مع اقتراب المحادثات السعودية- الحوثية المباشرة خطوة أخرى من وضع خارطة طريق لمفاوضات شاملة يتبعها وقف دائم لإطلاق النار، تبرز أهمية إبرام اتفاق التسوية على أساس سليم. فتاريخ اليمن الحديث يُعيد إلى الأذهان نماذج من عمليات سلام ذهبت في مهب الريح، بسبب استمرار دورات العنف وإراقة الدماء نتيجة تعثر المسار الدبلوماسي الهش الساعي إلى خفض التصعيد ورأب الصدع بين الأطراف المتناحرة. كان هذا هو المصير الذي آلت إليه انتفاضة عام 2011 بعد فشل حكومة الرئيس السابق علي عبد الله صالح في سحق الاحتجاجات الشعبية ضد نظامه، وبلورة عملية سلام برعاية مجلس التعاون الخليجي تضمنت تنحي الرئيس السابق لصالح نائبه عبد ربه منصور هادي وإطلاق مؤتمر الحوار الوطني. إلا أن ذلك لم يفضِ سوى إلى انزلاق البلاد نحو مزيد من الفوضى.
من الضروري فهم الأسباب لضمان عدم تكرار نفس السيناريو. فبعض الأخطاء كانت واضحة في التجربة الماضية، حيث استمر النظام السابق في الحُكم ما أعطى صالح متنفساً للتخطيط للإنتقام. فشل مؤتمر الحوار الوطني في معالجة مظالم الماضي لعدد لا يحصى من اليمنيين في شتى مناطق البلاد، بينما استمرت حلقة العنف السياسي طوال العملية التي كانت تُدار بعناية من قبل قوى خارجية مدفوعة بمصالحها الخاصة وبُعد نظرها المحدود فيما يتعلق بتشكيل مستقبل جديد لليمن واليمنيين.
الخطأ الأساسي كان يكمُن في الفشل في تحقيق العدالة – أولا وقبل كل شيء للمواطنين العاديين الذين عاشوا تحت نظام حُكم استبدادي لعقود من الزمن، لا سيما أولئك الذين قُتلوا وأصيبوا خلال انتفاضة عام 2011 بعد لجوء قوات الأمن إلى استخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين في الأسابيع الأولى لاندلاع الاحتجاجات. تطور العنف حينها إلى مستويات جديدة بعد أن قتل قناصة تابعين لنظام صالح ما لا يقل عن 45 شخصا في تظاهرة بصنعاء يوم 18 مارس/آذار سُميت بـ “جمعة الكرامة“. في المجمل، لقي أكثر من 2000 شخص حتفهم قبل أن يؤدي هادي اليمين الدستورية كرئيس، لكن رغم ذلك مُنح القادة السياسيون والعسكريون الذين خدموا الحكومة لفترة طويلة الحصانة من أي ملاحقة قضائية في إطار عملية نقل السلطة. ورغم الانتقادات الصامتة من مسؤولي الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية لتلك الصفقة، أفلت مرتكبو تلك الجرائم دون عقاب مما أدى إلى تفاقم المظالم.
المؤسف أن أحد مكامن الخلل في مؤتمر الحوار الوطني كان الفشل في تنفيذ إجراءات العدالة الانتقالية بشكل حقيقي من قبل مجموعة العمل تم تشكيلها للتعاطي مع هذا الجانب. أصبحت جرائم الموت والإفلات من العقاب أمرا طبيعيا ولم يعالج اليمن حتى الآن أيا من تلك المظالم. قدرت وكالات الأمم المتحدة عدد ضحايا الحرب منذ عام 2014 بما لا يقل عن 150 ألف شخص، إلا أن الرقم قد يصل إلى 377 ألفا على الأقل إذا تم أخذ تداعيات المجاعة وتفشي الأمراض في الحسبان. هذه الإحصائيات لا تشمل الأعداد التي لا تعد ولا تحصى من اليمنيين ممن قتلوا بالقصف العشوائي والمتعمد للأحياء المدنية، وبانفجارات الألغام الأرضية التي زُرعت دون أدنى مبالاة بسلامة المواطنين، وفقدوا أرواحهم جراء بطش الفصائل المتحاربة.
التقاعس عن لملمة جراح الماضي هي الواقع المألوف في اليمن ودول أخرى. ففي أعقاب إبرام اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، أقرّ لبنان قانون عفو يمنح الحصانة من الملاحقة القضائية لمرتكبي جرائم الحرب، وبالتالي قايض العدالة باستقرار مؤقت. على نحو مماثل، لا يزال اليمن يعاني من معضلة تاريخية ألا وهي الفشل في التعامل مع المظالم السياسية والاجتماعية. ظلت الاحتقانات القبلية والأيديولوجية التي أشعلت الحرب الأهلية في جنوب اليمن في كانون الثاني/يناير 1986 قنبلة موقوتة انفجرت مرة أخرى في حرب عام 1994 بعد توحيد شطري اليمن، ولا يزال نفس هذا الاحتقان يغذي التنافس السياسي في الجنوب حتى يومنا هذا.
تفاقم الوضع في اليمن مع الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت خلال الحرب الراهنة، والتي تصب الزيت على نار العداوات الموروثة من الماضي، الأمر الذي يشكل تحدياً كبيرا في استعادة الحقوق والتوسط لفض النزاعات على المستوى الفردي والجماعي، لأسباب ليس أقلها دور القوى الخارجية في حرب اليمن. إلا أن الطبيعة الشاقة للمهمة لا ينبغي أن تصبح عذراً لتأخير أو تهميش هذه القضية الجوهرية، فكسر حلقة العنف يصب في مصلحة جميع اليمنيين.
من هذا المنطلق، يتعيّن على المجتمع الدولي عدم التحجج بمخاوفه من الإساءة إلى الفصائل المتحاربة وإفساد محادثات السلام لعدم وضع إجراءات العدالة الانتقالية في صميم أجندته المتعلقة باليمن. نادرا ما يذكر كبار الدبلوماسيين الأجانب هذه المسألة، وينعكس الأمر بشكل جليّ في عدم تعيين مكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة مسؤولا لإدارة هذا الملف حتى العام الماضي. تجدر الإشارة إلى أن فريق خبراء الأمم المتحدة الدوليين والإقليميين البارزين بشأن اليمن تناول بوضوح هذه القضايا في تقريره الثالث عن اليمن والذي صدر تحت عنوان “جائحة الإفلات من العقاب في أرضٍ معذبة“.
من الأهمية بمكان عدم مقايضة العدالة بالأمن هذه المرة، وهو ما سيتطلب ضرورة استيفاء شرطين أساسيين: أولا، يجب ودون تأخير تحويل المحادثات إلى عملية شاملة تضم كافة الأطراف اليمنية وبرعاية الأمم المتحدة، وأن لا تقتصر فقط على مجلس القيادة الرئاسي وجماعة الحوثيين؛ ثانيا، يجب على مكتب المبعوث الأممي الخاص ضمان بقاء مسألة العدالة الانتقالية في صميم أجندته. هذا هو الحد الأدنى المطلوب لتجنب تسوية سياسية ناقصة تهدد بالانزلاق إلى دوامة صراع جديد نتيجة مشاعر الاستياء والسخط المتأجج والمظالم التي لم يبت فيها بعد.