لطالما كان التوسع إقليمياً طموحا متجذرا لدى جماعة الحوثيين، ويبدو أنهم أخيراً نجحوا عبر شن سلسلة هجمات بالصواريخ والطائرات المسيرة استهدفت إسرائيل وخطوط الملاحة الدولية في البحر الأحمر. تفاجأ عدد من المراقبين بحجم وتأثير عمليات الحوثيين، بعد أن كانوا يميلون إلى الاستخفاف بالجماعة رغم صمودها نحو عَقْد من الزمن في مواجهة الحملة العسكرية السعودية والإماراتية المدعومة من الولايات المتحدة.
من الصعب إنكار أن عمليات الحوثيين أكسبتهم استحسان العالم العربي والإسلامي، ولا يُستغرب تمكّن سلطات صنعاء من حشد آلاف الأشخاص للتظاهر أسبوعياً تضامناً مع أهل غزة، بل وبلغ الأمر حدّ إشادة بعض من معارضي الجماعة المحليين بتوجّهها حسبما يظهر من تصريح أحد كبار القادة العسكريين الموالين للحكومة مؤخرا في حوار خاص: “يجب أن ندفن الخلافات من أجل فلسطين”. بالنسبة للحوثيين، تُعدّ هذه فرصة ذهبية لاستغلال الدعم الكبير للقضية الفلسطينية وتعزيز شعبيتهم المتضائلة في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، والتحرك من أجل التموضع كسلطة فعلية وحيدة في اليمن أمام العالم الخارجي.
أصبحت وسائل الإعلام الإسرائيلية الآن تصف اليمن بالجبهة الثالثة، في ظل استمرار الاشتباكات في الجبهة الشمالية مع جماعة حزب الله وفي الجبهة الجنوبية بغزّة، ومع التعبئة العسكرية وإجلاء السكان على طول الحدود الشمالية، قد ينكمش الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة تصل إلى 15 في المائة في الربع الرابع من العام الجاري، ويُعزى ذلك جزئيا إلى تغيير سفن الشحن مسارها لتفادي ممر البحر الأحمر، وما ترتب عليه من زيادة في تكاليف التأمين البحري. علقت أغلب شركات الشحن والخدمات اللوجستية العالمية الكبرى حالياً نشاطها في البحر الأحمر الذي يمرّ عبره (وقناة السويس) ما لا يقل عن 30 في المائة من إجمالي سفن الحاويات، الأمر الذي تسبب في تأخر وصول الحاويات إلى وجهاتها، ويُتوقع أن يؤدي إلى تعطيل سلاسل الإمداد وتضخّم أسعار السلع عالمياَ في وقت يتعافى فيه الاقتصاد العالمي من آثار جائحة كورونا وحرب أوكرانيا.
ينتاب القوى الغربية القلق من تداعيات عمليات الحوثيين في البحر الأحمر على الاقتصاد العالمي، ولا يُستبعد أن نشهد رداً عسكرياً في المستقبل المنظور، لكن سيكون من الخطأ اعتبار التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لحماية خطوط الشحن التجارية في البحر الأحمر المعروفة باسم عملية “حارس الازدهار” كعلامة على عدم الرغبة في مواجهة الحوثيين. فرُغم الترويج لتحالف دولي يضم 20 دولة على الأقل للتصدي لجماعة الحوثيين، بدا أن واشنطن لم تتمكن من حشد سوى حلفائها الغربيين المقربين ومملكة البحرين بعد أن اختارت كل من السعودية والإمارات عدم المشاركة – ولو رسمياً على الأقل رغم عدم استبعاد أن تكونا من ضمن ثمان دول على الأقل رفضت الكشف علناً عن انضمامها للتحالف المشار إليه. إلا أن الضغط كبير في واشنطن من أجل التحرك وصدّ هجمات جماعة الحوثيين التي اعُتُبر أنها تجاوزت كل الحدود ووضعت هيبة الولايات المتحدة على المحك – باعتبار الأخيرة الوصي المعلن ذاتيا على ما يسمى بـ “النظام القائم على القواعد”، وفي ظل تهديد الإسرائيليين علنا باتخاذ إجراءات أحادية إذا لم يتحرك طرف آخر لوقف الهجمات.
بات بالإمكان فعلاً تبيُّن معالم نَهْج جديد تجاه اليمن، حتى في تفاصيل الصفقة السعودية- الحوثية المنتظرة، ويبدو أن الولايات المتحدة طوت صفحة جديدة وأصبحت مستعدة الآن لقبول تعاون أوثق مع فصائل الحكومة المعترف بها دوليا، حيث التقى المبعوث الأمريكي الخاص إلى اليمن تيم ليندركينغ بقيادات المجلس الانتقالي الجنوبي لمناقشة أمن الملاحة البحرية في خليج عدن، بينما تموضع عضو مجلس القيادة الرئاسي طارق صالح وقوات المقاومة الوطنية التابعة له كحُماة لمضيق باب المندب من قاعدتهم في المخا المطلة على البحر الأحمر. وعلى المدى المتوسط إلى البعيد، قد تعزّز السعودية والإمارات والولايات المتحدة إمدادات الأسلحة تدريجيا إلى القوات المناهضة لجماعة الحوثيين، بهدف اختبار قدرة الحوثيين على تحقيق المزيد من المكاسب الميدانية – لا سيما في المناطق الساحلية – وتقييد وصولهم إلى الأسلحة الإيرانية والخبرة التقنية.
بدا الحوثيون غير مبالين إزاء استعراض الولايات المتحدة للقوة العسكرية –علنا على الأقل – حيث تعهّدت قيادات حوثية بمواصلة الهجمات لحين توقّف الحرب في غزة، بل وهدّدوا باستهداف السفن الحربية الأمريكية، الأمر الذي قد تترتب عليه تداعيات وخيمة على جهود خفض التصعيد المبذولة منذ العام الماضي، وعلى الاتفاق السعودي -الحوثي المُرتقب، وهو ما انعكس في خطاب زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، الذي حذر بالقول: “لا يتصور الأمريكي أن بإمكانه أن يضرب ضربات هنا أو هناك ثم يبعث بوساطات ليهدأ الوضع”.
أتاحت الهدنة المبرمة في أبريل/نيسان 2022 مُتنفساّ وأملاً لدى المواطنين اليمنيين بقرب انتهاء مأساتهم بعد نحو عَقْد من الحرب، وبالتالي ستكون ضربة قاسية لهم إن بدّد تبجّح الحوثيين بورقة غزة -مهما حظي ذلك بشعبية كبيرة- مسار السلام في اليمن. كلما طال أمد التوترات على البحر الأحمر، زاد خطر تقوّض جهود التهدئة بين الحوثيين من جهة والسعودية والإمارات من جهة أخرى، وينعكس ذلك بالفعل في تهديد الجماعة علناً لأبوظبي. كما لا يجب أن يغيب عن البال أن الضرر الذي لحق بالتجارة العالمية قد يلقي بظلاله على الوضع في اليمن، حيث أن تقييد الوصول إلى البلاد لن يؤدي سوى الى تعقيد عمل وكالات الإغاثة الدولية وزيادة أسعار السلع الأساسية ، وانطلاقا من هذا، تحتاج القوى الغربية إلى التأمل ملياً في تداعيات التدابير العسكرية والاقتصادية التي ستضر باليمن والمنطقة على المدى الطويل، وإن بدت مُغرية حالياً كاستجابة فورية للتوتر الملاحي في البحر الأحمر.
الأهم من هذا كله، يجب وقف الحرب في غزة من أجل ضمان الاستقرار الإقليمي والسماح بتهيئة ظروف مواتية لحلّ الصراع في اليمن ودفع مسار الجهود لذلك قدماً. فالحرب الحالية تؤكد الحاجة الملحة إلى حلّ شامل للقضية الفلسطينية وفقا للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وإلا ستظل المنطقة محصورة في نفق طويل من العنف وانعدام الاستقرار في ظل غياب سلام عادل ودائم.