افتتاحية مركز صنعاء
قيل فيما مضى أن اليمن هي مقبرة الغزاة، أو مقبرة الأناضول، وتثبت اليمن اليوم أنها الأرض التي تئد التحالفات العسكرية الأجنبية أيضاً. عندما أرسلت السعودية والإمارات قواتهما المسلحة في مهمة تدخُّل إقليمية إلى اليمن، لم يخطر ببال الدولتين أن هذه المهمة ستدوم أكثر من بضعة أسابيع، ولمَ عساها أن تدوم أكثر من ذلك، ودولتان من أغنى دول العالم تتمتعان بدعم أقوى الدول الغربية هما من قرّرا شن حرب في إحدى أفقر دول العالم!! كان هذا التحالف يرمي بحسب ما هو معلن إلى إعادة الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً إلى السلطة بعد أن قامت جماعة الحوثيين (أنصار الله)، بالاستيلاء على العاصمة صنعاء في انقلاب عسكري.
دارت عجلة الزمن أكثر من أربع سنوات أخرى، وها قد انقلبت الرياض وأبو ظبي على بعضهما البعض، بعد أن دخلتا الحرب اليمنية على قلب واحد، في حرب باتت اليوم حرباً بالوكالة بين حلفاء الأمس. في شهر أغسطس / آب الماضي تحديداً، شهدت الأراضي اليمنية انقلاباً آخر على نفس الحكومة اليمنية، هذه المرة على أيدي الجماعات المحلية المدعومة إماراتياً في العاصمة اليمنية المؤقتة عدن، وقصفت الطائرات الإماراتية قوات الحكومة اليمنية المدعومة سعودياً.
مما لا شك فيه أن القادة الحوثيين والإيرانيين، باعتبار إيران الداعم الإقليمي للحوثيين، مسرورون للغاية بهذه التطورات الجديدة. فأعداؤهما على الساحة اليمنية غارقون في اقتتالات دامية، وبكسرهم لصفوف تحالفاتهم، تقوَّض الهدف الأساسي من وجودهم في اليمن. فقد أصبحت الشرعية التي تستند إليها الحكومة اليمنية أكثر ركاكة من أي وقت مضى، بعد خسارتها لعاصمتها صنعاء، ثم لعاصمتها المؤقتة عدن. وفي المقابل، لم يعد بإمكان المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم من الإمارات، أن يقدم نفسه على أنه الجهة الممثلة لـ”الجنوبين” بعد قيام قواته بإجلاء الحكومة من عدن، وذلك بعد صد قوات محلية والقوات الحكومية الأخرى لزحف المجلس الجنوبي الانتقالي شرقي العاصمة المؤقتة، وتحديدا في محافظة شبوة.
لا يعني ذلك أن قضية الجنوب ليست قضية عادلة، فالوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب عام 1990، والحرب الأهلية عام 1994، وعقود الظلم التي أعقبت ذلك، كل ذلك خلف وراءه جروحاً مفتوحة لم يكن من المستغرب أن تغذي طموحات الجنوبيين باستعادة استقلالهم. ولكن زعماء القضية الجنوبية التقليديين – وكثيرون منهم عاشوا في زمن الجنوب الماركسي – خسروا أحقيتهم الأخلاقية في أغسطس / آب عندما تعاموا عن هاني بن بريك، القيادي المتشدد والشرس، وهو يطهر عدن من الشماليين ويتصدر حركة التمكين الجنوبي.
بن بريك هو سلفي متطرف، يهوى تأجيج الأحقاد الطائفية بشكل ينافس فيه قاسم الريمي، أمير تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وعبد الملك الحوثي، زعيم الحوثيين. إن قوات الحزام الأمني، المدعومة من الإمارات وحليفة المجلس الجنوبي الانتقالي، هي وقياداتها المؤلفة من عدد من الرموز بعضهم من التيارات السلفية، وعلى رأسهم هاني بن بريك، تواجه اتهامات جادة وحقيقية بحسب تقرير خبراء الأمم المتحدة، حيث أقدمت على عمليات خطف وتعذيب وابتزاز وقتل، وعلى إدارة سجون سرية وتنفيذ عمليات اغتيال متعددة في المدينة.
اللواء منير اليافعي، الشهير بكنيته (أبو اليمامة)، وأكثر من 30 جنديا آخر، لقوا جميعاً مصرعهم في هجوم تبنته قوات الحوثيين – باستخدام الصواريخ أو طائرات مسيرة – استهدف معسكر الجلاء بعدن في الأول من أغسطس / آب الماضي. رداً على ذاك الهجوم، قاد بن بريك حملات تطهير استهدفت الشماليين في عدن تخللها ضرب البعض في الطرقات، وإغلاق المحال التجارية، وجمع الشماليين بأعداد كبيرة وإجلاؤهم قسراً في شاحنات نقل بضائع. قاد بن بريك أيضاً، بعد إقامة مراسم الجنازة، هجوماً مسلحاً لطرد الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً من عدن وغيرها من مناطق الجنوب.
الجدير ذكره أن رجال بن بريك كانوا مسلحين بأسلحة أمريكية الصنع ويحظون بدعم سياسي من شركات ضغط غربية مثل Independent Diplomat وQuatro، وكل ذلك كان ممكناً فقط بفضل الدعم المالي الإماراتي. فدعم أبو ظبي لبن بريك وغيره من الشخصيات اليمنية المتطرفة – مثل الزعيم الميليشاوي أبو العباس في تعز، والذي وضعته وزارة الخزانة الأميركية على قائمة الداعمين للإرهاب – يعكس مقاربة الإمارات المجردة من أي مبادئ للحرب اليمنية والمستخفة بالسيادة اليمنية أيضا. ولكن لو أمكن الحديث من منظور واقعي بحت، فقد نجحت أبو ظبي على الأقل في تمكين جهات محلية تملك فرصة وإرادة لتحقيق أهدافها، بصرف النظر عن البعد الأخلاقي أو القانوني لهذه الأهداف. من جهة أخرى كانت الرياض تراهن بكل ما تملك على أحد أكثر رجال الدولة فساداً وعجزاً في التاريخ الحديث – الرئيس اليمني عبد ربه منصور.
لقد تمثلت المقاربة النمطية للقيادة السعودية فيما يتعلق بحل المشاكل – أي مشكلة- بإغراق المشكلة بالمال حتى تختفي. لكن بغض النظر عن مليارات الدولارات التي صرفتها السعودية على قصف اليمن، لا بد أن يكون واضحاً دون لبس أن ذلك يشبه إلقاء النقود من على حافة هاوية بهدف ملء المحيط. ولعل الرئيس اليمني كان في صلب فشل سياسة الصرف والقصف هذه. ليس هادي من يكسب الكمية الأكبر من المال جرّاء هذه الحرب – وهو أبعد ما يكون عن ذلك – غير أنه يمسك بتلابيب سلطة اتخاذ القرار الأعلى في اليمن، ومع ذلك فهو كصاحب قرار نظريا، عاجز عن اتخاذ القرارات التي تخدم قضيته. ولا شيء أدل على غياب القيادة العليا عن مواطنيها، مثل صمت هادي طوال شهر أغسطس / آب، ولا شيء رسم معالم الانحلال اليمني منذ 2012 أكثر من هذا الغياب، عندما تسلم هادي منصب الرئاسة بعد انتخابات لم ينافسه فيها أحد ولعبت الرياض دوراً كبيراً في ترتيبها. وبالفعل كان لقرار هادي عزل عدد من كبار القيادات الجنوبية من حكومته أن عجّل بتشكيل المجلس الجنوبي الانتقالي عام 2017. ولا شيء أدل على سوء تدبير الرياض من قرارها ربط مصيرها، منذ سبع سنوات وحتى الآن، بمصير هادي.
لقد جاء شهر أغسطس / آب ليقوّض السردية السعودية، ومعها الأسس القانونية التي ارتكز عليها تدخلها في اليمن، وقد ذكر قرار مجلس الأمن 2216 الذي تم تبنيه في أبريل / نيسان 2015 طلب الحكومة اليمنية العون من دول الخليج لإعادتها إلى السلطة، وزعم التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات أن هذه الوثيقة تمنح الشرعية القانونية لتدخله العسكري في اليمن. هذه المزاعم لم تعد معقولة الآن، فالإمارات تدعم جبهة عسكرية معادية للحكومة اليمنية، ولعل في أفعال الإمارات أيضاً انتهاكاً للمادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة، والذي يمنع استعمال القوة في دولة أخرى ما لم يتم ذلك برضا هذه الدولة، أو لم يتم بتصريح من مجلس الأمن، أو لم يكن بهدف الدفاع عن النفس. وهكذا تحول مشهد الحرب في اليمن اليوم إلى حرب ثلاثية الجوانب: الحوثيون، الحكومة اليمنية المدعومة سعودياً، والمجلس الجنوبي الانتقالي المدعوم إماراتياً، في حرب (الكل ضد الجميع). وبناء على ذلك، ثمة حاجة ملحّة لقرار من مجلس الأمن ليستوعب الواقع الحالي.
إضافة إلى دماء اليمنيين، سالت دماء الأخوة ( الرياض وأبو ظبي) على التراب اليمني، وقد كانتا فيما مضى أقرب إلى أخوين أكبر وأصغر، فلا المال ضمن لهما انتصاراً سريعاً، ولا هو بعد أكثر من أربع سنوات فعل شيئا لليمنيين، سوى حفر المزيد من القبور لهم.
ظهرت هذه الافتتاحية في منشور: انشطار الجنوب – تقرير اليمن، أغسطس/ آب 2019
افتتاحيات مركز صنعاء السابقة:
- يوليو / تموز 2019: التناحر على المهرة
- يونيو / حزيران 2019: الحرب بالريموت
- مايو / أيار 2019: الحوثيون كجماعة مظلِمة
- ابريل / نيسان 2019: صراع البرلمانات اليمنية
- مارس / آذار 2019: “عاصفة الترحيل” السعودية
- فبراير / شباط 2019: الإغاثة كاعتذار
- تقرير اليمن السنوي 2018: ما بعد الهاوية
- نوفمبر / تشرين الثاني 2018: المستفيدون من حرب اليمن هم المعرقلون المحتملون لعملية السلام
- أكتوبر / تشرين الأول 2018: الصعود السياسي والعسكري لحزب الإصلاح في تعز
- سبتمبر / ايلول 2018: مجاعة محتملة ولا بنك مركزي فعال يحمي الريال اليمني