احتجاج الجدران

منذ سنوات وأنا أرسم على جدران صنعاء. أطلقت أول حملة فنية “كاريكاتير الشارع” عام 2012 حين كنت طالبًا في الثانوية. كنت أدخر من مصروفي الخاص لأرسم في الشارع وأعبر عن رأيي وأعكس ما يقوم به شباب ثورات الربيع العربي. سلطت هذه الجداريات الضوء على العديد من القضايا، مثل السياسة، وجرائم تنظيم القاعدة، والمجاعة، والرقابة، والتي تؤثر عليّ بشكل مباشر كفرد في المجتمع وكفنان. 

ومع الوقت، ألفت أناملي الفرشاة حتى أصبحت أصبعًا سادسًا في يدي. وأدمنت رائحة الألوان. كنت أقف لساعات أرسم بيد مثقلة الحلم بحرية التعبير والتغيير. كل لون يعني لي الكثير. الخطوط والنقاط والحركات كلها شكلت وعيي أكثر بأهمية الفن وكيف أعكس الواقع في الجداريات.

 

مؤتمر الحوار الوطني

في بداية عام 2014، بدأ المارة يتوقفون ليسألوني ماذا أرسم؟ كنت أجيب بحماس المبتدئ: أعبر عن نفسي بالكاريكاتير عن انطلاق مؤتمر الحوار الوطني الشامل، عملية الانتقال التي بدأت العام الماضي عقب الثورة. كانت رسوماتي حلمًا لحل مشاكل اليمن العالقة منذ عقود. اعتقد البعض أن الجدارية مثلت نظرة تشاؤمية، إذ تنبأت بفشل الحوار من خلال متابعتي للوضع حينذاك. كان المجتمع الدولي يتعامل مع تلك المرحلة في اليمن بطريقة مستهترة ومتسرعة حيث تجاهل الصراع الذي كان يحدث خارج قاعات المؤتمر. 

 

جرعة فن وحياة

بعد أن اقتحم الحوثيون صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014، أطلقت حملة فنية واجتماعية جديدة في الشارع اسميتها “فن وحياة” بهدف توطيد السلم المجتمعي حيث رسمت واحدًا وعشرين وجهًا لأبرز المطربين اليمنيين، لتكريمهم وتكريم إرثهم الفني والثقافي. رسمت الصور أولًا على ورق ثم باللون الأسود على الجدران. تجمع الكثير من الأصدقاء والمارة وساعدوني في تلوين الوجوه بألوان الفن والحياة. كانت ضحكاتنا تتعالى في الشارع ونحن نوثق مرحلة فنية مهمة في تاريخ اليمن المعاصر. كان كرنفال ألوان يحتفل بتلك الشخصيات التي ما تزال تطربنا حتى يومنا هذا. أصوات هؤلاء المطربين جزء لا يتجزأ من الذاكرة المجتمعية والتراث الثقافي لليمنيين سواء في الحقول أو المناطق الريفية أو شوارع المدينة. شعرت أن من واجبي كفنان أن أوثق هذا الأمر الذي نفتخر به والذي يجب حمايته ونشره في كل مكان. 

 

ثورة سلمية على الجدران

ولاحقًا في ديسمبر/كانون الأول 2014، رسمت جداريات في شارع القيادة توثق شعارات ومطالب الشباب المدنية. لهذه الشعارات قيمة سوف تظل موجودة رغم تغيرات الوضع السياسي في البلاد. كانت خيام وساحات الثورة قد أصبحت خالية، ولكن هذه الجداريات كانت بمثابة توثيق للاحتجاجات السلمية التي غيرت اليمن. وكنت أقول حينها: “إذا صمت صوت الشباب في الشارع فسوف تظل الجدران تتحدث”. وما زلت أؤمن بذلك. كانت حملة “كاريكاتير الشارع” شاهدة على الوضع منذ عام 2012 وحتى سبتمبر/أيلول 2014، مرحلة اتسمت بمشاركة الشباب في الكثير من المجالات وحرية الرأي والتعبير.

 

يمن جديد “مقسم”

شعرت بالمسؤولية الملقاة على عاتقي منذ استيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014. ولم يكن الحوثيون هم الأمر الوحيد الذي أثار مخاوفي خلال تلك الفترة. خرجت قبل أسبوعين من انطلاق عاصفة الحزم في مارس/آذار 2015 لرسم جداريات في شارع السبعين عن موضوع التدخلات الخارجية في اليمن. رسمت شخصيتين باردتين تحركان قطعتي شطرنج على الرقعة التي رسمتها على شكل خريطة اليمن ومقسّمة إلى مربعات. ولم أكن أعلم حينها أني كنت اتنبأ بتدخل خارجي جديد سيمزق بلدي.

 

جفت الصحف ووضعت الألوان

توقفت لفترة عن الرسم، ولم أعد أعرف كيف استأنف نشاطي الفني. ففي الأشهر الأولى من شن عملية عاصفة الحزم، أصبحت صنعاء مدينة أشباح. الشوارع مهجورة. والناس خائفين. كان الصمت أكثر ما يثير بي الرعب. لم يعد هناك مساحة للفن أو للحياة بعد أن دارت رحى الحرب. بدت القضايا التي كنت أرسم عنها هامشية أمام القضايا الأخرى كالمجاعة والنزوح والموت المستمر. تغيرت الحياة اليومية من كل النواحي. لم تعد المدينة متسامحة مع أي صحف أو آراء مخالفة لجماعة الحوثيين. 

وكما تختار الحرب ضحاياها، تختار أيضًا تجارها. وكنت أتساءل كيف يمكنني كرسام أن أحافظ على سطوع ألواني وألّا أغرق في اليأس أو الكراهية. كيف يمكنني أن استمر بالرسم استنادًا إلى شعاري بأن الفن جزء من حياتي اليومية؟ كيف سأتمكن من تجسيد المعاناة الإنسانية التي أصابتنا؟ 

كنت أتساءل أحيانًا كيف أرسم والناس يتضورون جوعًا وسألت نفسي هل سيشكل فني أي فارق؟ لم أعرف الجواب، ولكنني كنت أعرف أنه يجب عليَّ أن أرسم وأوثق ما أراه. أخذت أفكر كيف استأنف الرسم. بما أن كل الصحف كانت قد مُنعت في صنعاء، قررت إعادة إنتاج الجريدة وتحويلها إلى ملصق احتجاجي. بحثت عن الجرائد في الأكشاك والمحال التي اعتادت بيع الصحف إلى أن وجدت جرائد صالحة لأعيد استخدامها كأقمشة رسم لفني. 

عندما بدأت الرسم لأول مرة، كان هدفي أن أخرج للشارع لأعبر عن رأيي واستمتع بالرسم. أما اليوم، فعندما أخرج للشارع، أخبئ الألوان في حقيبتي وينتابني الخوف من أن يتم اعتراضي. اليمن مليء بأحداث وجرائم وقصص يجب ألا ينساها العالم. الفن واجب. يجب أن أوثق ما أعيشه. كل لحظة أعيشها أشعر بوجوب توثيقها للمستقبل. يومًا ما ستنتهي الحرب. قد تعود الجدران لما كانت عليه وسينسى العالم ما مررنا به وعشناه. أتمنى أن تبقى هذه الجداريات وغيرها من الأعمال الفنية لتحكي ما عانيناه نتيجة هذه الحرب وسط صمت العالم.