إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

تعليقات عبدالعزيز المقالح: غياب رافعة الثقافة اليمنية

Read this in English

ودع اليمنيون في حشود شعبية مهيبة الدكتور عبدالعزيز المقالح الذي توفي في الـ28 نوفمبر عن 85 عاما، ويعد أحد أبرز الوجوه اليمنية في القرن الأخير، فهو الناقد والأكاديمي وأبرز شعراء القصيدة الحديثة في اليمن الذي أوصل صوت اليمن للعالم، وجلب أصوات العالم إلى اليمن

المقالح ، وبحكم شغله منصبي رئاسة جامعة صنعاء لأكثر من عقدين، ورئاسة مركز الدراسات والبحوث لأكثر من أربعة عقود، فتح صنعاء واليمن لاستقبالهم في البلد المنسي كأكاديميين بجامعة صنعاء أكبر جامعات اليمن، أو أدباء كبار احتفت بهم صنعاء المقالح.

نافذة اليمن الضيقة للغاية حولها المقالح إلى بوابة عملاقة تمر منها تيارات الحرف والفكر بين داخل اليمن وخارجها، دخل منها أبرز شعراء العربية إلى دواوين صنعاء وشوارعها، وحملوا معهم نكهتها إلى الخارج.

درس المقالح في القاهرة في سبعينيات القرن الماضي وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة عين شمس. بعد إخراجه من مصر بقرار للرئيس المصري أنور السادات، نتيجة موقفه الرافض لاتفاقية كامب ديفيد[1]، عاد إلى صنعاء في 1978، ويقال إنه لم ينم خارجها ليلة واحدة منذ ذلك اليوم إلا ليلة واحدة قضاها في عدن للمشاركة في مراسم إعلان الوحدة اليمنية في مايو 1990[2]،

كرس المقالح الكثير من أعماله الأدبية لمدينته الحبيبة صنعاء وحول صنعاء إلى رمزية متجددة كانت عنوان إصداره الشعري الأول (لا بد من صنعاء) عام 1971، وفي 1999، أصدر ديوانه (كتاب صنعاء) أيضا، وحتى قصيدته الغنائية الأشهر التي غناها الفنان أحمد فتحي كانت بعنوان (صنعانية) بطلتها فتاة من صنعاء، وفي قصيدة حديثة له (أعلنت يأسي) تضمنت رثاء مسبقا لنفسه، خاطب صنعاء أيضا كأنه يودعها:

صنعاء …
يا بيتاً قديماً
ساكناً في الروح
يا تاريخنا المجروح
والمرسوم في وجه النوافذ
والحجارة
أخشى عليك من القريب
ودونما سببٍ
أخاف عليك منكِ

لليمنيين، كان المقالح عنصرا ثابتا في كثير من اللحظات التاريخية المحورية. في 26 سبتمبر 1962، قرأ المقالح بيان الثورة الوليدة بصنعاء، كأحد مسؤولي إذاعة صنعاء الذين انخرطوا في صفوف الثوار، كان حينها في الـ25 من عمره، لكنه كتب قصيدة ثورية تتردد أصداؤها حتى اللحظة بين اليمنيين، والتي كانت في المناهج الدراسية لتلاميذ الصف الثامن حتى العام الدراسي الماضي، عندما قامت سلطات الحوثيين بصنعاء بحذفها.

“سلمت أياديهم بناة الفجر عشاق الكرامة

الباذلين نفوسهم لله في ليل القيامة

وضعوا الرؤوس على الأكف ومزقوا وجه الإمامة”

بعد انتشار خبر وفاته ، انتشرت صوره على مواقع التواصل الاجتماعي مصحوبة بعبارته الأشهر الواردة في قصيدته (الصمت عار) قبل خمسة عقود:

سنظل نحفر في الجدار

إما فتحنا ثغرة للنور

أو متنا على وجه الجدار

يمكن وصف المقالح بالأب الروحي للأدباء اليمنيين في نصف القرن الأخير، فأغلب كتب ودواوين شعر الأدباء الشباب، كانت ممهورة بتقديم المقالح، وهو الشخص الملتزم لعدة صحف ومجلات يمنية وعربية لعقود، دون أن يخلف موعدا، أو يؤخر مادة، فالالتزام سر النجاح والإنتاج المكثف وفق نظرة الرجل ونصائحه لطلابه وسلوكه اليومي، وعلى مدار عقود كان عموده الأسبوعي لصحيفة الثورة يوم الثلاثاء وجبة لذيذة لكل قارئ، ومقيله الأسبوعي في ذات اليوم فرصة ثمينة يتزاحم عليها الأدباء كمنتدى أدبي اجتماعي ثري.

تمتع المقالح بعلاقات جيدة عبر الطيف السياسي، حتى مع السلطة الحاكمة، وعبر دوره كمستشار ثقافي للرئيس الراحل علي عبدالله صالح منذ 2001، كان له رأي ترجيحي في تعيين وزراء التعليم والثقافة ورؤساء الجامعات، وفي نفس الوقت كان صديقا للمعارضة، وهذا التوازن ناتج عن حجم حضوره وواقعيته السياسية، بعد تجربة حزبية قصيرة بواكير حياته انتمى فيها لحزب البعث.

المقالح يمثل أيضا رمزية لدى المتشددين دينيا، فهو بالنسبة لهم رمز لإلحاد الشعراء الحداثيين ، ولا تزال مواقعهم وكتبهم تنشر قوله: “صار الله رماداً صمتاً، رعباً في كف الجلادين، حقلاً ينبت سبحات وعمائم”، كامتداد لحملة تكفير واسعة شنوها ضده في ثمانينيات القرن الماضي، رغم أن القصيدة الحديثة تعتمد الرمزية، وواضح أن هذا القول، من كتاب (الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل) الذي نشر في 1978 أخرج من سياقه.تجلى إيمان المقالح بطريقته الخاصة في قصائده الأخيرة تحديدا، وأبرز تجلياتها قصيدته (ابتهالات) من ديوان (أبجدية الروح) في 1998 التي قرأها كل طلاب الجامعات اليمنية ضمن المقرر الإلزامي، وحتى في قصائده القديمة كقصيدة (رسالة على الله) في 1961.

كان المقالح جريئا في الدفاع عن الأفكار التي يؤمن بها. عمل جاهدا لاستعادة تراث علي بن الفضل، قائد القرامطة( إحدى طوائف الإسماعيلية) في العصور الوسطى. فعلي بن الفضل لدى التقليديين رمز للهرطقة الدينية، لكن المقالح تجرأ على استعادة رمزيته كثائر يمني.

شعريا، انتقل المقالح من الثورية إلى التصوف خلال رحلته الطويلة، كما تعبر عناوين دواوينه: من (الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل)، إلى (أبجدية الروح) في 1998، و (قرب حدائق طاغور) في 2018، ولكن آثار حرب اليمن وجدت طريقها إلى عمله. قصيدته (الحرب) في 2017 قدمت للقارئ صورة مروعة من الجوع والآثار المدمرة للصراع اليمني.

أيها الجائعون

ابشروا

لن تجوعوا

فقد أذّن المتوضّون للحرب

وانهمرت في الشوارع والطرقات

شظايا الأناشيد

هيا ابشروا

لن تجوعوا

كلوا من لحوم المدافع

من شحم دبابةٍ

لا تخافوا من الموت

فالموت أغنيةٌ عذبةٌ

انتظروا نعمةَ الحرب

فالحربُ قادمةٌ

وموائدها مثقلات

بما لم تروهُ

ولم تسمعوهُ

ولم تقرأوا مثله

في كتابْ

وقف المقالح ضد الحروب والعنف التي اتسمت بها سنواته الأخيرة في اليمن. في قصيدته (بكائية لعام 2016) نعى المقالح نفسه وقدم صورة حزينة للموت في خضم الحرب.

“دثريني

وشدي على كفني

واكتبي فوق قبري: هنا واحد من ضحايا الحروب

التي عافها

وقال لقادتها قبل أن يبدأوها:

الحروب إذا دخلت قرية

أهلكت أهلها الطيبين”

أنتج المقالح خلال مسيرته الأدبية 34 كتابا أدبيا ونقديا وتاريخيا وديوان شعر تقريبا ترجمت بعضها لعدة لغات، وكتبت عن أدبه كتب عشرات الكتب والأبحاث العلمية كرسائل ماجستير ودكتوراه، وحصل على جوائز عدة منها جوائز اللوتس واليونسكو والعويس وشوقي، ووسام فارس من الدرجة الأولى من الحكومة الفرنسية والأهم من ذلك، حصل المقالح على جائزة الخلود والمحبة في قلوب جمهوره الواسع وإرثه الأبدي كأحد أهم ركائز الشعر الشعر الحديث في اليمن.

الهوامش
  1. أنور العنسي، المقالح.. رائد التنوير والحداثة، تدوينة على موقع فيسبوك، 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022،
    https://www.facebook.com/anwaralansii/posts/569686985163585
  2. همدان دماج، المقالح وصنعاء.. حكاية عشق، مدونة همدان على الإنترنت، 18 يناير/ كانون الثاني 2021،
    https://hamdandammag.blogspot.com/2021/01/blog-post.html
البرنامج / المشروع: تقرير اليمن