كانت مريم تبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا حين اضطرت للفرار مع أسرتها من المعارك القتالية المندلعة بالقرب من مسقط رأسها، قرية الشليلة الواقعة خارج مدينة حرض الساحلية شمالي محافظة حجة. بعد أقل من عامين من عثورها على ملاذ في مخيم الشعب للنازحين، زُوجت مريم في سن الرابعة عشر فقط من أحد أبناء قريتها “الشليلة”، لكن ذلك لم يُجنبها الهروب مجددًا بعد فترة وجيزة على إثر اندلاع معارك في حجة تسببت بموجات نزوح جديدة شملت أولئك المُهجرين أساسًا.
لجأت أسرة مريم إلى مخيم بني حسن في مديرية عبس، أكبر مخيم للنازحين في حجة آنذاك حيث كان يحتضن حوالي 5 آلاف أسرة، وتديره مجموعة من وكالات الإغاثة الدولية وشركاؤها المحليون. لم تنتهِ معاناة الأسرة بعد اضطرارها الفرار للمرة الثالثة، في أعقاب هجوم شنته القوات الحكومية لاستعادة السيطرة على المديرية عام 2019، وهذه المرة إلى الهيجة الواقعة على بُعد 15 كيلومترًا جنوب شرق المديرية. مضت أكثر من سبع سنوات على مغادرة مريم منزلها لأول مرة، واليوم، هي أم لثلاثة أطفال وبالكاد يتجاوز سنها العشرين عامًا.
الحياة في الهيجة
“قررنا القدوم إلى هذا المكان لأنه الأقرب مسافة. لم نصطحب الكثير من الأمتعة معنا، واكتفينا ببضع حقائب الملابس”، هذا ما قاله “يعقوب” زوج مريم البالغ من العمر 28 عامًا، في إشارة منه لنزوحهم إلى قرية الهيجة التي تستضيف مئات الأسر النازحة والواقعة على أرض مملوكة ملكية خاصة في سفوح تلالٍ شرق مدينة عبس.
عاش الزوجان -مع أطفالهما الثلاثة وأم يعقوب المسنة -طوال السنوات الثلاث الماضية في كوخين متهالكين مقابلين لبعضهما، مصنوعين من أغصان الأشجار وبأسقف من البلاستيك لا تمنع اختراق أشعة الشمس ناهيك عن الأمطار الغزيرة. خارج الكوخين، يوجد فرن من الطين يستخدم للطهي وأريكتين- أي أسرّة نوم مستطيلة عرضها نصف متر وطولها مترين.
تقول مريم، وهي تحمل بين ذراعيها طفلها الرضيع الذي لم يتجاوز أشهره الستة، وهو الثالث بين إخوته المولودين في مخيمات النازحين، “كانت الحياة أفضل وأسهل بكثير في قريتي، فلم يكن علينا سوى رعاية الأغنام وجمع الحطب. لكن الوضع هناك أصبح غير آمن بسبب القصف اليومي قرب الحدود، ما دفع الجميع إلى الفرار حرصًا على سلامتهم”.
تشهد جميع مناطق اليمن عشرات الآلاف من الأطفال المولودين النازحين، حيث يشكل أولئك الأطفال نصف عدد السكان النازحين في البلاد البالغ 4 ملايين نازح داخلي. في عام 2021، احتلت اليمن المركز الرابع من حيث عدد النازحين داخليًا على مستوى العالم، وأظهر مسح نُشرت نتائجه في ديسمبر/ كانون الأول 2021 أن 649,387 طفلًا دون سن الخامسة يعيشون في مخيمات للنازحين في 14 محافظة يمنية، منهم 194,496 تقل أعمارهم عن عام واحد، فضلًا عن 73,000 من النازحات الحوامل. كما وجدت دراسة أخرى أُجريت مؤخرًا في ثلاث محافظات (من قِبل صندوق الأمم المتحدة للسكان، وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، ومفوضية النساء اللاجئات، وجامعة جون هوبكنز)، انتشار ظاهرة زواج الأطفال بين الفتيات النازحات: فقد زوجت واحدة من كل خمس فتيات نازحات تتراوح أعمارهن بين 10 إلى 19 عامًا في المناطق التي شملها المسح في (صنعاء، وإب، وعدن) مقارنة بواحدة من كل ثمانِ فتيات يعشن في المجتمعات المضيفة المجاورة.
تشير مجموعة تنسيق وإدارة أعمال المخيمات (CCCM) التي تشرف عليها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) إلى اتخاذ 1.6 مليون نازح داخلي ملاذًا لهم في 2,358 مواقع وصفتها المجموعة بالـ”العشوائية وغير المخطط لها”. ووفقًا لاستراتيجية مجموعة تنسيق وإدارة أعمال المخيمات الخاصة باليمن لعام 2021، جاء تمركز النازحين باليمن في هذه المواقع “بشكل غير رسمي وتدخل ضئيل من الجهات المسؤولة عن العمل الإنساني”، مما يهدد حق النازحين بالبقاء في تلك المواقع مع عدم وجود اتفاق يُنظم حيازة نحو 80 بالمائة من تلك الأراضي (بحسب المعلومات المتوفرة حتى أوائل 2022). فخلال 2021، واجهت 7,500 أسرة نازحة تهديدًا بالإخلاء في 70 من المواقع التي تستضيف مخيمات النازحين.
تستضيف حجة، منذ عام 2015، 487 موقعًا للنازحين داخليًا تحتضن 435,007 أشخاص فروا من الأعمال العدائية المندلعة، لا سيما قرب الحدود مع السعودية. تحتل حجة المركز الثاني كأكبر محافظة تستضيف النازحين داخليًا في البلاد (بعد محافظة مأرب)، وبحسب المسح الذي أجرته مجموعة تنسيق وإدارة أعمال المخيمات، شكلت المستوطنات العشوائية نسبة 97٪ من إجمالي 195 موقعًا استُطلع في حجة، 92 في المئة منها على أراضٍ مملوكة ملكية خاصة. انتهجت مجموعة تنسيق وإدارة أعمال المخيمات، منذ عام 2015، سياسة عدم توفير خيام للنازحين تفاديًا لاستقرارهم في تلك المواقع بصورة دائمة، وقدمت توصية إضافية عام 2018 بامتناع منظمات الإغاثة عن إقامة مخيمات جديدة إلا في حال استُنفذت الحلول.
تُعد قرية الهيجة بصفة خاصة موقعًا غير مُهيأ لاستضافة النازحين، فلا توجد أي خيام أو منشآت خرسانية فيها كتلك الموجودة في مواقع أخرى. يقطن جميع النازحين تقريبًا في أكواخ متهالكة، وعام 2019 زُودت الأسر النازحة بمستلزمات المأوى في حالات الطوارئ شملت الصفائح المستخدمة في إنشاء الأكواخ، وألواح خشبية وغيرها من المواد التي بُليت معظمها الآن. أشار تقرير لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن مواقع النازحين في مديرية عبس تعاني من مرافق إيواء غير مهيأة ونقص في المياه والصرف الصحي والغذاء، وهي عوامل تفاقم من مواطن ضعف ساكنيها.
أظهر الشيخ عبدالله سعيد -أحد الزعماء القبليين في المنطقة -تعاونه من خلال توفير مساحة كبيرة من أرضه لاحتضان 800 أسرة نازحة في الهيجة، حيث يشرف على الموقع وينسق الأعمال الإنسانية هناك. لكنه نوّه إلى انعدام بعض المتطلبات الأساسية لإيواء النازحين، وقال “لا يوجد سوى مرفق صحي صغير بالكاد يوفر الرعاية الصحية الأساسية، علمًا أن إمدادات المياه ما زالت تعتمد على نقلها بالشاحنات”.
ضعف كبير في الأنشطة الاقتصادية داخل مجتمعات النازحين داخليًا
يوجد قدر ضئيل جدًا من النشاط الاقتصادي داخل مخيمات النازحين داخليًا. تقدم المنظمات غير الحكومية قدرًا من المساعدة المالية في بعض المواقع، ويستطيع بعض النازحين من الرجال العثور على عمل بأجر يومي في المناطق المجاورة لهم. وفقًا لتقييمات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تفتقر 92 في المئة من الأسر النازحة في اليمن فرص العمل، حيث لا يملك 64 في المئة منهم أي مصدر دخل على الإطلاق، في حين يعيش آخرون على دخل شهري أقل من 25,000 ريال يمني (40 دولارًا أمريكيًا). وبحسب إحصائيات المفوضية، يعني أن أسرتين من بين كل ثلاث أسر نازحة تؤمّن وجبة واحدة أو وجبتين فقط في اليوم وأن الأطفال محرومون من التعليم والرعاية الصحية الكافية. تلجأ بعض الأسر إلى التسول أو بيع ما لديها من ممتلكات، في حين يزوج البعض الآخر فتياتهم في سن مبكرة من أجل تخفيف الأعباء المالية التي أثقلت كاهلهم.
وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) -الجهة المسؤولة عن تنسيق الاستجابات الطارئة للأزمات الإنسانية حول العالم -تحتاج النساء والفتيات إلى الحماية بصفة خاصة. أفاد المكتب في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 أن “النساء والفتيات النازحات يفتقرن للخصوصية أكثر من غيرهن، ويواجهن مخاطر تهدد سلامتهن، فضلًا عن محدودية وصولهن إلى الخدمات الأساسية، الأمر الذي يجعلهن أكثر عرضة للعنف وسوء المعاملة”. تعول النساء حوالي 30 في المائة من الأسر النازحة، الأمر الذي يثقل كاهلهن بأعباء مالية في خضم تأثير التضخم على الاقتصاد المتدهور أساسًا.
ذكر تقرير منشور في يوليو/ تموز 2022 للجنة الدائمة المشتركة بين وكالات الأمم المتحدة (IASC) -وهي الجهة المشرفة على تنسيق استجابات الأمم المتحدة للأزمات الإنسانية مع مختلف المنظمات -أن توفير الحماية يشكل التحدي الأكبر في إدارة مخيمات النازحين في اليمن، كونها ضمن أدنى أولويات تمويل الأنشطة الإنسانية في اليمن. أشار التقرير إلى أن الأطفال النازحين مُعرضون بصفة خاصة لخطر سوء المعاملة والاستغلال في المواقع المستضيفة للنازحين، حيث يوجد في نصف عدد تلك المواقع بعض الأسر التي يعولها قاصرون (دون سن 18 عامًا). أضاف التقرير أن أقل من نصف المواقع المستضيفة للنازحين تتلقى المساعدات الإنسانية، وأقل من نصف السكان في تلك المواقع يحصلون على مساعدات.
اعتمدت أسرة مريم على تربية الأغنام والماعز في مسقط رأسهم، كمصدر دخل أساسي، وتمكنوا من اصطحاب أغلب تلك الماشية إلى أول موقع نزحوا إليه، لكنهم اضطروا لبيع معظمها لتغطية مصروفاتهم. لم يتبقَ لديهم الآن سوى عدد قليل من الأغنام يرعاها زوج مريم ووالدته، ويعتمدون على المساعدات الغذائية التي يتلقونها شهريًا من وكالات الإغاثة.
النزوح المطوّل مقابل الحلول الدائمة
طال أمد النزاع، واقترنت معه ظاهرة النزوح التي أصبحت مستحكمة، مع عدم قدرة النازحين على العودة إلى ديارهم بسبب مخاطر اندلاع معارك قتالية جديدة تجبرهم على النزوح من جديد.
ووفقًا للجنة الدائمة المشتركة بين وكالات الأمم المتحدة، يتمثل الحل الدائم في “انتفاء الاحتياجات المحددة للنازحين داخليًا من مساعدة وحماية مرتبطة بنزوحهم، وأن يتمكنوا من التمتع بحقوق الإنسان دون تمييز ضدهم على أساس نزوحهم. يُمكن تحقيق ذلك من خلال عودتهم وإدماجهم محليًا وإعادة توطينهم”. وفقًا لهذه الشروط، ما يزال إيجاد حل طويل الأجل لظاهرة النزوح “بعيد المنال” في نظر الكثير من المنخرطين في العمل الإنساني والتنموي وفقًا لتقرير المجلس النرويجي للاجئين (NRC) الذي تناول وضع الأسر النازحة: “إن إيجاد حلول دائمة يتسم بالتعقيد بسبب استمرار المعارك القتالية، والتغير المستمر في خطوط المواجهة، والتدهور الاقتصادي الشديد، ومحدودية فرص كسب العيش”، كما أن “التدخلات الإنسانية لا تزال تركز على حالات الطوارئ بسبب الصراع الدائر”. يقول المجلس النرويجي للاجئين إن أكثر من مليون نازح داخلي عادوا إلى ديارهم خلال عام 2019، لكن في غياب الظروف الإنسانية التي تضمن ديمومة عودتهم. من جانب آخر، ترى مجموعة تنسيق وإدارة أعمال المخيمات في اليمن صعوبة إيجاد الحلول الدائمة دون “وجود الهياكل الأساسية والظروف التي تسمح لهم بالعودة الآمنة وإعادة توطينهم وإدماجهم”.
إذن، في الوقت الذي تُثني الوكالات التابعة للأمم المتحدة والوكالات الأخرى ذات الصلة النازحين عن الإقامة بصورة دائمة في المخيمات، تظل غير قادرة على توفير بدائل آمنة أو ظروف تتيح عودتهم بأمان إلى ديارهم. نتيجة لذلك، عاش جيل من الأطفال النازحين لأكثر من سبع سنوات في مستوطنات مؤقتة وعشوائية في كثير من الأحيان، سواء في محافظة حجة أو في جميع أنحاء اليمن. يحدو الأسر النازحة الأمل في العودة ذات يوم إلى مجتمعاتهم المحلية، دون خوف من الاضطرار لهجران ديارهم مرة أخرى.
تجددت المعارك القتالية في مديرية حرض هذا العام، ما يعني أن أسرة مريم، مثل غيرها من عشرات الآلاف من النازحين، لن تتمكن من العودة إلى ديارها قريبًا. تقول مريم “حتى الآن، لم يتمكن أي فرد من أفراد أسرتي أو غيرنا من العودة إلى قريتنا. لا نعرف إلى متى سنعيش نازحين”.