إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

افتتاحية مركز صنعاء الوكالات الإنسانية كأسرى حرب 

Read this in English

وجدت وكالات الإغاثة الدولية العاملة في اليمن نفسها بمثابة أسرى حرب، إذ تم التأثير على جهودها وتحويل طبيعة عملها من مؤسسات تسعى لتخفيف المعاناة في البلاد، إلى مؤسسات تُستخدم لإطالة أمد الحرب. باعتبار السعودية والإمارات العربية المتحدة أكبر المساهمين في جهود الإغاثة الإنسانية في اليمن، وهما أيضا أبرز دولتين في التحالف العسكري في اليمن، والمدعومتان بشكل كبير من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، فإن هذه الجهود الإغاثية لهما تسمح لهما بالادعاء بإنقاذ أرواح اليمنيين عبر توفير المعونات الغذائية، بينما تقومان على الضفة الأخرى، وفي ذات الوقت بتدمير اقتصاد البلاد وبنيته التحتية، أي القضاء على ما يحتاجه اليمن فعلاً لتأمين غذائه بنفسه. في حال معاناة اليمن من مجاعة واسعة النطاق، سيصبح تبرير الحرب للمجتمع الدولي، وإقناعه بتقبلها أمرا غير ممكن، وبالتالي، فإن توفير أموال الإغاثة يسمح لهما، كطرف مباشر في الصراع، بالاستمرار في تغذيته، سعياً وراء تحقيق غاياتهما المرجوة منه.

في السياق نفسه، وبما أن معظم سكان اليمن يقطنون في مناطق شمال البلاد الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، فإن معظم المعونات يتم إرسالها إلى هذه المناطق لتصبح تحت هيمنة جماعة الحوثيين المسلحة، وهي الطرف الآخر في الصراع، فقد طوق الحوثيون وكالات الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة بإحكام، وأمست جهود الإغاثة، التي بلغت كلفتها عام 2019 حوالي 4 مليار دولار أمريكي، مصدرًا رئيسياً للدخل، وفقا لشروط فرض الهيمنة الحوثية، ووسيلة لخدمة المجهود الحربي للجماعة.

أصبح الوضع على ما هو عليه نتيجة تنازل الوكالات الأممية ووكالات الإغاثة عن مبادئها الموجهة لجهود العمل الإنساني بشكل كبير، لمحاولة تأمين الوصول إلى السكان المحتاجين بإرضاء سلطات الحوثيين. هذه التنازلات تعني إن الجهات الفاعلة الإنسانية ساهمت في نهاية المطاف بتوفير مصادر دخل للحوثيين، ما ساعدهم على الاستمرار في ممارستهم التي تشمل استخدام التجويع كوسيلة من وسائل التحكم بالمواطنين خلال الحرب، وتجنيد الأطفال في القتال، وزرع ملايين الألغام الأرضية في المناطق السكنية، وحملات الاعتقال الفردية والجماعية، فضلاً عن التعذيب الجسدي والمعنوي، ليشمل العنف الجنسي حسب تقارير دولية ومحلية.

قال عاملون في المجال الإنساني لمركز صنعاء، إنه فور وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق الشمالية، تقوم سلطات الحوثيين بفرض تعليماتها على المنظمات الأممية والمنظمات الدولية غير الحكومية، حتى على مستوى كيفية تخزين ونقل هذه المعونات، وأين ومتى، وعلى من توزع. إضافة إلى استغلال هذه السلطة لمصالح شخصية، تستغل قوات الحوثيين تحكمها في وصول المساعدات إلى من تريد وقطعها عمن تريد، لتجنيد مقاتلين من المجتمعات التي تعاني من الجوع، ولمكافأة من يدعمها أو معاقبة من يعارضها في المناطق الشمالية. كما يستخدم الحوثيون هذه المساعدات لجني المال عبر بيعها في السوق. يساعد الجماعة على هذا، فساد موظفي الإغاثة أنفسهم في بعض الأحيان، إذ كشف تقرير للأسوشيتد برس عام 2019 عن قيام مجموعة صغيرة من الموظفين الأجانب باختلاس ملايين الدولارات من منظمة الصحة العالمية. وفي هذه الأثناء، أصبحت محاولات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية غير الحكومية للتأكد من تلقي المساعدات ومراقبة توزيعها وجمع البيانات الأساسية لتقييم احتياجات السكان مستحيلة تقريبًا، بسبب التأخير الناجم عن الإجراءات البيروقراطية التي يفرضها الحوثيون، والقيود التي يضعونها على وصول المعونات، ورفض إعطاء التصاريح اللازمة للعمل والانتقال في حال عدم الخضوع لشروطهم.

بالرغم من نشر الأمم المتحدة بشكل منتظم بيانات توضح عدد الأفراد الذين يواجهون خطر المجاعة الوشيكة، أو يعانون من انعدام الأمن الغذائي، أو يحتاجون إلى مساعدة إنسانية، فإنه من الصعب للغاية التحقق من دقة هذه الأرقام من خلال المسوح الاحصائية الميدانية. وتشير الأدلة إلى أن بعض الاحتياجات قد تم تضخيمها في بعض المناطق بهدف حشد المزيد من الموارد، بينما تم تجاهل مناطق أخرى وحرمانها من العديد من الخدمات. وبعبارة أخرى، لا يوجد بيانات حاسمة لتأكيد صحة الادعاء الشائع بأن اليمن يشهد “أكبر أزمة إنسانية في العالم”، ولكن عوضاً عن ذلك قد يكون ما نشهده هو بالفعل أسوأ استجابة لأزمة إنسانية في العالم.

لا شك أن هناك حاجة ماسة للمعونات الإنسانية في اليمن، ولكن الكثير من موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية العاملين في الميدان – وهم أكثر الأشخاص دراية بالوضع – فقدوا الثقة في أن جهود الإغاثة، على النحو الحالي، تساعد في تخفيف حدة الأزمة. في أحسن الأحوال، فإن هذه الإغاثة تحقق هدفها في توفير الاستمرارية المؤقتة إلى بعض اليمنيين، ولكن يأتي هذا مقابل معاناة إلى أجل غير مسمى ضمن صراع طويل.

التهديدات الدولية الأخيرة بسحب أموال المساعدات من المناطق الشمالية، إذا لم تخفف سلطات الحوثيين من ممارساتها التي تخنق جهود الإغاثة حققت بعض النجاح، فعلى سبيل المثال وافق الحوثيون على التراجع عن الاقتراح بفرض ضريبة قدرها 2% على جميع النفقات الخاصة بالعمليات الإنسانية. ولكن بحسب بعض المؤشرات، فإن الحوثيين يسعون إلى إيجاد طرق أخرى لخصم هذه الأموال من وكالات الإغاثة. وحتى في ضوء هذه المستجدات، بدا أن استجابة الجهات الإنسانية الفاعلة محفوفة بالمخاطر الأخلاقية. وفي الواقع، فإن ما أضعف الجهود الإنسانية برمتها هو خوف الأمم المتحدة من فقدان قدرتها على الوصول إلى المناطق التي تحتاج إلى مساعدات. رغم هذا، فلم تقم الأمم المتحدة بمواجهة الحوثيين بطريقة مُجدية إلا العام الماضي، بعد أن اضطرت لفعل ذلك تحت تأثير انتشار تقارير إعلامية تكشف عمليات السرقة المتفشية والمنهجية للمعونات الغذائية. استمرت المحادثات بين برنامج الأغذية العالمي، الذي يحصل على نصيب الأسد من أموال المساعدات، وسلطات الحوثيين، بخصوص تطبيق نظام التسجيل الحيوي للمستفيدين من المساعدات معظم شهور العام الماضي، دون التوصل إلى أي نتائج ملموسة.

في الوقت نفسه، استمر الحوثيون بتشديد قيودهم على الجهود الإنسانية. وبعد فشل الجهود التي بذلتها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وراء الكواليس، في إقناع الحوثيين بتغيير مسارهم فيما يخص المعونات، قام المانحون – وتعتبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أكثرهم تصدرا – بالتهديد علناً بسحب التمويل الذي يؤمنونه لعمليات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في اليمن، بهدف إجبار الحوثيين على تقديم التنازلات اللازمة.

مما لا شك فيه، أن المسؤولية الملقاة على رؤساء وكالات الأمم المتحدة خلال سنوات الصراع الطويلة في اليمن كانت ضخمة، والخيارات أمامهم كانت صعبة للغاية، ولكنهم، في نفس الوقت، من المفترض أن يكونوا حاملي المبادئ الإنسانية في العالم. وفي هذا الصدد، فقد تخلت الأمم المتحدة عن مسؤوليتها في اليمن. وبوجود مثل هذا الفراغ، سيدخل المانحون – وأكبرهم من المحاربين النشطين ضمن طرف واحد من الصراع – على المشهد. يشكل هذا سابقة جديدة وخطيرة، ويضعف قدرة الأمم المتحدة على توجيه جهود الإغاثة حسب الاحتياجات، وبشكل مستقل عن الأهداف السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية أو غيرها، للجهات الفاعلة في الحرب.


ظهرت هذه الافتتاحية في التقرير الشهري “الحرب على المعونات” – تقرير اليمن، يناير – فبراير 2020

افتتاحيات مركز صنعاء السابقة:

البرنامج / المشروع: تقرير اليمن
مشاركة