اليمن: الفقر والصراع ، بقلم هيلين لاكنر ، دار روتليدج للنشر سنة 2022 ، عدد صفحات الكتاب: 184 ، سعر نسخة الغلاف العادي: 48.95 دولار أمريكي – الرقم الدولي المعياري للكتاب (ردمك) 9780367180508 ، سعر نسخة الغلاف المقوى: 170.00 دولار أمريكي – الرقم الدولي المعياري للكتاب (ردمك) 9780367180492.
عادة ما تُرافق الحروب ثورة في عالم الكتابة. فما تُعرف بـ “صحافة الصراع” تركز غالباً على الآثار المباشرة للحروب، بينما تركز التقارير الإنسانية على تكلفتها البشرية الفادحة، فيما يدلو السياسيون والمراقبون بآرائهم حول مختلف التداعيات الاستراتيجية المترتبة عليها. لكن بالنظر إلى أدبيات هذه الصحافة المكتوبة باللغة الإنجليزية، غالباً ما نجد فجوة معلوماتية في الكتابات التي تتطرق لوصف أعمال العنف في عالمنا المعاصر حيث لا تتعمّق في توجهات الأطراف المتحاربة تاريخياً والتي باتت معلوماتها متاحة مؤخراً وفي متناول الأيدي. ربما هي فجوة يصعب تفاديها، نظرا للوقت الذي يستغرقه البحث في الخلفية التاريخية الشاملة وصعوبة الوصول إلى الأرشيفات الحكومية والحصول على المعلومات الدقيقة التي يمكن أن تساعد في التحقق من اتجاهات الصراع. تُطوى صفحة أي تاريخ حديث في اليوم الذي ينتهي فيه المؤلفون من الكتابة عنه، وبالتالي لا يمكنهم التنبؤ بالأزمات المحدقة أو الوقت الذي قد تنزلق فيه هذه الأزمات إلى مربع العنف.
مع استمرار الحروب، تكتسب التحليلات والتقارير المستفيضة أهمية خاصة، حيث تُختصر الأجزاء التي توضح خطوط الأحداث ويُصبح تناول الأسباب أكثر أهمية. كما تلعب جهود السلام دوراً في تعزيز التكهنات حول مصير أي تسويات والآفاق المستقبلية لمرحلة ما بعد الحرب. تنشب الصراعات بفعل ديناميكيات داخلية منها: العنف الدوري ، وظهور اقتصاد الحرب ، وتفكيك وإعادة تشكيل الروابط السياسية والاجتماعية. وبالتالي، الخوض بعيداً عن السياق السياسي والاقتصادي لا يمكن أن يُفضي إلى سلام مستدام أو حتى فهم الأسباب التي أدت إلى الانزلاق إلى مربع العنف.
يُعد كتاب هيلين لاكنر الجديد والمتميز اليمن: الفقر والصراع إضافة مهمة وقيّمة في سياق هذه النقاشات، حيث يشكل مرجعًا نافعاً للأشخاص المهتمين بالحرب في اليمن ومستقبل البلاد، أو بالدوافع السياسية والاقتصادية للصراع والعلاقة بينهما. ما يميز هذا الكتاب هو الاستعراض الواضح والمبسط للتاريخ اليمني المعقد والمتشعب، وشرح دور القضايا التاريخية المتعلقة بالهوية السياسية والمناطقية والتنافس بين النخب في تأجيج موجة العنف الحالية وتحديد مجريات الأحداث. تُرفق الكاتبة هذا الاستعراض بدراسة متميزة عن المسار الاقتصادي لليمن خلال السنوات الأخيرة، وإذا ما نظرنا إلى التحديات الجمة حالياً – التي ستَستمر أثارها حتى بعد انتهاء الصراع – يمكن القول إن قراءة الكتاب قد تحبط التفاؤل لدى البعض.
يتناول الكتاب التاريخ المعاصر لليمن حتى أواخر عام 2021، ويضم أربعة فصول: يتناول الفصل الأول تاريخ نشأة الدولة اليمنية الحديثة؛ ويناقش الفصل الثاني البيئة السياسية المعاصرة وكيف أفضت إلى الصراع؛ أما الفصل الثالث فـ يتضمن دراسة عن الاقتصاد اليمني وآفاقه؛ في حين يتطرق الفصل الرابع إلى علاقة اليمن مع الدول الأخرى على المستوى الإقليمي والدولي.
كانت الكاتبة موفقة في اختيار المواضيع التي غطاها الكتاب، لا سيما تسليط الضوء على دور اللاعبين السياسيين والأحزاب و ولاءاتهم في فترة ما قبل الوحدة اليمنية وانعكاساتها بشكل حاسم على وضع البلاد اليوم. وبالتالي، حظيت جميع المواضيع المتعلقة بالنزعة الانفصالية، وظهور السياسة القائمة على الهوية القبلية، ودور الدين في السياسية بالاهتمام اللازم في الكتاب، مع تحليل عميق للنظام الفاسد والاستبدادي للرئيس السابق علي عبد الله صالح. ما يدعو للإعجاب الشديد بهذا الكتاب هو استعراض السلسلة المعقدة من الأحداث التي عجلت من نشوب الأزمة السياسية في عام 2011، وأفضت إلى مؤتمر الحوار الوطني في 2013-2014، ومن ثم اندلاع شرارة الصراع الحالي. بلغت التحليلات المتناولة لأحداث “الربيع العربي” مستوى متعمّق في التعاطي مع أسباب التباين على الصعيد الوطني ونتائجه، ولكن نادرا ما نجد تحليلاً مفصلاً يتناول جذور البيئات السياسية المعقدة وتأثيراتها كالموجود في هذا الكتاب.
لا يقلّ الفصل المتعلق بالعلاقات الدولية أهمية عن الفصول الأخرى، فهو يوضح كيف كان اليمن – مرة تلو أخرى – تحت رحمة جيرانه الأكثر قوة وثراءً. فالسعودية والإمارات وضعتا مصير الحكومة تحت رحمة سياساتهما غير المتوازنة، فيما ظلت عُمان همزة الوصل لفرق التفاوض التابعة للحوثيين، وأما إيران فلا يزال تدخلها الكبير يعزز من ترسانة الحوثيين بصورة فعالة. على الصعيد الدولي، تلعب الولايات المتحدة دورًا رئيسيًا في اليمن منذ إعلان “حربها على الإرهاب” وحتى الوقت الحاضر، بينما تستمر أوروبا بالانخراط في الشأن اليمني بشكل وثيق عن طريق إرسال شحنات الأسلحة، وتقديم المساعدات، ودعم عملية السلام التي ترعاها الأمم المتحدة. وبالتالي، أي اتفاق سلام، أو مرحلة إعادة الإعمار أو إنعاش الاقتصاد اليمني المنهك بعد الحرب سيشهد انخراط العديد من اللاعبين الخارجيين.
أهم ما يُميز هذا الكتاب هو تحليل لاكنر المحنك للوضع الاقتصادي. فـ النقاشات الدائرة حول الوضع الإنساني المتردي في اليمن ومناشدات تقديم المساعدات غالبا ما تركز على معدلات الفقر في البلاد قبل اندلاع الحرب، على الأرجح لتسليط الضوء على شح الموارد المحلية المتاحة في الوقت الحالي لمواجهة التداعيات المستقبلية لحالة الدمار والحرمان. إلاّ أن نتائج الدراسة الاستقصائية المعروضة بين طيات هذا الكتاب وتحليلها المفصل للتحديات العميقة التي تواجه التنمية الاقتصادية تعكس مدى خطورة الوضع قُبيل اندلاع الصراع. تبدو التوقعات قاتمة بالفعل في ظل وجود مشاكل قائمة منذ أمد طويل: التعداد السكاني المتزايد؛ طبقات المياه الجوفية المستنفدة واستنفاد الارصدة السمكية؛ وسوء إدارة للسياسات الزراعية؛ ونظام تعليم ضعيف وبرامج تدريب يُرثى لها؛ وافتقار عام للموارد القابلة للاستغلال بخلاف الاحتياطيات الصغيرة من النفط والغاز.
تُلقي لاكنر باللوم على سياسات التحرير الاقتصادي الفاشلة التي أقرّها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على نطاق واسع في تسعينيات القرن الماضي وخلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، والتي خلفت إرثًا من انعدام المساواة على مستوى العالم أفضت إلى اضطرابات سياسية. في جميع الأحوال، الوضع في اليمن لا يبعث على التفاؤل حتى ولو لم تُطبق هذه السياسات، بسبب تراجع أنماط الاستجابة التقليدية لمثل هذه الظروف – كالهجرة من البلاد بدوافع اقتصادية إلى دول مجاورة لا سيما السعودية و تدفق التحويلات المالية في المقابل – في ظل سياسة السعودة التي تتبناها السعودية.
فاقمت الحرب من هذا الوضع المزري. ولهذا، يولي الكتاب اهتمامًا خاصًا باقتصاد الحرب ويسلط الضوء على انعدام فرص العمل مدفوعة الأجر بين أوساط الشباب، الأمر الذي يدفعهم إلى الانضمام إلى الجماعات المسلحة الممولة من أطراف خارجية. قد تؤدي مثل هذه الديناميكيات إلى إطالة أمد الصراع، وزيادة ممارسة التوريق المالي والمخاطر الناجمة عنه، لا سيما إذا ما جفت مصادر تمويل آلة الحرب في نهاية المطاف. لعل الاستنتاج الأكثر إثارة للدهشة هو إصرار لاكنر على أن اليمن لا يزال قادراً على النهوض اقتصاديا، لتمتعه بإمكانات في قطاع السياحة والطاقة المتجددة وصيد الأسماك، وهو ما سيتطلب أيضاً استثمارات كبيرة في مجال الزراعة والتعليم، وفتح مجلس التعاون الخليجي أبوابه أمام العمالة اليمنية. قد يكون هذا الاستنتاج صحيحاً، لكن من غير المرجح أن يتحقق نظراً لسوء الإدارة المتجذرة و المستشرية في مختلف القطاعات.
لا يخلو الكتاب من القليل من المماحكة. فمثلا الفصل الذي يتناول تاريخ اليمن لا يستشهد بمصادر كافية. أحياناً، التركيز على الإيجاز والاقتضاب في سرد الرواية يجردها من سياقها لصالح سرد الأحداث. إلا أن سرعة نشر الكتاب ليكون في متناول أيدي المراقبين والممارسين والباحثين هو ما يخلق قيمة مضافة له، لا سيما في ظل تسارع وتيرة التطورات السياسية في اليمن والجهود المستمرة لإنهاء الصراع.
خلاصة القول، ظهر الكتاب في الوقت المناسب من مؤلفة خبيرة في الشأن اليمني، وتميّز بقدرة مؤلّفته على استنباط التفاصيل المهمة ونقلها بوضوح ودقة. في خاتمة الكتاب، لخصت لاكنر النتائج المحتملة للصراع في حال توصل الأطراف المتحاربة الى اتفاق يضع حدا نهائيا للمعارك القتالية. في الفترة التي انقضت منذ تأليف الكتاب، برزت تطورات إيجابية كالهدنة التي أُبرمت بين أطراف الصراع وما ترتب عليها من وقف الأعمال العدائية، إلا أن لاكنر أوضحت في كتابها التحديات الجمة التي تلوح في الأفق حال حدوث أية تغييرات سياسية، والحاجة الماسة إلى مساعدات إنمائية هائلة لمنع تدفق موجات الهجرة الجماعية إلى الدول المجاورة. يوجه هذا الكتاب الهام رسالة تذكير وتحذير، مفادها أنه لا ينبغي التعويل على اتفاق سلام لطي صفحة الحرب إن أرِيدَ لليمن تجنب كارثة أخرى. فهذه النهاية ما هي إلاّ بداية لشيء آخر.
ملاحظة من المحرر: أعيد إصدار نسخة جديدة ومحدثة من كتاب هيلين لاكنر المتميز لعام 2017 “أزمة اليمن: الطريق إلى الحرب”، وهو متاح الآن بعنوان “أزمة اليمن: الصراع المدمر، الأمل الهش”. يتضمن الكتاب ثروة من المعلومات للقراء الذين يبحثون عن فهم أعمق لأسباب الازمة التي تمر بها البلاد وتداعياتها.
أزمة اليمن: الصراع المدمر، الأمل الهش ، بقلم هيلين لاكنر ، مكتبة الساقي ، سنة 2023 ، عدد صفحات الكتاب: 416 ، سعر نسخة الغلاف العادي: 12.99 جنيه استرليني – الرقم الدولي المعياري للكتاب (ردمك) 9780863561931 ، سعر نسخة الغلاف المقوى: 25.00 جنيه استرليني – الرقم الدولي المعياري للكتاب (ردمك) 9780863561931.