إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

عقدان من التحولات: خروج الحوثيين من الظل

Read this in English

عندما انبثق الحوثيون لأول مرة عن حركة “الشباب المؤمن” عام 2004، لم يكن أحد يتصور أن هذه الجماعة الصغيرة من المتمردين المحليين الذين يقاتلون بأسلحة تقليدية، ستتطور لتصبح قوة عسكرية وسياسية ذات نفوذ يمتد عبر المشهد الإقليمي والدولي، لكن تطور الحوثيين لم يقتصر على التوسع الجغرافي أو تعزيز القدرات العسكرية، بل شمل تحولات أعمق في هيكلهم التنظيمي وأنظمتهم الإدارية واستراتيجياتهم السياسية.

دفع الإزعاج والتهديد المتزايد الذي شكله الحوثيون مؤخراً إدارة الرئيس الأمريكي ترامب، إلى الإعلان عن أول عملية عسكرية خارجية، وتوسعت الغارات الجوية ضد الجماعة بشكل كبير منتصف مارس 2025، ومارس هو نفسه الشهر الذي شنت فيه قوات التحالف بقيادة السعودية عملية “عاصفة الحزم” ضد الحوثيين عام 2015، أي أن عشر سنوات بالضبط قد مرت على بدء الصراع. لم تضعف العملية السعودية الحوثيين كما كان متوقعاً، بل على العكس فقد عززت دون قصد من قوة الجماعة وتبلورها في شكلها الحالي. هذا يثير تساؤلات حول فعالية العملية الأمريكية، خاصة أنها تبدو معتمدة على استراتيجية الضربات الجوية فقط.

هناك العديد من الأحداث والتطورات طويلة الأمد، حولت الحوثيين من جماعة محلية صغيرة في جبال صعدة إلى تهديد دولي وإقليمي، وقصتهم ليست مجرد قصة متسلسلة لصعود عسكري لجماعة مسلحة، بل هي لغز سياسي وعسكري وأيديولوجي معقد. رافق خروج الحوثيين من الظل تحولات رئيسية مكنتهم من التطور إلى قوة عسكرية تهدد العالم وتشغله، ويُعد فهم هذه التحولات أمراً حيوياً لمن يأمل في توقع المسار المستقبلي للجماعة.

التحولات العسكرية والأمنية

خضع الحوثيون لتحولات عديدة على مر السنين، كان أهمها على الأرجح تطوير قدراتهم العسكرية واستراتيجياتهم القتالية إلى وضع أقوى بكثير من بداياتهم المتواضعة. في بداية عملياتهم العسكرية، اعتمد الحوثيون على تكتيكات حرب العصابات باستخدام الأسلحة الخفيفة إلى المتوسطة، أما اليوم فيمتلكون ترسانة عسكرية متطورة تتضمن طائرات بدون طيار وصواريخ بالستية وأسلحة بحرية، وقد مكنهم ذلك من التحول من تكتيكات حرب العصابات، إلى أساليب هجينة تمزج بين تقنيات القتال البسيطة والتقليدية والقدرات والاستراتيجيات المتطورة، مما يمنحهم نفوذاً عسكرياً بعيد المدى يسمح لهم بممارسة نفوذ ولعب دور أوسع في المنطقة.

طور الحوثيون إلى جانب تطورهم العسكري قدرات أمنية واستراتيجيات ميدانية متخصصة، مكنتهم من التكيف مع التحديات الأمنية والضغوط الاستخباراتية المحيطة بهم، كما حسّنوا أساليبهم في إخفاء أصولهم العسكرية، وتأمين تحركات قيادتهم، والحفاظ على خطوط الإمداد، والتخفيف من أضرار وتأثير الغارات الجوية، ويبدو أن هذه التكتيكات تتطور باستمرار.

التحولات السياسية والإدارية

عمل الحوثيون أيضاً على تطوير مجموعة من الاستراتيجيات السياسية والإدارية في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، فأعادوا هيكلة المؤسسات الحكومية المتمركزة في العاصمة صنعاء، وتشكيل الأطر الإدارية والحكومية لتتماشى مع رؤيتهم السياسية وتوجهاتهم الأيديولوجية. على الصعيد الاقتصادي، عزز الحوثيون إيراداتهم من خلال تطوير آليات ضريبية وجمركية جديدة، ويقطن غالبية سكان اليمن في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، وقد ساعدت هذه الإيرادات في ترسيخ وجودهم.

تمكن الحوثيون من صقل خطابهم السياسي أيضا، فخلال الأيام التي سبقت استيلائهم على صنعاء، كانت رواية الجماعة متجذرة في ادعاء مظالم كإحياء الطائفة الزيدية بعد عقود من التهميش، وفساد الحكومة، وارتفاع أسعار الوقود، أما الآن فيقدمون أنفسهم للسكان المحليين والجمهور الخارجي على أنهم حركة مقاومة تواجه التدخلات الأجنبية، ويدمجون في خطابهم السياسي والإعلامي شعارات تركز على السيادة الوطنية ومعارضة العدوان الخارجي. كما استغلوا القضايا الإقليمية، مثل القضية الفلسطينية، لتعزيز خطاب المقاومة وتوسيع قاعدتهم.

التوسع الأيديولوجي والثقافي

على الصعيدين الأيديولوجي والثقافي، نجح الحوثيون في توسيع قاعدتهم على مر السنين. في البداية، كان المتحالفون أيديولوجياً مع الحوثيين مجموعة صغيرة، لكن نفوذهم الثقافي نما بعد توسعهم محلياً وسيطرتهم على صنعاء في سبتمبر 2014، حيث استخدم الحوثيون أساليب مختلفة لتوسيع نطاق نفوذهم، بما في ذلك الخطاب الديني في المساجد، وارسال “مشرفين ثقافيين” إلى المؤسسات التعليمية والمرافق العامة والمجتمعات المحلية المتنوعة، ودمج أفكارهم في المناهج الدراسية، والترويج للأحداث الدينية والاحتفالات الجديدة في مناطقهم.

أدت هذه التكتيكات إلى توسيع المجال الثقافي للحوثيين، ونشر المفاهيم والأفكار التي يتبنونها في المجتمع اليمني، وقد روجوا لأيديولوجيتهم باستخدام شعارات دينية وقومية، مستغلين التضامن المجتمعي الذي يولده هذا الخطاب، كما استغلوا الرفض الواسع للسياسات الغربية في المنطقة لصالحهم.

من الجوانب الحاسمة الأخرى للتحولات المستمرة التي يشهدها الحوثيون، تراكم خبرتهم في التفاوض والمناورة السياسية، مما مكنهم من إدارة القضايا الحساسة مع الأطراف الدولية والإقليمية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة. انعكست هذه الخبرة في قدرتهم على التوصل إلى اتفاقات سياسية معقدة، مثل اتفاق ستوكهولم، الذي حافظوا من خلاله على سيطرتهم الفعلية على الحديدة وموانئها. كما أظهرت الجماعة درجة من المرونة في قضايا أخرى، مثل تبادل الأسرى وحصار تعز وإعادة فتح الطرق، التي كانت محورية في جهود الوساطة الدولية التي قادتها الأمم المتحدة. مما لا شك فيه أن الحوثيين لم يمتلكوا مثل هذه البراعة التفاوضية في البداية، ومن المرجح أنهم استفادوا جزئياً من خبرة حليفهتم (إيران)، التي تتمتع بخبرة واسعة في إدارة العلاقات مع المجتمع الدولي والتفاوض على مسارات متعددة.

معضلة دائمة

على الرغم من التحولات والتطورات الديناميكية التي شهدها الحوثيون على مر السنين، والتقدم الملحوظ الذي أحرزوه في مختلف المجالات العسكرية والسياسية والإدارية والدبلوماسية، فإن التحديات التي تواجه حكمهم لا تزال مستمرة وحقيقية. رغم نجاحهم في التحول من حركة معارضة محلية إلى لاعب إقليمي مؤثر، إلا أن هذا التوسع لا يضمن استمرارهم في الحكم إذا استمروا في نهجهم الحالي.

من أبرز التحديات التي تواجه الحوثيين عزلهم الدولي المتزايد، لا سيما مع تصعيد العقوبات الغربية، وتزايد الشكوك حول التوصل إلى تسوية تفاوضية للتهديد الحوثي، حيث يضيق هذا العزل من هامش المناورة المتاح لهم على الساحة السياسية، ويضعهم في مواجهة مستمرة مع القوى الإقليمية والدولية. بالإضافة إلى ذلك، تؤثر الظروف الاقتصادية والإنسانية المتدهورة في المناطق التي يسيطرون عليها على الحياة اليومية للسكان، وتقوض الدعم الشعبي لهم، وفي حين أن الشعارات الثورية قد تحشد الجماهير، إلا أن الواقع القاسي للحياة يشكل تحديًا مستمرًا للحوثيين، فالشعارات في النهاية لا تشتري الخبز.

أضف إلى ذلك أن الحوثيين يعانون من هشاشة استراتيجية، نتيجة اعتمادهم الشديد على الدعم الإيراني، حيث قد يؤدي أي تغيير في السياسة الإيرانية، سواء بسبب التطورات الداخلية في إيران أو التغيرات في الديناميات الإقليمية، إلى خفض المساعدات العسكرية والمالية المقدمة لهم، مما يخلق ضعفًا استراتيجيًا يهدد استقرارهم على المدى الطويل.

على الصعيد العسكري، تشكل الضربات الجوية الأمريكية تهديدًا إضافيًا، وعلى الرغم من أن الحوثيين طوروا استراتيجيات لتقليل تأثيرها، فإن مثل هذا الضغط قد يؤدي إلى تدهور قدراتهم الدفاعية بشكل كبير، وإلى خسائر فادحة بين قادتهم الميدانيين. علاوة على ذلك، فإنها تعزز عزم القوى الإقليمية والدولية التي تسعى إلى الحد من نفوذهم في المنطقة.

يمثل صعود الحوثيين من مجموعة صغيرة في جبال صعدة إلى تهديد دولي لغزًا معقدًا يمزج بين النجاحات العسكرية والسياسية والتحديات المستمرة، فقد أظهر الحوثيون قدرة استثنائية على التكيف والتطور – سواء من خلال ترسانتهم العسكرية أو هياكلهم الإدارية أو خطابهم الأيديولوجي – لكنهم يواجهون الآن ضغوطًا متزايدة قد تعرض موقفهم للخطر. هل ستكفي الضربات الجوية لاحتوائهم عسكرياً وحماية الملاحة الدولية والمصالح الإقليمية؟ أم أن الحل يكمن في وضع نُهُج أعمق تتجاوز الخيارات العسكرية المطروحة حالياً؟ سيخبرنا الزمن، لكن الكثير يعتمد على قدرة الحوثيين على مواجهة الضغوط المتزايدة ضد حكمهم.


هذا التحليل جزء من سلسلة من المنشورات الصادرة عن مركز صنعاء، بتمويل من حكومة مملكة هولندا، وتستكشف هذه السلسلة قضايا متعددة في الاقتصاد والسياسة والبيئة، بهدف إثراء مناقشات وصياغة السياسات التي تعزز السلام المستدام في اليمن، ولا يجب أن تُفسر أية آراء معبر عنها في هذه المنشورات على أنها تمثل مركز صنعاء أو الحكومة الهولندية.

مشاركة