كانت السادسة صباحًا من يوم الاثنين في شهر يونيو/حزيران 2020. رن جرس المنبه، كان عليَّ الاستعداد للذهاب إلى العمل كالعادة، ولكني قررت الذهاب إلى محطة الوقود لملء خزان سيارتي.
رأيت طوابير طويلة من السيارات تنتظر خارج المحطة، وبالتالي كنت أعلم أن الأمر قد يستغرق بعض الوقت، ولذا أخبرت زملائي في العمل أنني سأتأخر ساعتين.
كانت أزمة المشتقات النفطية في صنعاء قد بدأت ذلك الشهر، وهي الأزمة التي تُعد أحد الآثار الجانبية للحرب التي نعيشها على مدى السنوات الخمس الماضية، أزمة جعلت الطوابير الطويلة في محطات الوقود سمة من سمات شوارع ومناظر المدينة. تفاقمت أزمة الوقود؛ إذ كلما قدت سيارتي في طريقي للعمل رأيت الطوابير الطويلة من السيارات المصطفة في انتظار الحصول على الوقود وأتساءل متى سيأتي دوري. جاء ذلك اليوم؛ ورأيت الضوء الأصفر الذي ينذر بقرب نفاذ الوقود في سيارتي، وجاء دوري لأقف في تلك الطوابير.
تحدثت مساء الأحد مع صديقتين لي -شيماء وصفاء- ووافقتا على الذهاب معي. كان لدينا خياران: الوقوف في الطابور والانتظار لشراء الوقود بالسعر الرسمي، أي حوالي 10 دولارات لكل 20 لتر، أو الثاني وهو الشراء من السوق السوداء ودفع ضعف هذا السعر. عادةً ما يتم غش الوقود المُباع في السوق السوداء بمكونات أخرى يمكن أن تلحق أضرارًا بالغة بالسيارة، وبالتالي قررنا الانتظار في الطابور. في صنعاء، هذا يعني أنه علينا الذهاب إلى محطة الوقود الخاصة بالنساء والتي تقع في شارع فج عطان.
التقيت أنا وشيماء وصفاء في كافيتريا لتناول الإفطار صباح الاثنين، نفس المكان الذي كنا نأكل فيه عندما كنا طالبات في الجامعة، لذلك بدأنا يومها بتذكر الأيام الأفضل التي عشناها قبل الحرب. كانت الساعة قد بلغت السابعة وخمسة وأربعين دقيقة صباحًا عند وصولنا إلى محطة الوقود، ووجدنا أمامنا طابورًا طويلًا من السيارات المنتظرة تحت شمس الصيف. توجب علينا أخذ انعطافة طويلة للوصول إلى نهاية الطابور الذي كان طويلًا لدرجة أننا لم نكن حتى نستطيع رؤية محطة الوقود.
كانت السيارات تتحرك ببطء وبشكل غير منتظم، وكلما توقف الخط انضمت إليَّ صديقاتي في سيارتي لنتبادل أطراف الحديث وتمضية الوقت إذ لم نر بعضنا منذ بدء الأزمة الناتجة عن جائحة كورونا. وعندما كانت السيارات تتحرك أمامنا، كانت شيماء تقفز من سيارتي وتركض نحو سيارتها. كان الوقت مبكرًا، وكنا لا زلنا مستمتعين بوقتنا.
كان الأطفال والرجال يسيرون بين طابور السيارات، ويبيعون الماء البارد، والعلكة، والمكسرات، والتوابل، والبيض المسلوق، وكذلك أكواب الشاي العدني. اكتشفت لاحقًا أن بعض المطاعم تقدم خدمة توصيل مجانية للسائقين المنتظرين خارج محطات الوقود في صنعاء.
في صباح ذلك الاثنين، وزع شاب كوبونات تخفيضات لغسيل السيارات في شركة كار كير، وهي شركة تديرها امرأة. بحلول الساعة الحادية عشرة صباحًا، لم نكن قد وصلنا إلى المحطة، بل والأسوأ من ذلك أننا لم نتمكن بعد من رؤيتها. كنت أشعر بالإحباط وضايقتني حرارة الصيف. استسلمت صفاء وغادرت كي تذهب إلى عملها. كان مكيف سيارتي معطلًا. حتى لو لم يكن معطلًا لما تمكنت من استخدامه لأنه قد يستنفد الوقود المتبقي في السيارة.
بعد الساعة الحادية عشرة صباحًا بقليل، كنت قد وصلت تقريبًا إلى المنعطف الذي يمكنني منه رؤية محطة الوقود من بعيد. كانت تلك اللحظة التي بدأ فيها عمال المحطة في الشارع بإبلاغ النساء في الطابور بأن المحطة قد أغلقت وستفتح أبوابها عند الثالثة. قفزت من سيارتي، وانضممت إلى نساء أخريات خرجن من سياراتهن لنعرب عن غضبنا من هذا الخبر، وطالبنا ببقاء المحطة مفتوحة. لماذا تغلقون المحطة الآن ونحن ننتظر لساعات منذ الصباح؟ قال لنا حراس المحطة إن السلطات أمرت بالعمل ساعات محدودة فقط من أجل توفير الوقود. محطة بنزين توفر الوقود؟ يا له من أمر غريب!
لم يتحرك أحد من مكانه، وقررنا ترك سياراتنا في الطابور حتى إعادة فتح المحطة. قررت أنا وشيماء العودة إلى المنزل في هذه الأثناء، وحاولنا العثور على سيارة أجرة لإيصالنا، وهو ما سيكلفنا ضعف السعر المعتاد، لكننا لم نتمكن من العثور على سيارة أجرة. من حسن حظنا أن أختي كانت في الجوار وقامت بإيصالنا. في الساعة الثانية وخمسة وأربعين دقيقة ظهرًا عدت أنا وشيماء لسياراتنا في الطابور على أمل الانتهاء من هذا اليوم الطويل.
بحلول الساعة الثالثة عصرًا، وعندما كنت أوشك أخيرًا على الوصول إلى المحطة، رأيت عدة محاولات لقطع الطابور، فقد كانت هناك امرأتان تحاولان الدخول بسياراتهما إلى المحطة. عرضت نساء أخريات على حراس المركز رشاوى صغيرة للسماح لهن بالمرور. ورأيت أن جميع النساء اللواتي كن ينتظرن في الطابور كن لا يسمحن لأي من اللواتي وصلن للتو بالمرور. قمت بهز رأسي نحو النساء اللواتي حاولن دفع الرشاوى، وأخذت أفكر “هذه عينة من الأنانيين التي تدمر بلادنا”.
بعد عشر دقائق، كنت عند بوابة محطة الوقود، وكان عليَّ الانتظار لخمس دقائق أخرى حتى تنتهي السيارات التي أمامي. لم يكن مسموحًا سوى بتعبئة 40 لترًا فقط من الوقود بسبب نقص الكميات. بعد ذلك، فتح لي أحد حراس المركز بوابة الدخول وتوجهت عبرها إلى مضخات الوقود الأربع الموجودة في المحطة شاعرة بإنجاز عظيم.
اقتربت امرأتان من سيارتي، إحداهن تلتقط صورًا للجزء الأمامي والخلفي من سيارتي، في حين سلمتني الأخرى قطعة صغيرة من الورق، تنص هذه الورقة على أنه لا يمكنني العودة إلى محطة الوقود هذه لمدة أربعة أيام، وذلك لكون بعض الناس يقومون بشفط الوقود من سياراتهم بعد تعبئتها وبيعه في السوق السوداء مقابل ضعف السعر. ضحكت وأخبرت المرأة أنه ليس لديها ما يدعو للقلق، فمن المستحيل أن أعود للوقوف في هذا الطابور في أي وقت قريب!
وصلت أخيرًا إلى مضخة الوقود وأوقفت سيارتي، وكان الرجل على وشك البدء في ضخ الوقود إلى خزان سيارتي، عندما اقترب منه طفل صغير يحمل زجاجة مياه بلاستيكية فارغة. كان الطفل يحاول إقناع الرجل بملء القنينة التي يحملها لأن منزل عائلته بلا كهرباء منذ عدة أيام بسبب نفاد الوقود من المولد. أخبر الصبي الرجل أن أخاه الأصغر يخاف من الظلام.
سأله إذا كان سيأخذ الوقود ليبيعه، وأقسم الولد الصغير أنه لن يفعل هذا.
ملأ الرجل قنينة الصبي بسرعة، ثم أعطاني الولد الزجاجة وسألني إن كان بإمكاني تهريبها خارج المحطة. كانت المنطقة مليئة بالحراس، وسيقع في مشكلة إن قُبض عليه وهي بحوزته. اعتذرت للفتى وقلت له أني لا أستطيع مساعدته.
أخبر الرجل الواقف عند المضخة الصبي بأن يخفي القنينة تحت قميصه ويخرج من المحطة بأسرع ما يمكن. تلفت الصبي يمينًا ويسارًا، وركض مثل الريح. شعرت بالارتياح عندما رأيته يهرب من المحطة دون أن يمسك أحد به. كانت رغبة الرجل الواقف عند المضخة في المخاطرة لمساعدة الصبي لحظة ثمينة تعبر عن الرحمة والتضامن في مدينتنا المحاصرة.
بدأ الرجل بملء خزان الوقود في سيارتي، وبغضون لحظات، شاهدت الإشارة الصفراء تختفي ومقياس الوقود عند أعلى مستوياته. اتصلت بزوجي لإبلاغه بإنجاز المهمة. وشعر بارتياح: يمكن أن يستغرق الانتظار في طوابير محطات الرجال ما يصل إلى يومين ويكون فيها عادة خمسة طوابير من السيارات، وتشهد فترات الانتظار بعض المشاكل وإطلاق نار إذ ليس من الغريب أن تحدث شجارات في الطوابير.
مر عام تقريبًا، وما زالت شوارع صنعاء تشهد هذه الطوابير، وما زالت المدينة تعاني من نقص الوقود ووجود السوق السوداء، بل وأصبحت طوابير الانتظار أطول والمعاناة أكبر. كل يوم أقود سيارتي للعمل في شوارع صنعاء، وأشعر بالأسف لكل سيارة تقف في طوابير محطات الوقود، وأخشى الأيام عندما يأتي دوري للوقوف مثلهم. يبدو الأمر كقتال من أجل الحصول على الضروريات الأساسية هنا. يا له من عبء.