يوافق يوم 27 أبريل/نيسان، الذكرى الثالثة عشرة لوفاة الأكاديمية اليمنية البارزة د/ رؤوفة حسن، إحدى الشخصيات الريادية في العمل الأكاديمي والنسوي في تاريخ اليمن. فقد أسست عام 1993 أول وحدة لدراسات المرأة في جامعة صنعاء، والتي أُطلق عليها فيما بعد مسمى “مركز البحوث التطبيقية والدراسات النسوية”[1]. ما أن أمسك المركز البحثي براية الريادة في عصره، حتى تلطخت سمعته بين اليمنيين بعد أن أصبح هدفاً للتيار الديني المحافظ، وأضحت د/ رؤوفة مستهدفة من قبل هذا التيار الذي شن عليها وعلى المركز حملات تحريضية مكثفة ذات صبغة دينية، الأمر الذي دفعها إلى مغادرة اليمن والعيش في الخارج لعدة سنوات[2].
لا تزال أسئلة مريرة تُطرح داخل الأوساط الأكاديمية في اليمن بعد مرور ثلاثين عاماً على تأسيس المركز: هل تغير أي شيء في الواقع الذي تعانيه الأكاديميات في اليمن؟ وماذا عن مستقبل مراكز الدراسات النسوية في البلاد؟
بالرغم من عراقة التاريخ الثقافي لليمن، لا تزال التقاليد الجامعية المعاصرة تتلمس خطواتها الأولى في البلد؛ ولم تتجذر بعد في عمق المجتمع اليمني وثقافة أفراده. تأسست جامعة صنعاء عام 1970، وأُفتُتحت جامعة عدن عام 1975[3]، في حين أُنشئت جامعات أخرى، مثل جامعة أبين، في أواخر عام 2018. مع ذلك، وقعت هذه الجامعات في براثن تحديات الوضع الراهن، لا سيما فيما يتعلق بتمكين المرأة وإشراكها في صنع القرار. وقد فرض هذا الواقع ضغطًا كبيرًا على الأكاديميات، حيث تصطدم النساء في اليمن عمومًا بأعراف اجتماعية صارمة تحد من مشاركتهن في الحياة العامة، مثل إلزامهن بعدم الاختلاط بالرجال.
لو كان الوضع السياسي والاقتصادي في اليمن أكثر استقراراً خلال العقود التي تلت افتتاح أول جامعة، ربما كان من الممكن أن تحظى المرأة اليمنية بفرصة أفضل للتغلب على تلك التحديات، ولتعزّزت مشاركتها في الحياة العامة. إلاّ أن مسارها تعرقل كثيرًا على مدار حقب الأنظمة الاستبدادية التي حكمت اليمن في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فضلاً عن الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1994، وانتشار أيديولوجيات التيار الديني المحافظ. فخلال عهد الرئيس السابق علي عبد الله صالح، على وجه التحديد، مُنحت القوى والشخصيات الدينية المحافظة حرية تشكيل معالم المناهج التعليمية، وصياغة المزاج العام بالبلاد. من جهة أخرى، أدت الحرب الحالية وما نتج عنها من تفكك اليمن إلى مناطق تحكمها عدة سلطات بحكم الأمر الواقع إلى تفاقم المشكلات التي تواجهها المرأة، بما في ذلك مشكلاتها على مستوى قطاع التعليم.
تشهد جامعة صنعاء – وهي أكبر الجامعات اليمنية – تفاوتا هائلا بين عدد الأكاديميين والأكاديميات، وخاصة في المناصب العليا. بحسب دراسة أجراها مركز أبحاث ودراسات النوع الاجتماعي والتنمية التابع للجامعة عام 2023[4]، هناك 12 أستاذة فقط مقابل 211 أستاذاً جامعيا، و 59 أستاذة مشاركة مقابل 326 أستاذاً مشاركاً، و126 أستاذة مساعدة مقابل 521 أستاذا مساعدا.
يستمر التفاوت على مستويات أخرى، حيث لا يضم مجلس الجامعة المكون من 32 عضوًا أي نساء على الإطلاق؛ وتوجد امرأة واحدة فقط في كل من المجلس الأكاديمي، ومجلس الدراسات العليا، ولجنة شؤون الموظفين، ومجلس شؤون الطلاب[5]. ويظهر هذا النمط بشكل واضح وبنسب متشابهة للغاية في الجامعات اليمنية الأخرى: ففي جامعة أبين، يضم مجلس الجامعة امرأتين مقابل 30 رجلاً، مع غياب تام للنساء في مناصب عمداء الكليات ومدراء العموم[6]. أوضحت د. ندى شفيق، مديرة مركز المرأة للدراسات والبحوث بجامعة أبين أن عدم الاستقرار السياسي في البلاد أدى إلى استحواذ الرجال على مناصب صنع القرار بشكل كامل[7]، وأن النظرة السائدة في المجتمع اليمني ترى المرأة غير قادرة على تحمل المسؤوليات المرتبطة بالمناصب العليا، ما يعرقل الطريق أمام الأكاديميات نحو تقدمهن وارتقائهن وظيفيًا.
تتسائل د. ندى شفيق، مدير عام مركز المرأة بجامعة أبين: “من أين سيأتي الكادر النسائي الأكاديمي إذا كانت الفتيات لا يكملن تعليمهن؟“
لإعداد هذه المقالة، عُقدت مقابلات مع عشر أكاديميات يمنيات ووُجه إليهن سؤال عن بعض التحديات الرئيسية التي يواجهنها وغيرهن من النساء في مجال التعليم العالي في اليمن. تشغل المشاركات في المقابلة مجموعة من المناصب المختلفة، بدءً من عمداء كليات وحتى أساتذة مساعدين وأعضاء في هيئات التدريس، وينتمين إلى جامعات في محافظات مختلفة، كصنعاء وعدن وتعز وحضرموت والمهرة وذمار وأبين.
رأت معظم المشاركات أن الحرب بما خلفته من تحديات وصعوبات هي المعيق الرئيسي في هذا السياق. أشارت د. أنجيلا المعمري، أستاذ مساعد الصحة النفسية ورئيسة قسم علم النفس بجامعة تعز، إلى حالة الإحباط والشعور باليأس في مواجهة تأثير الصراع على البيئة الأكاديمية في اليمن وتراجع مستوى التعليم الجامعي[8]. ورأت د. إشراق الحكيمي، عميدة مركز بحوث ودراسات تنمية المرأة بجامعة تعز، أن الحرب قد ألحقت ضررًا كبيرًا بالبنية التحتية التعليمية، حيث تعرضت المواد والأجهزة اللازمة للتدريس إلى النهب والسرقة، في حين تفتقر العديد من القاعات الدراسية والمباني الجامعية إلى الإضاءة الكافية ودورات المياه. كما نوهت إلى عدم وجود استراحة خاصة للأكاديميات في جامعة تعز[9]. من جهتها، قالت د. سميرة خويطر، عضو هيئة التدريس بكلية التربية بجامعة المهرة[10]، أن العديد من المعلمين أصبح تركيزهم ينصب الآن على مساعدة كل من الطلاب وزملائهم في التعامل مع ظروف الحرب العصيبة.
التفاني في خدمة الآخرين يحفز الكثيرين على المثابرة والاستمرار؛ ولكن أضحى المضي قدمًا في قطاع التعليم أو تطلع إحداهن لتقلد منصب أكاديمي، دربًا وعراً نظرًا للمصاعب والقيود الاقتصادية المضنية التي تشل اليمن بأسره. مثل جميع الموظفين العموميين في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، لا يتقاضى الأكاديميون في جامعة صنعاء رواتبهم بشكل منتظم، وقد أشارت إحدى الأكاديميات التي كانت تنتمي سابقًا إلى جامعة صنعاء إلى أن بعض زميلاتها كن المعيلات الرئيسيات لأسرهن، وبانقطاع الرواتب فقدت هذه الأسر مصدر دخلها الوحيد[11].
في المناطق الواقعة خارج سيطرة الحوثيين، لم تعد الرواتب تغطي احتياجات المواطنين من الضروريات الأساسية مع انخفاض قيمة الريال اليمني، حيث أشارت د. رخصانة إسماعيل، مديرة مركز العلوم والتكنولوجيا بجامعة عدن، إلى أن راتبها الشهري الذي كان يعادل فيما مضى حوالي 1000 دولار أمريكي، أصبح يعادل حالياً نحو 225 دولارا أمريكيا فقط[12]. من جانبها، ذكرت د. هدى باعلوي، مدير مركز دراسات المرأة بجامعة عدن، أن الأزمة الاقتصادية خلقت أيضا أجواءً محبطة وبيئة من شأنها حتمًا أن تؤثر سلبًا على جودة التعليم والخدمات الأكاديمية[13].
رغم تأثر جميع الأكاديميين بالأزمة الاقتصادية، إلا أن بعض التحديات تنعكس حصرًا على النساء بشكل خاص، حيث أصبح السفر خارج البلاد غير مُمكن بالنسبة للأكاديميات، مع عدم قدرة الجامعات على تحمل تكاليف تذاكر الطيران والنفقات المرتبطة بالمشاركة في فعاليات أو تدريبات خارج البلاد[14]. إلا أن هذا الوضع كان قائماً حتى قبل الحرب، حيث كان الأكاديميون يستأثرون بفرص حضور الفعاليات والتدريبات خارج البلاد بشكل أساسي[15]، وتشير أكاديمية تشغل منصب أستاذ مساعد بجامعة ذمار إلى حقيقة أن “الرجال لديهم مساحة أكبر للتحرك من تلك التي لدى النساء”[16]. وينطبق هذا التحيز أيضًا على المنح الدراسية؛ ففي حين قد تحصل الأكاديميات على منح دراسية داخلية لاستكمال الدراسات العليا، إلا أنه نادراً ما يحصلن على منح دراسية في الخارج. وحسب تقدير د. ندى شفيق من جامعة أبين، تحصل الطالبات الإناث على منحة واحدة فقط من كل عشر منح دراسية، بينما تكون باقي المنح من نصيب الطلاب الذكور.
يُلقي هذا الواقع بظلاله على أبعاد وجوانب عديدة؛ إذ أن الأعراف المجتمعية والأسرية لا تقيد حرية حركة المرأة في اليمن فحسب، بل تقوض أيضًا حقها في ممارسة مهنتها. فقد أدى تردي الأحوال الأمنية إلى زيادة خطورة السفر والتنقل لاسيما للنساء، فضلا عن التهديد بحملات تشهير وتحريض ضد النساء وتشويه سمعتهن وسط مجتمعاتهن، ورقميًا عبر الابتزاز الإلكتروني بصوره المختلفة[17]. بالإضافة إلى ذلك، ازداد الاستقطاب السياسي خلال الصراع، حيث أظهرت المقابلات مع نساء من جامعات في تعز وصنعاء إلى أن الانتماء الحزبي كان له دور مهم في فترة ما قبل الحرب، بل وكان يعتبر غالباً هو العامل الأساسي الذي يُحدد أسماء من يحصلون على ترقيات أو فرص بعينها. وقد تفاقم هذا الوضع الآن، حيث لم تعد الانقسامات سياسية فحسب، بل أصبحت أيضاً مناطقية وأحياناً طائفية.
في ضوء ما سبق ذكره، من المهم الإشارة إلى تجربة مراكز الدراسات المرأة التي أُنشئت في الجامعات بهدف تعزيز المعرفة حول ديناميكيات النوع الاجتماعي والتجارب التي تمر بها المرأة اليمنية. فقد أدت حملات التحريض وتشويه السمعة التي شُنت ضد د. رؤوفة حسن في التسعينيات إلى إغلاق مركز البحوث التطبيقية والدراسات النسوية بجامعة صنعاء ودفعتها إلى مغادرة البلاد[18]. وبعد مرور ثلاثين عاماً، لا يوجد أي تغيير يذكر في سياق مبادرات المساواة بين الجنسين في اليمن، والتي غالباً ما يعتبرها أفراد المجتمع الأكثر محافظة مخالفة للقيم الإسلامية المحلية وتشجيعا على الانحلال الأخلاقي. ولا يزال هذا الخطاب المتعصب، الذي يقوده غالبًا رجال الدين والأكاديميون والسياسيون من التيار الديني المحافظ، يغذي الحملات التحريضية على نطاق واسع.
تعرضت د. إشراق الحكيمي، عميدة مركز بحوث ودراسات تنمية المرأة في جامعة تعز، للهجوم بعد موافقة الجامعة على إدراج قضايا تنمية المرأة في إطار النوع الاجتماعي ضمن برامج الدراسات العليا عام 2023[19].
ذكرت د.الحكيمي أن الحملة قد تصاعدت مع استحداث وحدة حماية المرأة في المركز عام 2024، [20] والتي أُنشئت بغرض مكافحة كافة أشكال العنف والتمييز في الجامعة وحماية النساء والفتيات منها[21]. وأضافت أن رجال الدين اليمنيين ممن ينتمون للتيار الديني المحافظ قد أصدروا بيانات تحريضية في المساجد ضد أنشطة المركز، زاعمين أن وحدة حماية المرأة في المركز تشكل اعتداء على القيم والمبادئ الإسلامية، وأن هذا لا يليق بجامعة تعز باعتبارها مؤسسة تعليمية في بلد مسلم. [22]
جدير بالذكر في هذا السياق، أن مركز دراسات المرأة بجامعة عدن لا يزال يؤدي مهامه منذ أكثر من 23 عاماً. وتشير د. هدى باعلوي، مديرة المركز، إلى أن البيئة التعليمية في عدن لا تزال مواتية نسبياً مقارنة بغيرها من البيئات الأخرى في اليمن[23]. ويقدم المركز برنامجًا خاصًا بدرجة الماجستير، ويشكل الذكور أكثر من 25% من طلابه. ومع ذلك، ذكرت باعلوي أن المركز “تجنب الخوض في أي نقاشات فكرية حول مفهوم النوع الاجتماعي لتجنب اللغط الثقافي”، مضيفة أن هذا المفهوم لا يزال ملتبسًا لدى الكثيرين.[24]
بشكل عام، هناك رؤى متضاربة بشأن النظرة المستقبلية لوضع المرأة في الأوساط الأكاديمية باليمن، حيث كان للبعض نظرة أكثر تفاؤلًا عن البعض الآخر. مثلاً، يُسلط سكان المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين مرارًا وتكرارًا الضوء على ما تعانيه المرأة اليمنية من فرض إجراءات تقييدية ضدها بوجه عام، ما يعرقل حياة الأكاديميات ويجعل مسارهن الوظيفي أكثر صعوبة. وكان للاشتراطات المستحدثة – مثل ضرورة وجود محرم لكي تستطيع المرأة السفر – فضلا عن العنف الموجه ضد أي آراء ناقدة في المجال العام، دور واضح في تراجع مشاركة المرأة بشكل عام في المجال الأكاديمي بصنعاء.
في أبين، أشارت المشاركات في المقابلة إلى وطأة الحرب وتأثيرها السلبي على ديناميكيات النوع الاجتماعي، ما أدى إلى انسحاب المرأة من المجال العام، بينما نوّهت بعضهن إلى انتشار ظاهرة الاستقطاب السياسي الحاد والتحريض من جانب الجماعات الدينية المحافظة والمتشددة في تعز.
على الرغم من التقاليد المحافظة اجتماعيًا المرتبطة عادة بمحافظة حضرموت، أعربت د. فتحية باحشوان، مديرة مركز الدراسات الإنسانية والاجتماعية بجامعة حضرموت[25]، عن شعورها بالتفاؤل: “الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وعلى العكس، ساهمت في خروج النساء إلى العمل أكثر من قبل، وأكثر المعينات حديثا كمتعاقدات في سلك التدريس هن نساء من المعيدات، والطالبات صرن يكملن دراسات عليا أكثر من قبل ونظرة البنات والأهل إلى التعليم تغيرت وهذا لم يتنافَ مع العادات والتقاليد المحلية”.[26]
أشارت أكاديميات أخريات إلى أن التغييرات التي أحدثها الصراع أتاحت للنساء فرصة لكسر القيود المفروضة سابقًا – غالبًا بدعم الذكور من الأقارب أو الزملاء – وأصبحن رائدات وقدوات للنساء والفتيات في مجتمعاتهن. كما أشارت أستاذة مساعدة في جامعة ذمار إلى زيادة التمثيل النسائي في الجامعة: “لدينا عميدة لكلية الطب، وعميدة (لكلية) العلوم الإدارية، وكثير من النساء أعضاء هيئة تدريس والكثير منهن (يتولين مناصب) في الجانب الإداري”.[27]
تبعث هذه الرؤى التفاؤلية من قبل الأكاديميات اليمنيات المشاركات في المقابلة الأمل، كونها تأتي في ظل دولة هشة تغلغل فيها العنف وضرب بمختلف صوره كل جوانب الحياة بها، لاسيما العنف ضد المرأة.
في النهاية، يبرهن نضال النساء وإنجازاتهن في الأوساط الأكاديمية على مدى قوة المرأة اليمينة وقدرتها بشكل عام على شق طريقها بنفسها، وكسر الحواجز التي تواجهها الواحد تلو الآخر بصبر و عزمٍ، برغم كل الشدائد والصعوبات.
إن هذا الأمر مؤثر بالفعل، لا سيما بعد موجة الاعتقالات الأخيرة في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون وتنامي الشعور بالقلق بين اليمنيين بشأن ما يحمله المستقبل.[28]
هذا التعليق هو جزء من سلسلة منشورات لمركز صنعاء تحت مبادرة “منتدى سلام اليمن” الساعية إلى تمكين الجيل القادم من الشباب اليمني والجهات الفاعلة في المجتمع المدني وإشراكهم في القضايا الوطنية الحرجة.