لا تخفى أهمية الحفاظ على الهدنة القائمة في اليمن منذ خمسة أشهر والحاجة الملحة لإيلائها أولوية، بالنظر إلى المصلحة التي عمّت جميع اليمنيين. فبَعد حرب مدمرة مستمرة منذ أكثر من سبع سنوات، جلبت الهدنة معها حالة ارتياح اقترنت بتهدئة على خطوط المواجهة وتعليق الغارات الجوية، وإعادة فتح ميناء الحديدة للسماح بدخول شحنات الوقود، واستئناف الرحلات الجوية من وإلى العاصمة صنعاء. رغم ذلك، ظلت الهدنة أبعد ما تكون عن المثالية حيث لم تخلُ من المناوشات المحدودة والتحركات الخفية للأفراد والآليات الحربية، لاسيما في مناطق تعز ومأرب. في 25-26 أغسطس/آب، شنت قوات الحوثيين هجومًا في تعز محاولة وضع يدها على آخر طريق رئيسي إلى المدينة تسيطر عليه الحكومة، ما دفع ممثلي الأخيرة للانسحاب من محادثات عمّان وأثار شجب شديد من المبعوث الأممي إلى اليمن. مع هذا، يصمم اليمنيون على عدم انهيار الاتفاق الحالي بوقف الأعمال العدائية.
غير أن إمكانية انهيار الهدنة باتت تلوح الآن أكثر من أي وقت مضى، رغم تمديدها لشهرين آخرين أوائل آب/أغسطس إثر فشل الطرفين المتحاربين في الاتفاق على المقترح الذي طرحته الولايات المتحدة على الطاولة (بتأييد من السعودية) لإبرام هدنة موسعة تمتد لستة أشهر. تعثرت المحادثات حول المقترح بسبب القضايا العالقة ذاتها منذ بدء سريان الهدنة، وهي مطالب الحكومة بإعادة فتح الطرق المؤدية إلى تعز تماشيًا مع الاتفاق الأساسي بفتح المنافذ والطرقات كخطوة أولى، وحل المشكلة المتعلقة بتراتبية الشروط المطلوب استيفائها في ظل إصرار الحوثيين (بعد الهدنة) على الوفاء أولًا بسداد رواتب موظفي الدولة. رفض الحوثيون سابقًا مقترحًا للأمم المتحدة بإعادة فتح الطُرق المؤدية إلى تعز وغيرها من المحافظات على مراحل، والآليات المقترحة لسداد رواتب موظفي القطاع العام في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، وزيادة عدد وجهات الرحلات المنطلقة من مطار صنعاء. تنحو العملية العسكرية التي شهدتها تعز مؤخرًا إلى تأكيد التكهنات بتأهب الحوثيين لإنهاء الهدنة، وهو أمر إن حدث سيشهد على الأرجح تحرك الجماعة في تعز لاستباق أي تحركات للقوات الموالية للحكومة على الساحل الغربي، وشنها هجوم آخر على حقول النفط في مأرب لضمان قاعدة موارد تعزز قدرة سلطتها في شمالي اليمن على البقاء. يُحتمل أن يتشجع الحوثيون على المبادرة بصفقة سلام تنطوي على تقسيم البلاد فعليًا إلى شطرين مع توسّع نفوذ المجلس الانتقالي الجنوبي في جميع مناطق الجنوب عقب طرده القوات الموالية للإصلاح من شبوة في أغسطس/آب.
تظل هناك ديناميكيات على كلا الجانبين يمكن أن تدفع باتجاه الحفاظ على الهدنة. رغم الموقف المتشدد الذي تتخذه جماعة الحوثيين، فإنها ما تزال تحت وطأة ضغط للتخفيف من التدهور الاقتصادي داخل المناطق الخاضعة لسيطرتها، وهي قضية تهدد بتأجيج المعارضة بين السكان الذين يبدون أقل استعدادًا من أي وقت مضى لالتزام الصمت كواقع تفرضه الحرب. كدليل على هذه التوترات، حذر زعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي مؤخرًا -في خطاب متلفز -من تنظيم الاحتجاجات والإضرابات المنددة بعدم سداد الرواتب وتراجع الخدمات. وفي ظل انقسامات مجلس القيادة الرئاسي -التي أماطت المعارك القتالية في الجنوب اللثام عنها -بات رئيسه رشاد العليمي بحاجة ماسة إلى تحقيق انتصار، وإن كان هذا الانتصار ينطوي على إبرام سلام طويل الأمد يُبقي الطائرات المسيّرة والصواريخ الحوثية خارج المجال الجوي السعودي، ومن المؤكد أن الرياض -أبرز داعم خارجي للعليمي -سترغب به أيضًا. بعبارة أخرى، هناك فرصة لدفع الأطراف نحو التعاون عوضًا عن التناحر.
بالإمكان بلورة الخطوط العريضة لحلٍّ وسط: إن أقرّت سلطات الحوثيين بضرورة إعادة فتح الطُرق كجزء من عائد سلام يُمنح للمواطنين العاديين، فعلى الحكومة إعطاء أولوية لتلبية مطالب الحوثيين فيما يتعلق بسداد الرواتب. تركزت تلك المطالب في آلية مماثلة لتلك المستنبطة من اتفاق ستوكهولم المُبرم عام 2018، حيث اتفق الطرفان على إيداع الإيرادات المتأتية من مداخيل ميناء الحديدة في حساب لدى فرع البنك المركزي اليمني بالمحافظة تحت إشراف الأمم المتحدة. وفي حين فشل ذلك الاتفاق -في ظل اتهام الحكومة الحوثيين باختلاس الأموال لأغراض عسكرية وعدم سداد الرواتب -رفعت السلطات الحوثية مؤخرًا سقف مطالبها؛ داعية إلى أن تشمل المدفوعات موظفي الخدمة المدنية العاملين منذ عام 2014 أيضًا. في هذا السياق، يتعيّن على الوسطاء أخذ زمام المبادرة والدفع بحثِ الأطراف على النظر في كيفية وضع آلية ناجحة لسداد الرواتب تضم تفاصيل حول النسب المئوية (من إجمالي التكلفة المرتبطة بفاتورة رواتب موظفي القطاع العام) التي سيتم تغطيتها من مصادر الإيرادات المختلفة، وتحديد الجهة المسؤولة عن تلك المصادر. قد تشمل تلك المصادر مثلًا، موانئ الحديدة، وقطاع النفط والغاز، والضرائب المفروضة على الأنشطة التجارية، وقطاعي الاتصالات والطيران المدني. يمكن إيداع المبالغ المتفق عليها في حساب ائتماني تشرف عليه هيئة مستقلة. تجدر الإشارة إلى أن سلطات الحوثيين في صنعاء تتمتع بالقدرة على الوصول إلى أموال الجهات المانحة التي تسمح لها بتحمل الجزء الأكبر من فاتورة الرواتب، فضلًا عن تحصيلها إيرادات أكثر من الحكومة على المستوى المحلي.
من المهم الأخذ بعين الاعتبار أن التوصل إلى اتفاق يستند إلى هذه الأسس لن يعني فقط إنقاذ الهدنة -التي لا يتم المغالاة في التشديد على أهميتها باعتبارها أولوية لملايين اليمنيين -بل سيشكل أيضًا نموذجًا لحل القضايا الأخرى القائمة حاليًا التي تحول دون التوصل إلى تسوية أوسع نطاقًا ووضع البلاد على المسار الصحيح. من ناحية، يمكن أن تعزز مكانة الأطراف المعتدلة في صنعاء من بمقدورهم تسليط الضوء على المنافع الاقتصادية لإيجاد الحلول عوضًا عن استمرار المواجهات. تتجلى مغريات كثيرة لدى الجانبين بنبذ المسار الدبلوماسي الحثيث، لكن ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا الفرصة المتاحة حقًا للتوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض. هناك همزة وصل بين العوامل الداخلية والحسابات على الأرض، حيث قد تؤدي من ناحية إلى انهيار الهدنة أو من ناحية أخرى إلى ترسيخ السلام وضمان استدامته إذا ما تم الأخذ بالخيارات السليمة والمشورة الصائبة. الوقت الآن لم يعُد وقت التراخي وتشتت التركيز.