تحولت الأنظار إلى محافظة مأرب المجاورة لمحافظة الجوف بعد سقوط مدينة الحزم، عاصمة الأخيرة، بيد الحوثيين في نهاية فبراير/شباط. وعلى أهمية سقوط الجوف تبقى الجائزة الكبرى هي مأرب، المدينة التي تحتضن الكتلة الأكبر من خصوم الحوثيين الشماليين، وأكبر عدد من القوات الموالية للرئيس عبدربه منصور هادي، وهي وحدات تابعة للجيش الوطني. علاوة على كونها المحافظة الأغنى في الشمال، تضم آبار النفط والغاز، وفيها مصفاة صافر النفطية، ومحطة مأرب الكهربائية الكبرى التي كانت تغذي معظم اليمن بالكهرباء قبل الحرب. وهي علاوة على ذلك وذاك عاصمة القبائل السنية الشافعية القوية مثل مراد وعبيدة والجدعان وغيرها، ومركز قوة للتجمع اليمني للإصلاح (الإصلاح)، أحد أكبر الأطراف السياسية اليمنية وأهم خصوم الحوثيين المحليين. وبالتالي تعد مأرب ملاذ ومورد يغذي الإصلاح الذي أمسى صانع القرار الرئيسي في إحدى المحافظات الأكثر أهمية استراتيجياً في اليمن.
كما تعد مأرب أيضاً، آخر مصادر القوة السياسية للحكومة الشرعية، ومن شأن خسارتها أن يقوّض حرب التحالف بقيادة السعودية في اليمن. سقوطها بيد الحوثيين يعني التالي: السيطرة على معظم الشمال ووضع اليد على موارد المحافظة المهمة، وتأمين طريق سريع إلى المحافظات الجنوبية التي تفتقد القدرة على مقاومة الحوثيين. تشمل هذه المحافظات شبوة وحضرموت اللتان تشكلان مع مأرب قاعدة موارد اليمن من النفط. قد يتسبب الاستيلاء على مأرب؛ بسيناريو تأثير الدومينو الذي ينتهي بتعزيز الحوثيين قوتهم أكثر في الصراع من أجل السيطرة السياسية في اليمن عبر الاستيلاء على أراضٍ إضافية والسيطرة على المزيد من الناس ومصادر الثروة الرئيسية في البلاد.
وفي هذه الأثناء، من غير المرجح أن يؤدي وقف إطلاق النار الذي أعلنت عنه السعودية لمدة أسبوعين في 9 أبريل/نيسان لوقف القتال في مأرب. يدرك الحوثيون جيداً أن القبول بأي هدنة من شأنه أن يمنح فرصة للمدافعين عن مأرب لإعادة تنظيم صفوفهم ودفاعاتهم، ما يجعل من الصعب عليهم استعادة نفس الزخم الهجومي. أما بالنسبة لدعوة الأمم المتحدة جميع الأطراف المتحاربة لوقف القتال للاستجابة لخطر فيروس كورونا، فإن الأزمة الحالية في الواقع توفر فرصة نادرة للحوثيين لشن هجوم واسع على أكثر من منطقة في اليمن بينما العالم منشغل بتداعيات الكورونا ولا يلقي بالاً لما يدور في اليمن.
احتفظت مأرب باستقرار نسبي منذ التصدي لهجمات الحوثيين عليها في 2015، وظل الأخيرون متواجدون فقط في منطقة صرواح التي صارت منطقة للاشتباك، تنخفض وتيرة القتال وترتفع من حين إلى آخر؛ لكن من دون محاولة جدية لتغيير نطاق تمركز الطرفين فيها. ولكن بعد إستيلاء الحوثيين على الجوف، انفتحت شهيتهم لإعادة تغيير المعطيات على الأرض في مأرب. ولتحقيق هذا الهدف، يعملون على استراتيجية ضغط عسكرية على القوات الموالية للحكومة من ثلاثة اتجاهات.
الأول، من الجنوب الغربي انطلاقاً من صرواح، حيث صعّد الحوثيون في جبهة صرواح بطريقة غير مسبوقة منذ بداية الحرب، وشهدت صرواح أعلى معدل للمعارك فيها، حيث يحاول الحوثيون التقدم انطلاقاً من مواقعهم في صرواح لاستكمال السيطرة على كامل المديرية بما فيها معسكر كوفل الاستراتيجي – وهو حالياً موقع اشتباكات بين الأطراف المتحاربة – الذي يطل على مدينة مأرب من الغرب، وبالتالي سقوطه بيد الحوثيين يعني أنه لن يفصل قوات الحوثيين سوى بعض المواقع الاستراتيجية، والتي من أبرزها “تبة المصارية”، عن مركز المحافظة.
يأتي الضغط العسكري الثاني من الغرب، انطلاقًا من منطقة نهم الاستراتيجية التابعة لمحافظة صنعاء. توسعت هذه الجبهة لتشمل مديرية مجزر شمالاً بعد تقدم الحوثيين في المديرية من مديريتي الغيل والخلق التابعتين لمحافظة الجوف المجاورة.
ويكتمل ضغطهم العسكري انطلاقاً من الشمال وتحديداً من صحراء الجوف. ويهدف هذا الهجوم إلى قطع خطوط النقل الدولية التي تربط مأرب بالجوف ومعبر الوديعة مع السعودية شمالاً وحضرموت جنوباً. ستقرّب السيطرة على هذا الممر الحوثيين إلى مصافي صافر النفطية في مأرب. وبحسب بعض المؤشرات، ربما هناك محور آخر من الجنوب يمكن أن ينطلق منه الحوثيون للضغط العسكري على مأرب. تعثر هجوم الحوثيين على جبهة قانية في محافظة البيضاء، التي لها حدود مشتركة مع مأرب، بعد صدهم من قبل قوات موالية للحكومة في منتصف شهر مارس/آذار.
يتزامن هذا الضغط العسكري مع رسائل سياسية مختلفة يرسلها الحوثيون عبر وسطاء مختلفين إلى سلطة مأرب المحلية التي يرأسها المحافظ الشيخ سلطان العرادة. وهي تقول التالي: نريد حصة من إيرادات النفط والغاز وتخفيف الضغوط على أنصارنا من قبائل الأشراف المتواجدين في مأرب، وجعلهم جزء من إدارة الأمور في المحافظة كضمانة لنا.
أما إذا كانت استراتيجية الحوثيين تهدف إلى وضع يدهم على مدينة مأرب، فهذا أمر مُكلِف للغاية ولا يبدو أنه سهل، كما كانت معركة الجوف، ولن تبدو الأعداد الهائلة لقتلاهم في معارك صرواح الحالية إلا مؤشراً على حجم التكلفة التي يجب أن يدفعها الحوثيون في حال كان هذا غرضهم النهائي. للنجاح في تحقيق هذا الهدف، يحتاج الحوثيون لشيئين: تحقيق اختراق عسكري كبير يجعلهم بموقف تفاوضي أفضل سواء في صرواح أو في جبهة أخرى، وإثارة التناقضات الداخلية في مأرب، اعتمادًا على غضب القبائل المحلية والأطراف السياسية الأخرى من حزب الإصلاح، وطريقة سيطرته على المحافظة على مدى خمسة سنوات، منذ هزيمة الحوثيين السابقة في 2015.
وعلى الرغم من غضب القبائل المحلية من الإصلاح إلا أن موقفهم من الحوثيين أكثر تشدداً، ما يجعل تغيير موقفهم من الحوثيين والانحياز لهم غير محتمل. لدى هذه القبائل المأربية إحساس عالٍ بهويتها السنية، ما يضعها على خلاف مع الحوثيين “الشيعة” الزيديين. فمثلاً قبيلة مراد البارزة ترى أن في الوعي الضمني للحوثيين موقفاً منها لأسباب لها علاقة بالتاريخ، حيث قُتل الإمام علي بن أبي طالب (الأب الرمزي لكل الطوائف الشيعية في العالم الإسلامي بما في ذلك الحوثيين) على يد شخص من أفرادها، عبد الرحمن بن ملجم المرادي، عام 661. وفي التاريخ الأقرب، قُتل الإمام يحيى حميد الدين، ملك المملكة المتوكلية اليمنية على يد الشيخ علي ناصر القردعي، أحد أبرز مشايخ قبيلة مراد، في حادثة مهدت لما عرف بثورة الدستور عام 1948 والتي أحبطها الإمام أحمد، نجل الإمام يحيى.
إن التحدي القبلي في مأرب للحوثيين هو الأهم في معادلة الصراع على المحافظة، ذلك أن الحوثيين لم يكن لهم القدرة على الوصول إلى تسويات مع القبائل بالطريقة التي اعتادوها مع قبائل المحافظات الأخرى، في الجوف والبيضاء مثلاً، ويعني ذلك أن عليهم الاصطدام عسكرياً بالقبائل، وهذا صعبٌ ومعقدٌ ومكلفٌ عسكرياً بالنسبة لهم. تقاوم قبيلة عبيدة هجمات الحوثيين في الشق الصحراوي في الحدود الشمالية للمحافظة مع الجوف. وتقاوم قبائل مراد والجدعان في مناطق مجزر وصرواح وقانية، الحدود الجنوبية والغربية للمحافظة، وظل عبء الهجوم الحوثي على هذه المناطق عالياً خصوصاً على قبيلة مراد. وأحد أهم أهداف الحوثيين الضمنية هنا هو رفع الكلفة البشرية على قبيلة مراد، وما يُرجى منه، هو إثارة غضب القبيلة تجاه فكرة بسيطة، وأنها تدفع التكلفة في المقاومة ولا تحصل على امتيازات في المقابل داخل المحافظة. ولكن كما يبدو فإن إحساس قبيلة مراد بالعداء تجاه الحوثيين هو أعلى من إحساسها بالغبن تجاه منافسها الرئيسي قبيلة عبيدة بسبب ما تعتبره استبعاد سياسي عن صنع القرار في المحافظة.
تتحمل قبائل مأرب العبء الأكبر في قتال الحوثيين، ما يكشف عن ضعفٍ كبيرٍ في أداء القوات العسكرية النظامية في المعارك الدائرة حول مصير المحافظة. يعود ضعف أداء قوات الجيش بشكل أساسي إلى فسادٍ واسع في عملية التجنيد والتسليح، ومن أبرز ملامح هذا الفساد ظاهرة الجنود الأشباح حيث توجد ألوية عسكرية نظامية كبيرة العدد على الأوراق يستلمون الرواتب، ولكن فعلياً هم غير موجودين، ويجري اقتسام رواتب هؤلاء الجنود الوهميين بين القيادات العسكرية المختلفة. تأتي المشكلة الأخرى في السيطرة على هذه الألوية واستبعاد الضباط المحترفين غير الموالين لحزب الإصلاح أو لنائب الرئيس علي محسن الأحمر، وصعود قيادات من خارج الجيش تفتقر للكفاءة لكنها موالية.
يكشف سقوط الجوف والمعركة الحالية على مأرب، القدرات العسكرية المهترئة للقوات العسكرية التابعة للشرعية، وينعكس بشكل مباشر على كافة المستويات القيادية للجيش اليمني صعودًا إلى وزير الدفاع محمد المقدشي ومن ثم نائب الرئيس علي محسن. ووضع هذا في بعض الأوساط السياسية والعسكرية علامة استفهام عميقة حول العائد من بقائهم في مناصبهم. والأهم، فمن المرجح أن يدفع أداء الجيش الوطني الضعيف مؤخراً – والذي يشمل طرد القوات الحكومية من عدن من قبل المجلس الانتقالي الجنوبي العام الماضي وهزيمة القوات الحكومية المفاجئة في نهم أمام الحوثيين في يناير/كانون الثاني – بالسعودية إلى إعادة النظر في القيادة العسكرية الحالية. ويبدو أن الاستثناء من التعديل المحتمل في القيادة هو صغير بن عزيز رئيس الأركان المعين حديثاً الذي يبدو نجماً صاعداً. إلا أن لإعادة ترتيبه القوات العسكرية تحت يده وإنجازه أي فرق ذو أهمية، تعقيدات ترتبط بعدة عوامل، لا تتعلق فقط بالوقت المحدود الذي قضاه في موقعه منذ تعيينه ولا بالضغط العسكري الحوثي المستمر، بل يتعلق أيضاً بقلق حزب الإصلاح منه، والذي ينظر إليه بعين الارتياب ويعتبر أن أي نجاحٍ له، يخصم بالضرورة من سيطرة الإصلاح على الجيش. وقد تجلى ذلك عبر تمكين بن عزيز للضباط والقادة العسكريين الأكفاء الذين اُستبعدوا سابقًا بسبب عدم انتمائهم للإصلاح.
ستنعكس نتائج معركة مأرب أيضاً على وضع الشيخ سلطان العرادة، محافظ مأرب البارز والمنتمي لقبيلة عبيدة. فإذا استطاع إدارة العلاقة المعقدة بين الأطراف القبلية والقوى السياسية بنجاح، بما فيها ضغط الإصلاح عليه، والدفاع عن مأرب في وجه الحوثيين، فإن نجمه السياسي سيتصاعد أكثر في أي مستقبل قريب للشرعية على حساب الكثيرين ممن يراقبون تصاعد قيمته بقلق.
إن معركة مأرب هي نقطة تحول مفصلية في حرب اليمن. سيمهد انتصار الحوثيين العسكري طريقهم نحو السيطرة على أكثر المناطق غنى بالموارد وسيمثل ضربة كبيرة للحكومة الشرعية. أما بالنسبة للحكومة، فإن الدفاع عن مأرب يعتبر امتحان مهم للجيش اليمني وخمس سنوات من دعم السعودية له. إن انكسار الحوثيين في مأرب قد يقوّض طموحهم، ويمنح الحياة لخصومهم، ويُضعف موقفهم التفاوضي الحالي مع السعودية، ويجبر المراقبين الدوليين على مراجعة التقديرات الحالية لقوة الجماعة.
ماجد المذحجي هو مؤسس مشارك والمدير التنفيذي لمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية ويغرّد على @MAlmadhaji
مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية هو مركز أبحاث مستقل يسعى إلى إحداث فارق عبر الإنتاج المعرفي، مع تركيز خاص على اليمن والإقليم المجاور. تغطي إصدارات وبرامج المركز، المتوفرة باللغتين العربية والإنجليزية، التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بهدف التأثير على السياسات المحلية والإقليمية والدولية.