قبل اندلاع الصراع الحالي كانت احتياجات التنمية في اليمن هائلة.[1] وأدى تصاعد الحرب عام 2015 إلى تفاقم العديد من أوجه القصور في النظام والبنية التحتية الموجودة مسبقًا في البلاد. وهذا يجعل اليمن هدفًا رئيسيًّا للمساعدة الإنمائية الدولية في الوقت الحاضر بشكل عام وضمن أي سيناريو لمرحلة ما بعد الصراع على وجه الخصوص. لكن النوايا الحسنة والمال غير كافيين لضمان قبول مشاريع التنمية -حتى تلك التي تُعتبر البلاد في أمس الحاجة إليها- ونجاحها في المجتمعات التي يُفترض أن تستفيد منها.
فيما يلي حكاية تحذيرية من مدينة الغيضة، عاصمة المهرة، وهي محافظة تقع أقصى شرقي اليمن. واستنادًا إلى مقابلات مع مسؤولين محليين وسكان وفاعلين في القطاع الخاص، تسرد هذه المقالة قصة مشروع لتركيب نظام صرف صحي وإنشاء محطة معالجة في المدينة بتمويل أجنبي، وكيف تعثر وأُجهض في نهاية المطاف. وفي حين أن الديناميكيات المحددة للمساعدة التنموية تختلف حسب المشروع المخطط له والمنطقة المعنية به، إلا أن الدرس العام المستفاد من هذا المثال قابل للتطبيق على نطاق واسع: المشاريع التنموية التي تفشل في الحصول على تأييد ومشاركة محلية هادفة، ستواجه -على الأرجح- مقاومة وتفشل.
أُجري آخر تعداد سكاني في اليمن عام 2004، وبحسب هذا التعداد، بلغ عدد سكان المهرة أقل بقليل من 90 ألف نسمة وتُوقع أن ينمو بمعدل 4.5% سنويًّا.[2] غالبية سكان المحافظة، آنذاك والآن، يعيشون في مدينة الغيضة، عاصمة المحافظة، وحولها. بمرور الوقت، أدى تزايد عدد السكان إلى التركيز بشكل متزايد على حقيقة أن المدينة لا تملك وسيلة متكاملة للتخلص من مياه الصرف الصحي. في أحسن الأحوال، تملك بعض المباني في المدينة أنظمة صرف صحي خاصة بها مدفونة في باطن الأرض، وأسوئها يتم التخلص من المياه في حفر مفتوحة. أما بالنسبة لخدمات الصيانة، فهي محدودة لكليهما.[3]
أدت الكمية المتزايدة لمياه الصرف الصحي التي تُضخ في الأرض، إلى جانب هطول أمطار غزيرة دورية والفيضانات، إلى تدفق مياه الصرف الصحي بشكل منتظم على أسطح الأرض في المناطق السكنية والتجارية بالمدينة، الأمر الذي لوث مصادر المياه النظيفة وأصبح خطرًا على الصحة العامة، فضلًا عن كونه أمرًا مزعجًا للغاية بالنسبة للسكان المحليين.[4] خلال الصراع المستمر، شهدت المهرة، نتيجة الاستقرار النسبي وموقعها البعيد عن خطوط المواجهة، تدفقًا سريعًا للسكان إلى المحافظة من أجزاء أخرى من اليمن، يقدر عددهم بمئات الآلاف.[5] وبطبيعة الحال، استقرت الكثير من العائلات وأُنشئت المزيد من الأعمال التجارية في الغيضة وما حولها، ما أدى إلى تفاقم مشاكل الصرف الصحي في المدينة.
عام 2006 في مؤتمر المانحين بلندن، تعهدت عُمان بـ 100 مليون دولار لمشاريع تنموية في اليمن عبر الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي ووزارة التخطيط والتعاون الدولي اليمنية.[6] كان من المقرر صرف أموال المنحة على مراحل والتركيز بشكل خاص على التنمية الاقتصادية للمنطقة الحدودية بين البلدين.[7] عام 2014، وعبر هذه المنحة، كان يُفترض البدء بتنفيذ عدة مشاريع في المهرة، بما في ذلك مشروع يتعلق بالصرف الصحي في الغيضة.[8] جاء ذلك بعد متابعة حثيثة من قِبل محافظ المحافظة السابق علي محمد خودم.[9] في 23 فبراير/شباط 2014، وُقع العقد بين مشروع المدن الحضرية التابع لوزارة المياه والبيئة وشركة عبدالعزيز التام للتجارة والمقاولات ومقرها صنعاء.[10] حضر التوقيع أيضًا الشركة المصرية الاستشارية للمشروع، المهندسون الاستشاريون العرب -محرم باخوم.[11]
كان من المقرر أن يشمل المشروع محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي ونظام أنابيب للصرف الصحي تغطي 80 كيلومترًا[12] على أن تمتد الأنابيب في عدة أحياء من المدينة -لا سيما مناطق بن حجلة وبن غونة وكلشات والنهضة -على الرغم من أن المشروع لم يكن بأي حال من الأحوال مخصصًا لخدمة جميع سكان الغيضة.
بدأ المشروع في 26 مايو/أيار 2014[13] وبدأت مؤسسة عبدالعزيز التام في التنفيذ بناءً على تقييم وخطة مشروع من إعداد شركة استشارية أردنية، وهي مركز الاستشارات الهندسية سجدي.[14] شمل العمل حفر ومد الأنابيب وربطها، فضلًا عن تركيب فتحات وغرف تفتيش صغيرة على مسافات محددة للأنابيب.[15] ولكن العمل توقف في يونيو/حزيران 2015 عندما طلبت مؤسسة التام إلغاء العقد بسبب تهديدات ضد الشركة من قِبل مقاولين محليين يبحثون عن أعمال واحتجاجات على الموقع المخطط لإنشاء محطة معالجة مياه الصرف الصحي.[16] في مايو/أيار 2016، وافق الصندوق العربي على طلب فسخ العقد، وتم تصفية المشروع.[17]
كان هناك نقص واضح في التشاور مع المجتمعات المحلية في مرحلتي التصميم والتنفيذ، فضلًا عن عدم إشراكها في كلا المرحلتين. على سبيل المثال، دعت الخطط التي وضعتها الشركة الاستشارية الأردنية إلى أن تكون محطة المعالجة على بعد 700 متر تقريبًا من الشحوح، وهي منطقة سكنية على الطرف الشرقي من مدينة الغيضة تقطنها حوالي 50 أسرة. في معظم أيام المهرة، تأتي الرياح من اتجاه البحر، مما قد يدفع الروائح من أحواض معالجة مياه الصرف الصحي المكشوفة بالمحطة إلى الشحوح. احتج سكان المنطقة وطالبوا بنقل المعمل إلى منطقة أكثر ملاءمة، مهددين السلطات المحلية بمحاربة المشروع الجاري تنفيذه.[18]
الشريك المنفذ، مؤسسة عبدالعزيز التام، مركزها صنعاء، على بعد حوالي 1,200 كيلومتر. وعلى الرغم من أنها شركة يمنية، إلا أنها لم تمتلك المعرفة الكافية في المنطقة وافتقدت إلى شبكات في المجتمعات المحلية. سرعان ما بدأت العديد من الشركات المحلية بالشكوى من تجاهل مؤسسة التام لها في التعاقد معها في مختلف جوانب المشروع الفرعية، مثل توريد المواد وتأمين العمالة والمعدات.[19] كما طالب العديد من سكان الأحياء -حيث يُنفذ المشروع -بتوظيفهم كعمال بالأجر اليومي.[20] وبينما عملت مؤسسة التام مع بعض الشركات المحلية، كان الشعور على أرض الواقع أن الشركة تعاملت مع الموقف دون اعتبار للمجتمع المحلي.[21]
لعبت العلاقات الإقليمية في اليمن دورًا أيضًا. كانت المهرة جزءًا من اليمن الجنوبي السابق، ولا يثق الجنوبيون عمومًا في المصالح التجارية الشمالية في مناطقهم. هذا الشعور نابع من تهميشهم اقتصاديًّا بعد توحيد شمال اليمن وجنوبه عام 1990، وما تلاه من حرب أهلية بين الشمال والجنوب عام 1994. ونظرًا لأنها لم تشرك الشركات والمجتمعات المحلية، صُنفت شركة التام كتهديد خارجي، وبالتالي، لم يُنظر إليها على أنها تعمل لصالح السكان المحليين.[22] قالت مؤسسة التام إن بعض موظفيها تعرضوا للتهديد الجسدي نتيجة هذه المظالم المحلية، وإنها طالبت السلطات المحلية مرارًا توفير حراسة أمنية أثناء تنفيذ المشروع، لكن السلطات لم تستجب.[23]
تعرقل تنفيذ مشروع الصرف الصحي بسبب تجاهل المخاوف المحلية والمركزية المفرطة في صنع القرار، وهو أسلوب حُكم استخدمه الرئيس السابق علي عبدالله صالح على نطاق واسع خلال السنوات التي قضاها في منصبه، واستمر أيضًا في عهد خليفته، الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي. لم تُمنح السلطات المحلية في المهرة سلطة الإشراف المباشر على المشروع.[24] اتُخذ القرار، بما في ذلك التخطيط وإجراء المناقصات للمشروع، على مستوى الوزارة في الحكومة المركزية، ما يعني أن عملية صنع القرار لم تستجب للواقع المحلي وكان من الصعب على الشركات في المهرة الفوز بالعقود.[25] كما جرى التعامل مع قرارات مؤسسة التام خلال مرحلة التنفيذ من صنعاء. في غضون ذلك، كانت عُمان، التي موّلت المشروع عبر الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، منفصلة عن التطورات على أرض الواقع ولم يكن لديها آليات لضمان الشفافية والمساءلة أمام السكان المحليين.
عزز الافتقار إلى المشاركة المحلية والمساءلة الصورة السلبية للمشروع في الغيضة وخلق مآزق كان من الممكن أن تتوقعها وتتغلب عليها الشركات المحلية وصناع القرار الذين يتمتعون بخبرة على أرض الواقع، ويمتلكون شبكات في المجتمعات المحلية.
كان لفشل المشروع عواقب طويلة المدى على الغيضة، حيث لم تصلح الشركة المنفذة، مؤسسة التام، الأضرار التي لحقت بالطرق أثناء عملية الحفر التي ما تزال قائمة حتى اليوم. كما أدى فشل المشروع لاسترجاع الأموال إلى الجهة المموّلة بعد فسخ العقد.[26]
المهرة حاليًّا لا تشبه المهرة عام 2008 حين أُعدت الدراسات والخطط الخاصة بمشروع الصرف الصحي. على سبيل المثال، نما عدد سكان المهرة بشكل ملحوظ منذ ذلك الحين -ربما بأكثر من ثلاثة أضعاف، وفقًا لبعض التقديرات.[27] ونتيجة لذلك، ازدهر سوق العقارات والاقتصاد بشكل عام. ورغم أن هذا إيجابي للمنطقة ظاهريًّا، إلا أن التدفق السريع للسكان إلى مدينة تفتقر إلى شبكة مجاري مناسبة ومنشأة لمعالجة النفايات سيؤدي إلى تضخم المشاكل المرتبطة بالتخلص من مياه الصرف الصحي.
يتطلب إعادة تشغيل المشروع بشكل أساسي البدء من جديد والتعلم من أخطاء الماضي. يجب أن تُشرك السلطات المحلية على مستوى تقديم المدخلات والإشراف فيما يتعلق بأي دراسة جديدة، وأن تُشمل خطط جديدة تأخذ في الاعتبار زيادة عدد السكان، وإيجاد موقع جديد لمنشأة معالجة مياه الصرف الصحي، مع مراعاة مشاركة الشركات المحلية بعناية لتسهيل قبول المشروع. كما يجب أن يضمن المانحون الذين سيمولون مشروعًا من هذا النوع آليات الاستخدام الشفاف للأموال والمساءلة عن نتائج المشروع لأولئك الذين يفترض أن يخدمهم المشروع.