نبهان عبدالله بن نبهان
حين سيطر تنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب على المكلا عام 2015، افتتح شاب محلًا لبيع الوجبات السريعة في الحي الذي أقطن فيه. كان الإقبال عليه شديدًا؛ إذ كان المحل الوحيد الذي يقدم هذا النوع من الوجبات في المدينة. عكست قائمة الطعام المتنوعة والتغليف المثير للإعجاب ومهنية الموظفين حسن الإدارة للمشروع في الوقت الذي كانت فرص العمل نادرة، والمستهلكون يركزون على شراء السلع الأساسية، والكثير من تجار المدينة يغادرون شرقًا بحثًا عن الأمان في سلطنة عُمان المجاورة.[1] الخوض في مشروع كهذا في وقت يسود عدم اليقين قد يبدو غريبًا، ولكن مالك المطعم لم يكن لديه الكثير من الخيارات، فهو واحد من مئات آلاف المغتربين اليمنيين الذين اضطروا إلى مغادرة السعودية نتيجة الحملة المكثفة هناك لتخفيف الاعتماد على العمالة الأجنبية.
تبلغ تحويلات المغتربين من السعودية إلى اليمن مليارات الدولارات سنويًّا وهي حاليًّا أكبر مصدر للعملة الأجنبية في البلاد.[2] ومع عودة العمال المغتربين إلى اليمن وانخفاض قيمة هذه التحويلات، ينخفض أيضًا دخل الآلاف من العائلات اليمنية التي تعتمد عليها. كما أن انخفاض حجم العملة الأجنبية في اليمن يضع المزيد من الضغط على الريال اليمني، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية وغيرها من البضائع.[3] هذه الآثار الاقتصادية مدمرة بلا شك على نطاق واسع. ولكن إحدى النقاط التي لم يُسلّط عليها الضوء بشكل كاف هي أن من بين هؤلاء العمال الذين يعودون إلى اليمن شريحة من رواد الأعمال المهرة الذين يُعاد دمجهم في السوق اليمنية، وكثير منهم حريصون على بناء أعمالهم التجارية رغم تحديات العمل في ظل اقتصاد مزقه النزاع.
ليس هناك إحصائيات توضح بدقة عدد المغتربين الذي عادوا إلى اليمن، ولكن من الواضح أنهم يشكلون شريحة واعدة في قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة الحجم في المكلا. تسرد هذه المقالة قصة شابتين خلاقتين تغلبتا على الكثير من الحواجز لإنشاء أعمال تجارية في قطاعات السوق المتخصصة، وتسلط الضوء على أنواع الفرص والتحديات التي تواجه رواد الأعمال الجدد في المدينة.
مدينة المكلا هي عاصمة محافظة حضرموت. كان النشاط التجاري في المكلا مستقرًا قبل الحرب مقارنة بمعظم المراكز الحضرية في اليمن، حيث كان أكبر قطاع للتوظيف في المدينة هو قطاع البناء -كونه اكتسب زخمًا بفضل استثمارات الأثرياء الحضارمة في الخارج- يليه قطاع الخدمات العامة والأنشطة التجارية والصناعة والنقل وصيد الأسماك والسياحة.[4] شهدت شوارع المدينة الرئيسية وساحاتها العامة -مثل خور المكلا وكورنيش المكلا وكورنيش المحضار ومنصة العروض- تطورًا ملموسًا حيث أنها وُسعت عام 2005 في سياق التحضير للاحتفال بمرور 15 عامًا على الوحدة اليمنية. ولكن، لم تُنفذ أي مشاريع لتوسيع شبكة الكهرباء والصرف الصحي والمياه. وفي ذلك الوقت، كان مطار الريان الدولي يسيّر رحلات محلية ودولية. هذا فضلًا عن الميناء الرئيسي في المدينة، ميناء المكلا، إذ أنه استقبل أكثر من مليون طن من البضائع عام 2014.[5] شكلت المشاكل على صعيد الاقتصاد الكلي في اليمن على مر السنين تحديات لقطاع الأعمال في جميع أنحاء البلاد، ولكن لم تواجه المصانع والفنادق والمستشفيات وغيرها من الشركات التي تشكل القطاع التجاري في المكلا -التي لم يتجاوز عدد سكانها 350 ألف عام 2014- تحديات محلية صعبة.[6][7] ارتفع عدد سكان هذه المدينة منذ ذلك الحين لحوالي 536 ألف نتيجة نزوح الآلاف بسبب الحرب بشكل عام وأيضًا نتيجة عودة الكثير من العمال المغتربين.[8] وخلال سيطرة تنظيم القاعدة على المدينة، استقبلت الأخيرة حوالي 150 ألف نازح من عدن وغيرها من المحافظات.[9]
ومنذ تصاعد الحرب عام 2015، أدى ارتفاع التضخم وانخفاض قيمة العملة إلى تآكل الدخل والمدخرات في جميع أنحاء البلاد، بما فيها المكلا.[10] وعلى الرغم من أن تنظيم القاعدة نفذ بعض المشاريع الأولية لتحسين البنية التحتية في محاولة لكسب ود السكان،[11] إلا أن حكم التنظيم المتشدد سرعان ما أصبح قمعيًّا ودفع بالكثير من تجار المكلا للبحث عن فرص في أماكن أخرى. العديد منهم نقلوا أعمالهم بشكل كلي أو جزئي إلى مدينة صلالة العمانية أو المنطقة الحرة بالمزيونة بين عمان واليمن.[12] أُغلق البنك المركزي في المكلا ونُهب، كما أُغلقت البنوك التجارية لبضعة أسابيع. وعندما استأنفت عملها، كان نشاطها بالحد الأدنى.[13]
في 24 أبريل/نيسان 2016، طردت قوات محلية مدعومة من الإمارات العربية المتحدة التنظيم من المكلا. استعادت الحكومة المعترف بها دوليًّا السيطرة على المدينة تحت قيادة المحافظ أحمد بن بريك الذي أخذ سلسلة من الإجراءات لاستعادة النشاط التجاري.[14] على سبيل المثال، قبل سيطرة التنظيم على المدينة، كان يتوجب على رواد الأعمال في المدينة الخوض في عملية تستغرق وقتًا طويلًا للحصول على التراخيص بشكل مركزي من وزارة التجارة والصناعة، ولتسهيل الاستثمار، سمح بن بريك لمكاتب الوزارة المحلية بإتمام هذه الإجراءات، ما سهّل افتتاح المشاريع التجارية الجديدة.[15]
بسمة فارس، يمنية في العشرينيات من عمرها، ولدت وترعرعت في السعودية، وعندما اضطرت إلى مغادرة السعودية عام 2018، قررت أن تغامر وتفتح عملها الخاص في المكلا.
قالت بسمة التي لديها جذور عائلية في حضرموت “كانت هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها اليمن. لم يكن عندي أي تصور عن الوضع في اليمن، ولكني ركزت على تحقيق حلمي هناك مهما كانت الظروف وعلى عدم الاستسلام للفشل الذي قد (يطاردني) مدى الحياة”.
كانت بسمة هاوية للتصوير في السعودية، ولكن عند انتقالها إلى اليمن، قررت أن تحترف هذا المجال وفتحت ستوديو مستخدمة قرض عائلي بقيمة ألف دولار أمريكي سددته لاحقًا بفضل أرباحها من عملها. استهدفت فارس العنصر النسائي حيث شمل عملها التصوير الفوتوغرافي والفيديو للجلسات المنزلية وفعاليات النساء وتصوير الأطفال. كما عملت في تصوير المنتجات. وتمكنت فارس من توسيع عملها من إيرادات المشروع ذاته دون الحاجة للاقتراض.
في البداية، واجهت بسمة صعوبة في إيجاد خدمات الطباعة ومحال شراء الألبومات ومعدات التصوير، ولكنها حولت هذه العقبات إلى فرصة وبدأت بتقديم هذه الخدمات والمنتجات بنفسها إذ أنها وسعت نشاطها لطباعة الصور وبيع الألبومات. لدى بسمة حاليًّا ست موظفات يعملن في التصوير والتحرير والطباعة، وهو ما سمح بتأمين قاعدة واسعة من الزبائن الإناث نظرًا لأن الكثير من الإناث يفضلن التعامل مع النساء.
تطمح بسمة بتوسيع عملها ليشمل اليمن، وقالت إنه، حتى لو توفرت لها فرصة العمل في الخارج فإنها ستبقى في اليمن “لأن هناك فرص رائعة لا بد من (اغتنامها)”. وأضافت أن توفر جهات تؤمّن القروض للشباب لدعم مشاريعهم الفنية، مثل التصوير، سيساعدهم على العثور على عمل وأن يصبحوا مالكي مشاريع صغيرة. “كنت في البداية أسعى أن أحول شغفي وهوايتي لمجال عمل والآن أصبحت أدير عملي الخاص في المجال الذي أحب”.
حين عادت المغتربة فارعة أحمد بادخن إلى المكلا وقررت فتح مقهى عام 2016، كان خيارها الوحيد هو شراء المعدات والمواد الأولية اللازمة من الخارج.
عادت بادخن إلى اليمن أوائل عام 2016، أي بعد عام من اندلاع الحرب، بسبب الإجراءات التي حدت من فرص غير السعوديين للعمل في المملكة. قالت بادخن: “لم تكن صورة الوضع في اليمن واضحة، ولكني قررت العودة لأنه يجب أن أعمل. أتيت إلى اليمن رغم أني لا أعرف البلد كوني ولدت لأم سعودية وترعرعت في المملكة.” عملت بادخن، الحاصلة على شهادة إدارة الأعمال من جامعة الملك فيصل، في السعودية كسكرتيرة ومساعدة إدارية، كما عملت في مجالات إدارة الجودة والتسويق.
افتتحت بادخن “كوفي شوب شاوا” في قلب السوق الخاص بالنساء بعد أن أدركت أنه لا يوجد أي مقهى في المدينة مخصص للنساء. يقدم المقهى المشروبات الباردة والساخنة والأطعمة العربية والأجنبية ويشمل مكتبة. موّلت بادخن المشروع بمساعدة عائلتها، ولكن تجهيز المقهى كان مكلفًا. “اضطررنا إلى استيراد الكثير من الموارد من الخارج، مثل الأثاث والمعدات والمواد الأولية لتحضير المشروبات والأكل وذلك بسبب عدم توافرها بالسوق المحلي. وهو الأمر الذي شكل تحديًّا، وكان أيضًا مكلفًا.”
قالت بادخن إن مشروعها واجه تحديات منذ البداية، إذ أول ما واجهته هو مشكلة عدم وجود العمالة المدربة والمؤهلة. ولكن بحكم خبرتها في مجال إدارة الأعمال، دربت الموظفين بنفسها لتقديم خدمة مميزة لزبائنها. ومع مرور الوقت، اكتسب المقهى شهرة ليس فقط لأنه الأول من نوعه كمقهى مخصص للنساء، بل أيضًا لأنه يمتاز بالخدمة الراقية.
لم تقتصر التحديات على افتتاح المقهى وحسب، بل كان هناك مصاعب جمّة واجهت القدرة على الاستمرار بالمشروع بسبب تذبذب أسعار الصرف ودفع الإيجار بالعملة الصعبة وغياب الخدمات الأساسية كالكهرباء خصوصًا في فصل الصيف. كما أن فكرة المشروع نفسه شكلت تحديًّا إذ أن المجتمع في المكلا لم يتقبلها في البداية إذ انتشرت بعض الشائعات عن سمعة المحل والهدف من ورائه. ولكن تغيرت هذه النظرة مع الوقت.
قالت بادخن إن المقهى يلبي حاجة ضرورية للنساء في المكلا حيث أن الأماكن العامة يسيطر عليها الرجال الذين يلتقون لمضغ القات. مشيرة إلى أن عائدات المقهى لم تكن مرتفعة كما توقعت بالنظر لحجم استثمارها، ولكنها تدرس إمكانية توسيع عملها.
تواجه هذه التحديات التي تحدثت عنها بادخن جميع الأنشطة التجارية في المكلا، من المشاريع الصغيرة مثل مشروعها، إلى المشاريع الأكبر في قطاعي التصنيع والإنتاج.
ورغم أن الوضع الأمني في المكلا جيد مقارنة بغيره من المدن اليمنية، إلا أن المدينة لا تزال تعاني من الكثير من الصعوبات نتيجة النزاع. انخفاض قيمة الريال بالإضافة إلى أسعار المشتقات النفطية والقيود على السفر بالداخل يقيّد قدرة رجال الأعمال على الالتقاء لإبرام الصفقات التجارية.[16] وبالرغم من استئناف الرحلات التجارية،[17] إلا أن تعليق الرحلات الدولية في مطار الريان يشكل عائقًا أساسيًّا أمام القطاع التجاري.[18] كما أن سوء التغذية الكهربائية وانقطاع التيار الكهربائي لوقت طويل يؤدي إلى هدر الوقت وارتفاع تكاليف الإنتاج نظرًا لأنه يجب الاستعانة بمصادر طاقة بديلة.[19] إحدى الشكاوى التي رددها العديد من أصحاب المشاريع هي ندرة العمالة المؤهلة وحقيقة أن المؤهلين يفتقرون إلى المهنية والالتزام.[20]
رغم تضرر الاقتصاد عبر أنحاء اليمن خلال سنوات الحرب، أُنشئ في المكلا 140 شركة جديدة بين الأعوام 2018 و2020،[21] ما يمثل صمود روح الأعمال الريادية في المدينة. تؤمّن هذه المشاريع فرص عمل للشباب في المدينة، وبالتالي تخلق بديلًا عن الانضمام إلى القوات العسكرية لكسب دخل.
وكونها مركز محافظة حضرموت وأكبر مدينة في شرق اليمن، فإن المكلا هي أيضًا مركز المنظمات غير الحكومية الدولية التي تنفق أموالًا وتؤمّن فرص عمل محليًّا، الأمر الذي يساعد على تحسين مستوى الدخل المتاح المتداول في السوق ودعم بيئة الأعمال المحلية.
يعتبر إحلال السلام في البلاد الخطوة الأكثر أهمية لتثبيت الاقتصاد العام واستعادة الخدمات العامة في البلاد، بما فيها المكلا.[22] وحتى في غياب السلام، لا يزال هناك فرص لتحقيق تقدم اجتماعي واقتصادي محلي. وحتى الآن، تُرك رواد الأعمال في المكلا إلى حد كبير لتدبير أمورهم بأنفسهم. تفتقر المدينة إلى خطة متماسكة للاستفادة بشكل أفضل من الأموال وخبرة المغتربين العائدين، وقد فشلت في توفير التسهيلات المالية والإجرائية والاستشارية.[23]
يمكن للمؤسسات المالية تطوير أنشطتها وخدماتها للمساعدة في تعزيز المشاريع الريادية الواعدة. تواجه المشاريع الصغيرة عقبات تتعلق بالتمويل، حيث أن العديد من الأدوات المتاحة لها مكلفة أو تتطلب ضمانات تدفع بالكثير من الذين بوسعهم امتلاك مشاريع غير قادرين على تنفيذ مشاريعهم. كما أنه ليس هناك سوى القليل من مؤسسات التمويل التي تقدم المشورة لهذه المشاريع الناشئة التي قد تساعدهم على التعامل بشكل أفضل مع التعقيدات المتعلقة بالحصول على رأس المال اللازم لإطلاق مشاريعهم.[24]
العديد من المغتربين العائدين جريئين ومدربين بشكل جيد ومستعدين لتحمل المخاطر المحسوبة الضرورية للنجاح في مجال الأعمال التجارية. كل ما يحتاجونه هو الوصول إلى رأس المال والحصول على المشورة اللازمة بهدف مساعدتهم على المساهمة في تحسين اقتصاد المكلا والبلد ككل.[25]
نبهان عبدالله بن نبهان، هو ناشط وباحث مهتم بشؤون اليمن والخليج. يدرس حاليًّا للحصول على درجة الماجستير في السياسة العامة والشؤون العالمية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. ظهرت كتاباته في مجلة المدنية وإصدارات إقليمية ودولية أخرى. نبهان مشارك في منتدى سلام اليمن التابع لمركز صنعاء.