بطرق عدة، مارس الرئيس اليمني الأسبق علي عبدالله صالح سلطاته كحاكم مطلق، بشكل تجاوز في كثير من الأحيان صلاحياته الدستورية، واكتسب ذلك من عادات ممارسة الحكم الفردي في اليمن منذ عهد الإمامة الذي ورثته الجمهورية وتكيفت معه. الآن، انقلبت الأحوال وانتقل اليمن من مفهوم حُكم الرئيس صاحب الصلاحيات المطلقة إلى رئيس صوري يخدم مصالح قوى خارجية أو داخلية ذات نفوذ.
بعد إزاحة صالح من السلطة عام 2012 وتعيين الرئيس عبدربه منصور هادي رئيسًا توافقيًا بموجب المبادرة الخليجية، تطلعت النخبة السياسية اليمنية -بحكم الممارسة السياسية اليمنية التقليدية -إلى تقلد هادي منصبه كحاكم مطلق الصلاحيات، لكن شخصية الأخير الخاملة والضعيفة لم تساعد كثيرًا في تلبية التطلعات في مرحلة حرجة من تاريخ اليمن.
بعد عامين على المرحلة الانتقالية تحت حكُم هادي، التي انشغل فيها بلقاء السفراء الغربيين أكثر من مقابلة الشخصيات اليمنية الفاعلة، بدأت مرحلة جديدة لتجريد الرئيس من صلاحياته مع استيلاء الحوثيين على صنعاء في سبتمبر/ أيلول 2014. في البداية، كانت خطة الحوثيين الإبقاء على هادي رئيسًا كواجهة شرعية لاستيلائهم على السلطة، وهو دور تقبله هادي بيُسر حتى لو عنى ذلك إحراج نفسه أمام عامة الشعب مثلما حدث حين رفض الحوثيون علنًا محاولة هادي تعيين رئيس وزراء في أكتوبر/تشرين الأول 2014.
تدهورت العلاقة بين هادي والحوثيين في يناير/ كانون الثاني 2015 حين حاول هادي تمرير مسودة دستور يتبنى نظام حُكم فيدرالي يقسم اليمن إلى ستة أقاليم وهو ما عارضه الحوثيون. رغم أنها لم تكن مسودة نهائية، قرر الحوثيون الرد بعنف مختطفين مدير مكتب الرئيس هادي آنذاك. تصاعد الوضع إلى اشتباكات انهارت على إثرها قوات الحماية الرئاسية، أكبر وحدات الجيش اليمني في صنعاء حينها. بعد رفضه التوقيع على قرار تعيين نائب له موالٍ للحوثيين، اضطر هادي للاستقالة، ثم فرّ إلى عدن في فبراير/ شباط 2015، ثم لسلطنة عمان ومنها إلى السعودية، ليعقب ذلك إطلاق الرياض عاصفة الحزم في 26 مارس/ آذار من نفس العام. ورغم بقاء هادي في سدة الرئاسة لما يزيد عن سبع سنوات أخرى، كان رئيسًا بلا صلاحيات ومجرد واجهة شرعية وغطاء للتحالف وعملياته العسكرية في اليمن، بالتالي لم يظهر أي أسى أو انزعاج، حتى من دائرة المقربين منه، إثر قرار عزله من منصبه بأوامر سعودية في ليلة رمضانية شهر أبريل/ نيسان الماضي.
تلى ذلك تعيين رشاد العليمي كرئيس لمجلس القيادة الرئاسي، الكيان المؤلف من سبعة أعضاء آخرين يمثل كل واحد منهم إما عصبية اجتماعية -سياسية أو قوى مسلحة، فيما عدا رشاد العليمي حيث ينحدر من خلفية مناطقية متنازع عليها، هي تعز، ولا تقف وراءه أية قوة مسلحة تخضع لإمرته المباشرة. ورغم منح العليمي صلاحيات كبيرة كرئيس لمجلس القيادة الرئاسي، لكنه لا يمتلك القوة الفعلية التي تمكنه من ممارسة هذه الصلاحيات.
قد يصعب المقارنة بين الظروف التي اعتلى خلالها هادي سدة الرئاسة، والظروف التي عُيِّن فيها العليمي رئيسًا لمجلس القيادة الرئاسي. الأول تولى منصبه في فترة كان يتمتع فيها الرئيس بصلاحيات مطلقة في أذهان الناس، وسيطرة على مقدرات الدولة من جيش وأمن ومؤسسات، فضلًا عن تمتعه بدعم دولي ومحلي لسلطته، بينما يختلف الأمر بالنسبة للثاني الذي انتقلت إليه صلاحيات الرئيس بصيغة مجلس ذي قيادة جماعية مشحون بالانقسامات ويفتقر لقوة مسلحة تحت سيطرته مقابل المليشيات الأخرى الموجودة على الأرض.
الأهم من ذلك، أن المجلس يفتقد للشرعية التي كانت مصدر قوة هادي الوحيدة أمام التحالف الذي تقوده السعودية، والتي مكنته من المناورة السياسية أحيانًا. وبما أن المجلس شُكل بإرادة ورغبة دولتي التحالف الأساسيتين (السعودية والإمارات)، فإن بقاء أعضائه في مناصبهم مرهون برضا هاتين الدولتين.
لم ينقض وقت طويل حتى بدأت التوترات المكتومة بين أعضاء مجلس القيادة الرئاسي في الانفجار، آخرها الصراع على محافظة شبوة الغنية بالنفط بين القوات الموالية للمجلس الانتقالي الجنوبي (المدعوم إماراتيًا) من جهة وقوات الجيش الرسمي التي يهيمن عليها حزب الإصلاح من جهة أخرى. تسيطر القوات الموالية للمجلس الانتقالي على عدن، العاصمة المؤقتة التي يقيم فيها رئيس وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي. ترددت أقاويل إن رئيس المجلس الانتقالي عيدروس الزُبيدي يتعامل مع أعضاء مجلس القيادة الرئاسي كضيوف، أو إن صح التعبير كرهائن لديه، كونهم تحت حماية قواته المسلحة.
بناء على كل هذه الظروف، يواجه رئيس مجلس القيادة الرئاسي سيناريوهين: الأول هو تحوله لرئيس صوري يعمل كغطاء لهدف المجلس الانتقالي المتمثل في فرض سلطته المطلقة على كافة مناطق جنوب اليمن، وهو موقف مشابه لوضع الرئيس هادي حين كان في صنعاء تحت رحمة ميلشيات الحوثي. نتيجة هذا المسار معروفة، ففي أقل من أربعة أشهر اضطر هادي للاستقالة خشية التخلص منه أو ربما اغتياله.
السيناريو الثاني أمام العليمي، هو فرض سلطته وممارسة صلاحياته كاملة كرئيس لمجلس القيادة الرئاسي، وهذه ليست بالمسألة الهينة حيث تحتاج لقدر كبير من الصبر والجرأة والخيال السياسي، الذي ربما يفتقده شخص جل خبرته في العمل كتكنوقراطي يعمل بالظل.
على العليمي أن يعي جيدًا أنه امتداد لنهاية عهد سلفه، فرغم صعود هادي للسلطة بشكل شرعي وتمتعه باعتراف دولي، إلا أن شرعيته في الداخل تلاشت تدريجيًا مع مرور الوقت حتى أصبحت معدومة بآخر سنوات حُكمه. هذه نتيجة طبيعية لانشغال هادي بشرعيته الدولية، وقضاء سبع سنوات من حكمه خارج بلده؛ بالتالي كانت شرعيته مجرد منحة من قوى خارجية، مشروطة بخدمة مصالحها.
في ضوء ابتداع ممارسة السلطة من المهجر خلال سنوات حُكم هادي، من المهم وجود أعضاء مجلس القيادة الرئاسي في عدن. لكن حتى الآن، قضى رئيس المجلس معظم فترته في زيارات لبلدان أخرى، مجازفًا بتكرار الخطأ القاتل لسلفه، حيث تعطي هذه الزيارات الطويلة للخارج انطباعًا بأن العليمي يسير على خطى سلفه في الانشغال بالاعتراف الدولي كأولوية بالنسبة له.
على العليمي اكتساب الشرعية الداخلية حتى يتمكن من التمتع بسلطة تؤهله لممارسة صلاحياته فعليًا وتجنب العمل كغطاء لأطراف فاعلة أخرى. هذه الشرعية لن تأتي إلا من خلال تلبية الحد الأدنى من مطالب الناس الاقتصادية والخدمية. صحيح أن المجلس يشعر بالإحباط من غياب أي دعم مادي خارجي وعدم وفاء دولتي التحالف السعودية والإمارات بتعهداتهما المالية، لكن عبر ترشيد الإنفاق والاستفادة من كافة مصادر الدخل المتاحة للحكومة، يمكن للمجلس ورئيسه تحسين الأوضاع الخدمية والاقتصادية إلى حد ما.
إن تعطّل مؤسسات الدولة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة تُعد إشكالية كبيرة أدت لاستشراء الفساد على نطاق أوسع وإهدار الموارد المحدودة للدولة. يُعزى التعطّل جزئيًا لعدم وجود بنية مؤسسية جراء المركزية الشديدة التي حكمت بها الدولة في عهد صالح، كما تفاقم الأمر خلال فترة الحرب بسبب التعيينات العشوائية القائمة على الولاء والمحسوبية، فضلًا عن الإدارة العبثية غير المسؤولة.
على هذا الأساس، من الضروري إعادة الاعتبار للعمل المؤسسي والتوقف عن التعيينات التي لا داع لها حتى يقل حجم الإهدار والفساد المالي لدولة تعيش على المساعدات الخارجية. على العليمي أن يتصرف كقائد يولي أولوية لممارسة عمله من عدن، مقر الحكومة الفعلي. وبدلًا من أن يراه اليمنيون برفقة مسؤولين وحكام خارجيين، ينبغي عليه زيارة المحافظات اليمنية الواقعة تحت سيطرته للاطلاع عن كثب على المشاكل المحلية وإقامة روابط مع المجتمع اليمني.
أما إذا استمر العليمي بالسير على خطى سلفه وقضاء جل وقته في الخارج معولًا على الاعتراف الدولي للبقاء في منصبه، فعليه إدراك أنه قد يواجه مصيرًا أسوأ من كونه مجرد واجهة بلا صلاحيات. فر سلفه من العاصمة بسبب الحوثيين وانتهى به المطاف بعزله من منصبه على يد التحالف الذي تقوده السعودية، ولا يستبعد أن يكرر التاريخ نفسه إذا ما قرر المجلس الانتقالي الجنوبي الاستغناء عن الغطاء الذي يوفره العليمي أو أن الرياض وأبو ظبي قررتا تغيير مسارهما.