لطالما نظر أسامة بن لادن بعين الإعجاب إلى جنوده المخلصين في اليمن، وتحديدًا سكرتيره الخاص إبان سنوات الجهاد الأفغاني “ناصر الوحيشي” الذي كان يُظهر له الاحترام ويعتبره الابن الروحي. تولى الوحيشي مهام إعادة بناء تنظيم القاعدة في اليمن ومن ثم دمجه مع فرعه في السعودية، ليتشكل فيما بعد ما يُعرف بتنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب.
كان ابن لادن يُهيئ الوحيشي ليكون الزعيم القادم لتنظيم القاعدة، مدفوعًا بطموحه لنقل مركز القيادة الجهادية إلى اليمن الذي اعتبره “أفغانستان مطلة على البحر”. على هذا الأساس، منح الوحيشي سلطات استثنائية إيمانًا منه بقدرات الأخير التنظيمية وشخصيته الكاريزمية، ووجّه الفروع الأخرى للتنظيم أن تحذو حذو اليمنيين الذين استطاعوا التكيف بنجاح داخل بيئتهم المحلية؛ وهو ما مكّن خلايا التنظيم من تنفيذ العديد من العمليات الناجحة في الداخل والخارج.
غير أن مقتل ابن لادن عام 2011 جاء كضربة مباغتة للحركة الجهادية، ولم يسمح بتصعيد الجيل الجديد من العناصر اليمنية في سلم القيادة. عوضًا عن ذلك، انتقلت السلطة إلى الزمرة المصرية التي رافقت ابن لادن في أفغانستان وكان يمثلها في حينه أيمن الظواهري، المنظر السياسي والديني المتأثر بفكر سيد قطب. كان المصريون هم من أقنعوا ابن لادن بتحويل تجربة الجهاد الأفغاني ضد السوفييت إلى حركة جهادية عالمية ضد الغرب. واصل الظواهري الاستثمار في القيادة اليمنية الشابة للتنظيم وإعدادها لتولي الزعامة مستقبلًا، إلا أن مقتل الوحيشي بغارة أمريكية عام 2015 أجهض هذه الخطط، ووضع علامة استفهام بشأن خطة الخلافة على زعامة تنظيم القاعدة.
حين صعد قاسم الريمي زعيمًا لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، كان من المتوقع أن يلعب دورًا رياديًا في القيادة المركزية لتنظيم القاعدة، لكن تدهور حالته الصحية من جهة، وتضييق الخناق على تنظيم القاعدة في اليمن من جهة أخرى، حجّما من تأثيره. في الوقت نفسه، اعتقد الظواهري أن تصعيد الابن البيولوجي لابن لادن سيعزز من فرص التنظيم، في ضوء النجاح الكبير الذي حققه تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، وبالتالي بدأ الظواهري عام 2015 بتقديم حمزة بن لادن إلى الأوساط الجهادية عبر رسالة صوتية وصفه فيها أنه “الأسد ابن الأسد”. عام 2017، بدأ الظواهري بالتفكير جديًا في منح نجل ابن لادن زمام القيادة لإعداده كخلف له، وعليه قام بتصعيد حمزة إلى أعلى الهيكل القيادي مما منح الأخير أدوارًا أكبر على مستوى التخطيط والدعاية. هذا الأمر دفع الولايات المتحدة للرد عبر إدراج حمزة في قائمة الإرهاب، واغتياله عام 2019.
ظهر التنافس مجددًا بين خلفاء ابن لادن الروحيين بقيادة زعيم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب قاسم الريمي من جهة، ورفاقه القدامى في الجهاد الأفغاني -الزمرة المصرية بقيادة الجهادي أحمد صلاح الدين زيدان المعروف باسم “سيف العدل” -من جهة أخرى. بحلول 2019؛ بدا كأن لتنظيم القاعدة ثلاثة زعماء: أيمن الظواهري الذي أخذ نفوذه بالتراجع لكنه حافظ على سلطته الرمزية كأمير شرعي للتنظيم، وسيف العدل الذي يُعتقد أنه كان يتولى الملفات الأمنية والإدارية للتنظيم من طهران، حيث اتخذ ملاذًا بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان، وقاسم الريمي الذي يُعد المرشح الأوفر حظًا لتولي الزعامة رغم انصراف اهتمامه للأزمات في اليمن.
كان الظواهري ينحاز عاطفيًا واستراتيجيًا للريمي. بالمقابل، أيّد الريمي الظواهري كزعيم شرعي للجماعة، لكن مع الوقت أخذ يُعمق تواصله التنظيمي والأمني مع سيف العدل باعتباره الشخصية الأكثر فاعلية وتأثيرًا، وساعد ذلك في ترجيح الكفة لصالح سيف العدل كخلف للظواهري إلى أن حُسم الأمر تمامًا عام 2020 بعد مقتل قاسم الريمي بغارة أمريكية في اليمن.
ومع صعود خالد باطرفي زعيمًا جديدًا لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، يمكن القول إن محاولة جيل الشباب اليمني من الجهاديين للتنافس على القيادة العالمية للتنظيم قد انتهى، وأصبح القرار اليوم في قبضة الزمرة المصرية المسيطرة على التنظيم أمنيًا وماليًا وإداريًا. تواجه الجماعة مأزقًا حرجًا قد تعيد صياغتها استراتيجيًا وتنظيميًا، خصوصًا أن زعيمها الجديد المحتمل سيتولى مهام قيادة التنظيم من إيران بدلًا من أفغانستان. على المدى القريب، لا يبدو أن مقتل الظواهري سيؤدي إلى تداعيات سلبية مباشرة على تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، لكن في الوقت نفسه، لن يحرك التنظيم ساكنًا لاجتثاث الأزمات الداخلية التي يواجهها الفرع في اليمن، لاسيما في ظل الانقسامات المتتالية بين قياداته العليا والمتوسطة وتآكل نفوذه على الأرض في خضم تراجع عام في شعبيته.