مقدمة
الحرب كفعل هي ضدٌّ طبيعيٌّ تدمر كل ما هو مدني داخل المجتمع، حيث تدفع بالاقتصاد إلى شفا الانهيار، وبالأنظمة السياسية إلى حالة من التشظي، وتُلغي حقوق الإنسان بالمجمل، وعلى رأسها حقوق المرأة التي تجد نفسها ضمن الفئة الأكثر تجرداً من تلك الحقوق في الحرب التي يشهدها اليمن.
على مدى عقود، حققت الحركات النسوية في اليمن اختراقات كبيرة، فبعد استقلال جنوب اليمن عام 1967، برزت الرابطة النسوية كواحدة من أوائل حراك المجتمع المدني التي نظمت نفسها، وكان لها تأثير كبير على رسم سياسة الدولة الفتيّة آنذاك. أسهمت النساء في صياغة تعميمات قانونية ترفع الحدّ الأدنى لسن الزواج، وتشترط أخذ موافقة المرأة قبل الزواج، وتحمي المرأة من العنف الأسري، وتكفل حقها في طلب الطلاق، وتمنح المرأة المطلقة تلقائيا حضانة أطفالها. بحلول عام 1990 تم دمج برلمان شطري اليمن ، ليضم عضوية 11 امرأة ، وتنامت فرص التعليم والعمل المتاحة للمرأة في مختلف أنحاء اليمن. لكن رغم ما حققته المرأة اليمنية من إنجازات كبيرة خلال فترات الاستقرار النسبي من ستينيات القرن العشرين وحتى انقلاب الحوثيين في عام 2014، قوّض الصراع كل التقدم المحرز، وكشف عن هشاشة هذه الإنجازات.
تؤثر الحرب بشكل مباشر وغير مباشر على كل شرائح المجتمع باختلاف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، حيث تنال كل شريحة نصيبها من الضرر حسب موقعها في السلم الاجتماعي والاقتصادي. تعاني النساء أسفل السلم (ذوات الخلفيات الاجتماعية أو الاقتصادية المتواضعة) من أوجه تمييز متعددة، مما يضاعف من معاناتهن خلال الحرب. ورغم أن النساء يشكلن أقل من 50 في المائة من سكان اليمن، فإن نسبة 80 في المائة من النازحين داخليا هم من النساء والأطفال. على مدى سنوات، تذيّل اليمن قائمة البلدان المراعية لحقوق المرأة، حيث صُنف ضمن المراتب الأخيرة في مؤشر الفجوة العالمية بين الجنسين للمنتدى الاقتصادي العالمي.
لكن ما يبعث على القلق هو قلة الاهتمام بتراجع الحقوق المدنية للمرأة والتي تكاد تفوق آفة اللامساواة بين الجنسين سوءاً، حيث تُقابل عملية تجريف الحيز المدني لصالح عسكرة المجتمع بردود فعل باردة من قبل الجهات الفاعلة المحلية والدولية. تشمل بعض التغيرات الجذرية التي برزت في المشهد اليمني تغييب النساء عن الفضاء العام، واستبعادهن بهدوء عن قطاع العمل، وغياب الصحافة المستقلة ، والتضييق على منظمات المجتمع المدني. كل هذه التغيرات تمر مرور الكرام دون أن يقابلها غضب شعبي.
عوضا عن ذلك، يتلحّف الخطاب العام في اليمن بغطاء فضيلة المجتمع عبر التشكيك في النساء وقمعهن علناً، ما يجعل أي عنف قائم على النوع الاجتماعي مبرراً، وأي اعتراضات لنفي المرأة من الحياة الاجتماعية مسكوتاً عنه خوفاً من العار أو الفضيحة، فيما يتم استغلال النساء والفتيات ويتعرضن للابتزاز والعنف الجسدي والنفسي والجنسي من قبل الرجال، في سبيل العيش في بلد تآكلت فيه سبل كسب العيش، بما في ذلك المرتبات وفرص العمل.
تبرز الممارسات القمعية جلياً في المناطق التي تسيطر عليها جماعة الحوثيين (حركة أنصار الله) بقرارات وممارسات رسمية وغير رسمية تهدف إلى إلغاء دور المرأة في الفضاء الثقافي والفكري وقطاع العمل، وفي أقصى الحالات حصر دورها بين جدران المنزل. من جهة أخرى، يتجلى ضعف واضح في قدرة الحكومة المعترف بها دولياً على الالتزام بقوانين ودستور البلاد، ناهيك عن رفع المستوى المعيشي بما يتماشى مع الاتفاقيات والمعايير الدولية لحقوق المرأة. كما يوجد غياب شبه كامل للبرامج المتعلقة بحماية النساء والفتيات في أجندات منظمات الاغاثة الدولية والمحلية.
المرأة.. جسد متخاصم مع السياسة
تتنوع وجهات نظر الجهات الفاعلة السياسية في اليمن حول معظم القضايا، لكنها وللمفارقة تتفق على إهمال حقوق المرأة والتغاضي عن حمايتها، مما عزز من أشكال الإساءة التي تتعرض لها النساء باستمرار. في حين يدعو البعض إلى إصلاحات ويرفعون ظاهريا راية المساواة بين الجنسين، يغضون الطرف عن الانتهاكات الحاصلة في حقوق المرأة. تعرضت النساء اليمنيات منذ عام 2014 للقتل والتعذيب والاختفاء والاعتداء الجسدي والاعتقال التعسفي، وتقييد حركتهن، واستبعادهن من المناصب العامة، في ظل تطبيق سياسات الفصل بين الجنسين على مستوى غير مسبوق، الأمر الذي يعكس تواطؤ جميع الجماعات التي تُمارس السلطة في اليمن في إهمال حمايتهن.
شهدت جميع مناطق اليمن تحوّلا في الخطاب الديني، حيث تركز الرسائل الموجهة من منابر المساجد على ضرورة كبح جماح النساء، وأنه في هذا الوقت العصيب، تثير أجساد النساء الرغبات، وبالتالي تمثل النساء غير المنضبطات “تهديدا خطيرا” للمجتمع.
في مناطق سيطرة الحوثيين تحديداً، يرتبط المذهب الديني ارتباطا وثيقا بسياسات السلطة، وهو ما دفع مجموعة من الناشطات والقيادات النسائية وموظفات في المؤسسات التي تتخذ من صنعاء مقراً لها إلى التوقيع على عريضة موجهة إلى رئيس حكومة صنعاء التي يديرها الحوثيون، عبد العزيز بن حبتور، يشتكين فيها من “حملة ممنهجة ضد النساء بهدف استبعادهن من الوظائف العامة، وتقييد أنشطتهن وعزلهن بطريقة لا ينبغي التسامح معها”.
تضمنت الرسالة جملة من المشكلات التي تتعرض لها النساء، ومنها: “تعميمات تظهر بين فترة وأخرى تقيد وتعيق حركة النساء، إما بطلب وجود مَحرم أو إجراءات ادارية تُعتبر معرقلة لسفر النساء”، و”رفع بعض الجهات (في صنعاء) رؤى تقضي بإلغاء قطاعات المرأة في بعض الوزارات بذريعة تقليص الهيكلة والتضخم الوظيفي”، وأن “خُطب الجمعة تركز على التحريض على النساء اليمنيات وتخويف الأهالي وتحذيرهم من دراستهن في الجامعة أو التحاقهن بالعمل أو الخوف على حشمتهن”، وبأن “الفصل بين الموظفات والموظفين في بعض المؤسسات والوزارات بذريعة منع الاختلاط والحرب الناعمة أعطى فرصة للكثير لإقصاء المرأة وتنحيتها عن العمل”. أغلب أولئك اللائي وقعن على الرسالة يعشن ويعملن في مناطق سيطرة الحوثيين وبعضهن من المقربات للجماعة، ولذلك فقد مورست عليهن ضغوطات لكي يشجبن الرسالة أو يغيرن موقفهن؛ غير أن بعضهن كن أكثر شجاعة وجرأة، ورفضن التخلي عن موقفهن الصريح من كل ما جاء في الرسالة، بل وطالبن بإيصالها إلى أعلى هيئة سياسية للجماعة، وهي المجلس السياسي الأعلى. ما ورد في الرسالة ليس جديداً وهي شكاوى قائمة منذ أمد؛ لكن أن توقعها قيادات نسوية محسوبة على جماعة الحوثيين نفسها هو ما جعل مراقبين يعتبرونها خطوة جريئة لا رجعة فيها.
من المهم الإشارة إلى أن هذه الممارسات تضاعفت بشكل ملحوظ بعد بضعة أشهر على تقديم العريضة، حيث ظهر زعيم جماعة الحوثيين، عبدالملك الحوثي في خطاب بُثّ على قناة المسيرة الناطقة باسم الجماعة، في تموز/ يوليو الماضي، ركز فيه على رؤية الجماعة لدور المرأة في المجتمع قائلا: إن “دور المرأة يقتصر في هذه الحياة على الحنان والرقة والعاطفة، وإذا كان لها من إسهام فيكون بما يتناسب مع خصوصياتها وظروفها”، في إشارة واضحة إلى التشدد في أن طبيعة وظيفة المرأة هي كربة منزل “حنونة” فقط حسب وصف الحوثي.
لم يمض على خطابه وقتاً طويلا حتى عادت الجماعة لممارسة سياسات تنتهك حقوق المرأة. ففي 31 يوليو/ تموز من العام 2023، أقالت إدارة جامعة صنعاء الأكاديمية الدكتورة سامية الأغبري، عن منصبها كرئيس لقسم الصحافة في كلية الإعلام واستبدلتها بزميلها الدكتور علي البريهي، على خلفية رفضها الصريح لسياسة جديدة للفصل بين الطالبات والطلاب في بعض الكليات الحكومية. وفي أواخر أغسطس/ آب، اتهمت عمادة كلية الشريعة والقانون إحدى طالباتها المناهضات للجماعة بالمثلية وتم فصلها نهائيا من الجامعة. لم يمض وقت طويل حتى أقدمت عمادة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة صنعاء بتاريخ 6 سبتمبر/ أيلول – وبدون تقديم مبررات – على إبعاد الأكاديميتن الدكتورة خديجة الهيصمي، والدكتورة أشواق مغلس وزميل لهن هو الدكتور علي الحاوري، من جدول المحاضرات واستبدالهم بمحاضرين غير مؤهلين من اختيار مسؤولين حوثيين ولا يمتلكون الدرجة الأكاديمية.
للأسف، وضع النساء في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً لا يختلف كثيراً عن وضعهن في مناطق سيطرة جماعة الحوثيين؛ ففي محافظة تعز الواقعة ضمن نفوذ الحكومة، قاد رجال دين وأكاديميون وسياسيون وناشطون متشددون في يونيو/ حزيران، حملة تحريض واسعة ضد جامعة تعز، على خلفية تبني مجلس الجامعة الحكومية قرارا بإدراج قضايا “تنمية المرأة في إطار النوع الاجتماعي” ضمن برنامج الدراسات العليا لنيل الماجستير. تزعم الحملة ضد جامعة تعز البرلماني عن حزب الإصلاح ورجل الدين المتشدد عبدالله العديني، الذي دعا إلى إغلاق مركز بحوث ودراسات تنمية المرأة بسبب تبنيه قضايا النوع الاجتماعي المتحررة، وهو ما يشجع -حسب زعمه- على “إباحة اللواط والزنا والشذوذ الجنسي، والانحلال الأخلاقي والتمرد الأسري” وقال إن تصويت مجلس الجامعة لصالح إدراج النوع الاجتماعي هو “جريمة عظمى، بل أبشع جريمة عرفها اليمن عبر تاريخه”. لم يتردد أبداً القيادي البارز في جماعة الحوثيين، محمد علي الحوثي، في التعبير عن تضامنه مع العديني – رجل الدين المنضوي في حزب الإصلاح (وظاهرياً العدو الأول لجماعة الحوثيين)، وتأييده للتصدي لما وصفه بالحرب الناعمة لاستهداف المجتمعات الإسلامية.
في ظل توجّه الاهتمام إلى سياسة المحارم المفروضة على تنقل المرأة في مناطق سيطرة الحوثيين، تتجلى في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة قيود وانتهاكات مشابهة إلا أنها لا تثير نفس المستوى من القلق. تقول الصحفية والناشطة وداد البدوي بأنه تم ايقافها في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 عند نقطة أمنية تديرها عناصر تابعة للحكومة في مأرب (في طريق عودتها إلى صنعاء) بذريعة عدم وجود مَحرم، رغم استصدارها تصريحاً وبلاغ دخول من سلطات صنعاء.
وفقاً لمنظمة “مساءلة” لحقوق الانسان، تعرضت إحدى موظفاتها للاحتجاز التعسفي في نقطة أمنية تابعة للسلطة المحلية الموالية للحكومة بمحافظة مأرب، وتم أخذ هاتفها وتفتيشها بأسلوب فظّ والتلفظ عليها بألفاظ سيئة. تواجه النساء مخاطر متزايدة من العنف والاحتجاز غير المبرر عند نقاط التفتيش، ويتيح الافتقار لأطر قانونية تحمي المرأة مساحة للسلطات للاستمرار في هكذا ممارسات مع الإفلات التام من العقاب. في سبتمبر/ أيلول 2021، داهمت الأجهزة الأمنية في مأرب منزلا واعتقلت الإعلامية والناشطة الحقوقية أمة الله الحمادي، التي كانت في ضيافة صديقتها؛ دون إصدار مذكرة قضائية. في غضون ذلك، تشترط سلطات الأمن في عدن على النساء النازلات في الفنادق وجود مَحرم أو إبراز رسالة من جهة العمل كشرط للإقامة، إلا أن هذه الممارسة تُعد غير رسمية وليست سياسة حكومية. وبحسب مسؤولين حكوميين، جرت محاولات للحد من هذه القيود حيث تم في أغسطس/ آب، اصدار توجيه رئاسي لمدير عام شرطة عدن بالتعميم لكافة الفنادق بالسماح للنساء بالإقامة بالفنادق دون قيد أو شرط، وبتقديم فقط الأوراق الثبوتية.
تراجع جهود منظمات المجتمع المدني
لطالما أعطت منظمات المجتمع المدني أولوية لقضايا المرأة، ولها سجل طويل وحافل في تسليط الضوء على الواقع. اتحدت مواقف منظمات المجتمع المدني في بداية الحرب لإصدار بيان يحذر من أن النساء والفتيات “يدفعن أفدح ثمن” للحرب في اليمن. حددت هذه المنظمات بادئ الأمر الطرق التي يمكن للمرأة أن تساهم بها في مبادرات بناء السلام، لا سيما في أدوار الوساطة. تستمر منظمات المجتمع المدني في رصد الانتهاكات ضد حقوق المرأة والدعوة إلى تسهيل لجوء المرأة إلى القضاء، وتعزيز أصوات النساء عبر وسائل الإعلام وداخل المجتمع، على المستويين الفردي والجماعي.
لكن مع استمرار الحرب، تزايد التضييق على نشاط منظمات المجتمع المدني، الأمر الذي دفع كثير من النشطاء والموظفين إلى الهروب خارج اليمن. أما الذين بقوا داخل اليمن فلم يكن أمامهم سوى إيقاف نشاطاتهم أو تغيير مجالات عملهم أو أن الذهاب للعمل في منظمات أخرى أقل عرضة للتهديد. فضلا عن ذلك، تأثرت كثير من برامج وأنشطة منظمات المجتمع المدني بقرارات المانحين تعليق دعمهم التمويلي وتوجيه معظم الدعم المالي نحو الأعمال الإغاثية، على حساب بقية البرامج المتعلقة بحقوق الإنسان.
هذه الظروف المهددة، إلى جانب ما تعرضت له النساء من انتهاكات خطيرة، دفع كثيرا من الناشطات إلى النأي بأنفسهن عن العمل الفردي أو المنظمات الفردية التي قد تكون عرضة للتهديد، وإنشاء عدد من التحالفات والشبكات وحاضنات اجتماعية والمبادرات النسوية في مجال بناء السلام؛ خصوصا وأن مثل هذه التحالفات قد تمثل عاملا مهما من عوامل الحماية الجماعية وهي بالفعل خطوة في الاتجاه الصحيح. رغم ذلك، لا تنتفي الحاجة الى حماية أكبر للناشطات والنساء بشكل عام.
الأمان في كثرة العدد: استعادة حقوق المرأة
تُعد منظمات المجتمع المدني في مقدمة الأطراف التي تناهض وتحارب قمع واضطهاد المرأة، وبالتالي يتعين على الجهات الفاعلة الأخرى في اليمن الحذو حذوها من خلال تطبيع إدماج ومشاركة المرأة في الفضاء العام. يتعين على منظمات – كالأمم المتحدة – إشراك النساء على طاولة المفاوضات وتوظيفهن في مكاتبها المحلية لا سيما في المناطق الريفية، كما يجب على المنظمات الدولية مواصلة الدعم المالي لمنظمات المجتمع المدني – لا سيما تلك المناصرة لحقوق المرأة – وحمايتها عبر تسليط الضوء على التضييق الحاصل ضدها وإدانة ذلك من أعلى مراكز صنع القرار فيها حين يتم استهداف تلك المنظمات. ومهما اتفقت سلطات طرفي الصراع على سياسات تُبقي النساء خاضعات، على المجتمع المدني داخل اليمن وفي جميع أنحاء العالم أن يتحد للنهوض بدور المرأة ومكانتها.
أي محاولات لقمع المرأة وإخضاعها من أي سلطة على طرفي النزاع يجب أن يُواجه بجبهة متحدة تضم المجتمع المدني داخل اليمن والمنظمات ذات الصلة خارجها للنهوض بها. تحقيق ذلك يتطلب أولا تكثيف الرقابة الدولية وتنظيم حوارات بناءة لتعزيز التوافق بين جميع الأطراف المعنية؛ مع ضرورة إشراك النساء في كافة هذه الجهود وإعمال حقوقها وتوفير الحماية القانونية الواجبة لها وتعزيز مكانتها المستحقة داخل المجتمع.
أُعدّت هذه المقالة كجزء من برنامج زمالة صوت النساء على طاولة القرار (دعم المشاركة السياسية للمرأة العربية)، الجاري تنفيذه من قِبل مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية بالشراكة مع مبادرة الإصلاح العربي وبتمويل من الاتحاد الأوروبي.