على مدى سبعة عقود، استغل زعماء وخبراء من اليمن والسعودية التباينات وتضارب المصالح بين البلدين للترويج لعلاقات وسياسات تشوبها الخصومة وغالبًا ما تتسم بالعدائية. عادة ما شملت أوجه التضارب المُشار إليها بين الدولتين: نظام جمهوري مقابل نظام ملكي، ودولة فقيرة مقابل دولة غنية، وسياسات يسارية مقابل سياسات يمينية، وفوضى مقابل استقرار، الخ. يعتمد اليمن -وما يزال -على التحويلات المالية من عمالته المهاجرة في السعودية من أجل ديمومته الاقتصادية، في حين اعتمدت السعودية على العمالة اليمنية الزهيدة خلال الطفرة العمرانية الأولى التي شهدتها خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وما تزال معتمدة عليها حتى اليوم في جزء كبير من قطاع الخدمات، إلا أن مسار العلاقات بين الدولتين كان متجهًا نحو التصادم.
يُظهر استعراض سريع لأوجه التباين المذكورة أعلاه كم أنها واهية. فحجة النظام الجمهوري مقابل النظام الملكي لا أساس لها. خلال العقد الأخير من حُكمه، كان علي عبدالله صالح استبداديًا شأنه شأن أي من عواهل المنطقة، وكوّن أفراد أسرته وأصهاره وحلفاؤه المقربون طبقةً أرستقراطيةً ذات امتيازات. كان العديد من زعماء أنظمة الحُكم الجمهوري في المنطقة أكثر استبدادًا بكثير من أي عاهل أو أمير في المنطقة. أما بالنسبة للعبة الجيوسياسية العالمية التي برزت خلال الحرب الباردة، فقد انتهت بالفعل بحلول يوم قيام الوحدة. التوجس السعودي من التحول الديمقراطي في اليمن -والذي كان منطقيًا في السنوات الأولى من قيام الجمهورية -فقد منطقيته بحلول منتصف تسعينيات القرن الماضي حين شرع صالح بتعديل الدستور لتركيز السلطة في يده، ووضع حدًا فعليًا لإمكانية حدوث مثل هذا التحوّل مع الانتخابات البرلمانية لعام 2003 التي فاز فيها حزبه بأغلبية خانقة عبر استغلال موارد الدولة والتزوير السافر.
مخالفًا لما يخطر في البال، كان الاستبداد الذي يحبذه السعوديون سببًا رئيسيًا في تدهور العلاقات بين اليمن السعودية. لطالما نظر صالح إلى العلاقة الرسمية القائمة بين البلدين باعتبارها منافسة شخصية مع الأسرة السعودية المالكة، وتصرّف باستخفاف شديد تجاه مشورة مستشاريه ومصالح ملايين اليمنيين الذين كانوا يعتمدون على التحويلات المالية من السعودية. وكثيرًا ما كانت صداماته المتكررة مع السعوديين وسيلة لابتزازهم، مما أفسد العديد من مساعي القطاع الخاص السعودي للاستثمار في اليمن. وأُحبطت الرغبة السعودية في فتح صفحة جديدة بعد توقيع معاهدة الحدود عام 2000 بسبب سلوك صالح الملتوي تجاه السعودية، والذي تضمن تهريب الأسلحة إلى الأراضي السعودية وتوفير ملاذ آمن للإرهابيين المصنفين من قبل السعودية.
إلا أن صالح لم يكن المذنب الوحيد في العلاقات المتدهورة بين الدولتين الجارتين. عزا اليمنيون حُسن النية التي أظهرها السعوديون إلى الملك الراحل عبدالله، بينما لم يبدِ أخوه غير الشقيق نايف، ونجل الأخير محمد بن نايف، الذي تولى الملف اليمني لفترة من الوقت، أي حُسن نية. في عام 1994، بعد فشل السعودية الذريع في تحقيق انفصال جنوب اليمن، جادل الأمير نايف بأن نهج الأمير سلطان المُكلِف والمتمثل في الحفاظ على شبكة واسعة من العملاء داخل القيادات العسكرية والمدنية والقبلية في اليمن -من خلال اللجنة الخاصة المعنية بالشؤون اليمنية -لم يعد ناجحًا. انتزع نايف السيطرة على اللجنة الخاصة وميزانيتها الضخمة من شقيقه سلطان، وشن على الفور حملة من الاغتيالات وعمليات التخريب في جميع أنحاء اليمن. اعترف نبيل ناناكلي -القاتل المأجور وعضو خلية القاعدة في إسبانيا، الذي اُعتقل في صنعاء عام 1996 وأُدين بتهمة إدارة شبكة تخريب واغتيال -بأنه تلقى تعليماته باغتيال وزير الخارجية اليمني آنذاك، عبد الكريم الإرياني، من الأمير محمد بن نايف نفسه. بعثت الحكومة اليمنية اعترافات ناناكلي المسجلة إلى مجلس الأمن الدولي. وظل اليمنيون مستائين من سياسة السعودية في الحفاظ على شبكة واسعة من العملاء اليمنيين، معظمهم من شيوخ القبائل الذين تحدوا سلطة الدولة وقوّضوا مشروع بنائها. نتيجة لذلك، لم يثق معظم اليمنيين في السعودية بقدر ما لم يثق السعوديون في صالح. أدى انعدام الثقة والمفاهيم الخاطئة والقرارات السيئة، أكثر من أي شيء آخر، إلى دفع العلاقات اليمنية السعودية إلى الحالة المؤسفة التي هي عليها اليوم.
لكي تتفادى اليمن والسعودية تكرار أخطاء الماضي، عليهما أن يتعاملا بجدية مع بعض الحقائق البيّنة. بالنسبة لليمنيين، أولى تلك الحقائق هي أن فرصة اليمن ضئيلة للخروج من الحلقة المفرغة للفقر والتخلف دون إقامة علاقات قوية مع جارته الشمالية. فاليمن بلد فقير، والحديث عن تنمية موارده الطبيعية وتعزيز السياحة فيه وما شابه ذلك، ليس خيارًا دون إعادة الاستقرار إليه وتعزيز قدرته على البقاء بدعم الشريك الذي لا غنى عنه في التنمية، أي السعودية. ثاني تلك الحقائق، أن أفضل بنية دفاعية للحفاظ على سيادة اليمن وسلامة أراضيه هي تلك التي لا تهدد جيرانه، وليس الحشد العسكري الذي يستنزف موارد التنمية ويعرّض الشعب اليمني لتهديد وجودي مزدوج، هو الفقر وعدم الاستقرار.
على السعوديين الاعتراف بأن العيش جوار قنبلة موقوتة ليس خيارًا. فكما أثبتت جماعة الحوثيين، يمكن أن تتحوّل اليمن بسهولة إلى تهديد وجودي للسعودية. لم تقف طبيعة اليمن الفقيرة والمتخلفة عائقًا أمام اكتساب هذه الحركة المعادية أيديولوجيًا تكنولوجيا رخيصة تُسبب للمملكة أرقًا متواصلًا. ومع مرور الوقت، واستمرار تطور التكنولوجيا، ستكون السعودية أكثر عرضة للقوى الساخطة في يمن معزول. كما أن مناخ عدم اليقين الذي أوجده الغزو الأوكراني قد يخلق تحولات غير متوقعة في التحالفات الإقليمية. إذًا، اليمن هو حرفيًا ثغرة استراتيجية كبيرة في خاصرة السعودية، مفتوحة للخصوم للتسلل متى شاؤوا. إن الحديث الدائر في بعض الأوساط السعودية عن الانسلال من الصراع الدائر وترك اليمنيين لخوض حرب استنزاف طويلة سيؤدي إلى إدامة خطر تلك القنبلة الموقوتة. وأثبتت سبع سنوات من الحرب بوضوح أن الحوثيين -الفصيل الأكثر تنظيمًا والأفضل قيادة في اليمن -قادرون تمامًا على نزع مسمار أمان القنبلة.
الحقيقة الثانية الواضحة هي أن الميل السعودي إلى تشجيع حكم الرجل الواحد ما يزال سائدًا في دوائر صنع القرار اليوم رغم التكاليف التي تكبدتها الرياض في التعامل مع علي عبدالله صالح على مدى 33 عامًا، ناهيك عن شخصيات مثل صدام حسين ومعمر القذافي. يتعيّن على السعودية التخلي عن سياسات إخضاع مصير أمة بأكملها لأهواء رجل واحد إن كان هناك أمل في بناء علاقة صحية بين البلدين. الديمقراطية هي شكل صعب من أشكال الحُكم، وفي أكثر الأحيان “ملخبط”، لكنها توفر أفضل فرصة لوضع رفاهية الشعب فوق المطامح الشخصية للحاكم. إن صناع القرار السعوديين الذين يصرون على فكرة وجود رجل قوي يدير مشكلتهم في اليمن من خارج صنعاء يجازفون بالتضحية بمصالح البلدين. يتعيّن على السعودية العمل بأقصى جهدها في علاقاتها مع اليمن لتنعم بالاستقرار والأمن على المدى الطويل على طول حدودها الجنوبية.
أما الحقيقة الثالثة الجلية فهي أن اليمن والسعودية لديهما الكثير من القواسم المشتركة وينبغي أن يكون كل منهما قادرًا على تكميل الآخر استراتيجيًا واقتصاديًا. فالثقل الديموغرافي المشترك للبلدين سيكون رادعًا لأي قوة إقليمية. الاستفادة من العمالة اليمنية والسوق اليمنية من جهة ورأس المال السعودي من جهة أخرى ليست سوى نقطة أولى في قائمة طويلة من أوجه التآزر الاقتصادي التي تُعد في متناول اليد، ولكن تتطلب نهجًا جديدًا من جانب الرياض. مشكلة السعوديين أنهم ينظرون إلى اليمنيين إما كوكلاء أو كأعداء، لكن ليس كأقران. الشعب اليمني، وإن كان متواضعًا، له كبرياؤه ولن يقبل أبدًا بمثل هذه المكانة. يجب أن تبدأ صفحة جديدة في العلاقات اليمنية السعودية على أساس الشراكة بين أطراف متكافئة.
هذا المقال هو جزء من سلسلة منشورات لمركز صنعاء تتناول الأدوار التي تضطلع بها الجهات الفاعلة الأجنبية الحكومية وغير الحكومية في اليمن.