيعي بالعاصمة صنعاء، حيث بوسع المرضى الحصول على أطراف صناعية وخدمات إعادة التأهيل، كنت آمل بأن أحسّن قدرتي في المشي. وأنا هناك، شعرت بأنه لا بد من الغوص في المأساة لننساها.
رأيت مئات المرضى، من بينهم أطفال، فقدوا أطرافهم بسبب الحرب والحوادث. تقلّصت مأساتي أمام مأساة الطفل عبدالرحمن ذي الثمانية أعوام الذي فقد ساقيه إثر سقوطه في منحدر بينما كان يرعى أغنامه. أحضره والده إلى المركز في صنعاء من محافظة حجة، أحد أكثر مناطق اليمن فقرًا، في أقصى شمال غربي البلاد. سأل عبدالرحمن والده إن كان بإمكانه العودة إلى المدرسة واللعب مع أصدقائه مجددًا، ساد الصمت في صالة الانتظار، وانهمرت دموعنا جميعًا.
حينها، كان تعداد سكان اليمن يبلغ 30 مليون نسمة، ولكن لا يوجد فيه سوى مركز واحد للأطراف الاصطناعية. عام 2017 وحده، زار المركز ما بين 200 و500 مريض يوميًّا. (فُتح مركزان آخران منذ ذلك الحين).
سُنت عدة قوانين بهدف تسهيل حياة الأشخاص ذوي الإعاقة، أهمها قانون رقم (61) لسنة 1999، وأُنشئ صندوق رسمي من المفترض أن يلبي احتياجات هؤلاء الأشخاص، مثل الكراسي المتحركة الكهربائية والأطراف الصناعية، كما من المفترض أن يعمل الصندوق على تأمين المنح الدراسية، ولكن، كغيره من القوانين، ظل هذا التشريع حبرًا على ورق إذ لم يطبق بشكل كامل، وجاءت الحرب لتزيد الطين بلة، فالدولة عاجزة عن تأمين المتطلبات الأساسية، ناهيك عن تقديم الخدمات لذوي الإعاقة.
تنامت أعداد الأشخاص ذوي الإعاقة بسبب الحرب. أسفر القصف الجوي للتحالف بقيادة السعودية عام 2015 على جبل عطان وعام 2016 على الصالة الكبرى عن إصابة حوالي ألف شخص، بعضهم بُترت أطرافهم. شهد اليمن آلاف الهجمات الجوية خلال السنوات الماضية. لا نهاية تلوح في الأفق، وكلما مر يوم جديد من الحرب، تزداد أعداد مبتوري الأطراف.
أنشأت منظمتي – منظمة هوب لذوي الأطراف المبتورة – كجهد صغير لتأمين الأطراف الاصطناعية والعلاج الفيزيائي لمبتوري الأطراف. كنت محظوظًا كوني تمكنت من تلقي العلاج الأولي خارج اليمن، والحصول على طرف صناعي يساعدني على المشي ولو لأمتار معدودة. الآن معظم عمل المنظمة توقف نتيجة الصعوبات بسبب الحرب وقلة فرص التمويل.
لم يسلم النظام الصحي في البلاد من الحرب إذ تدهور بشدة، فيما انخفضت قيمة العملة المحلية وانقطعت الرواتب. لا يستطيع الأشخاص المبتور أطرافهم تحمل تكاليف الأطراف الاصطناعية، وفي بعض الأحيان لا تتوفر حتى لمن يستطيع تحمل كلفتها، أما من يحظى بطرف اصطناعي أو كرسي متحرك، فإن حياته مليئة بالتحديات إذ لا يوجد مصاعد في معظم المباني، ولا ممرات آمنة أو منحدرات للكراسي المتحركة في الشوارع. الكثير من اليمنيين، من بينهم أنا، كانوا يتنقلون بسهولة في السيارات ولكن حتى هذا أصبح صعبًا نتيجة نقص الوقود، وفي بلد تمزقه الحرب، تتفاقم معاناة الأشخاص ذوي الإعاقة.
ليس بوسع أحد كسب لقمة عيشه. ارتفع عدد مبتوري الأطراف الذين يتسولون في الشوارع للحصول على الطعام، أنواع مختلفة من الناس في الواقع تتسول بحثًا عن الطعام أو المال أو المساعدة. هذا حالنا في اليمن، مبتورو الأطراف في وطن تنهشه الأطراف المتصارعة. وطن البتر فيه سيد الموقف، ولكن من دون مخدر، فضلًا عن أننا لم نوافق على هذا البتر مسبقًا، ولكننا ما نزال على قيد الحياة. أنا ما زلت على قيد الحياة. لقد خسرت ساقي، ولكنني أصارع الفقدان بالأمل.