مع بداية العام 2022، انتعشت الآمال بحصول اختراق يفضي إلى حل للصراع اليمني مع إعلان الهدنة الأممية بين الحكومة المعترف بها دوليًا وجماعة الحوثيين وتشكيل مجلس القيادة الرئاسي. اعتُبرت كلا الخطوتين بادرة محتملة لانطلاق محادثات رسمية بين الأطراف المتحاربة، وتحديدًا تشكيل مجلس القيادة الرئاسي باعتباره أحد النماذج الناجحة في تقاسم السلطة التي يمكن توسيعها ضمن حل شامل للأزمة اليمنية.
لكن النصف الثاني من العام 2022 حمل العديد من المؤشرات السلبية التي أنذرت بالعودة مجددًا إلى نقطة الصفر؛ إذ انفجرت التناقضات الداخلية في معسكر الشرعية بعد اندلاع معارك شبوة في أغسطس الماضي بين قوات المجلس الانتقالي الجنوبي وألوية العمالقة من جهة والقوات الموالية لحزب الإصلاح من جهة أخرى. تمدد التصعيد السياسي والشعبي لاحقًا نحو محافظة حضرموت (بين نفس الأطراف وكذلك أطراف فاعلة محلية)، ليتفرق أعضاء مجلس القيادة الرئاسي وعاد أغلبهم لممارسة مجمل نشاطه من خارج العاصمة المؤقتة عدن. في المقابل، رفض الحوثيون تمديد الهدنة الأممية وأقدموا على خطوة تصعيدية غير مسبوقة بضرب الموانئ النفطية في جنوب شرقي اليمن في شهري أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني، إضافة إلى تحضيراتهم البرية لخوض جولات صراع محتملة في لحج ومأرب وتعز.
ورغم قتامة هذا المشهد، ثمة من لا يزال متفائلًا بإمكانية إنهاء الأزمة في القريب العاجل، ومبعث هذا التفاؤل هو وجود مسارين لمحادثات جارية -حوار ثنائي بين السعودية والسلطات الحوثية من جهة وحوار بين حزب الإصلاح والإمارات من جهة أخرى بناء على ثلاثة مصادر تحدثت مع مركز صنعاء. لكن يبقى من المهم تحليل هذه الحوارات في سياق الديناميكيات السياسية المحلية والإقليمية الحالية والجهود السابقة للحوار بين أطراف الصراع المتناحرة في اليمن. ومع الأخذ بهذه الحقائق في الاعتبار، يتعيّن توخي الحذر، عوضًا عن التفاؤل باحتمال حدوث اختراقات وشيكة.
المحادثات السعودية الحوثية تتبع النمط المعتاد
يصعب الركون إلى الحوار بين الرياض والحوثيين كمؤشر على الانفراج السياسي، فهي ليست الأولى في تاريخ الصراع اليمني. فرغم التقارير المتداولة عن تقديم الرياض دعوة شبه رسمية إلى مهدي المشاط لزيارة الرياض والانخراط في محادثات مباشرة، لم يُحرز تقدم ملموس حتى الآن. في الواقع، سبق وأن جرت محادثات أكثر نجاحًا في العام 2016 وعلى إثرها سلم الحوثيون خرائط الألغام التي زرعوها في الحدود مع السعودية، كما أن الأمير خالد بن سلمان استهل تسلمه للملف اليمني عام 2019 (بعد تبوئه منصب نائب وزير الدفاع) بالتواصل مع الحوثيين في محاولة لخفض مستوى التصعيد وردع تهديد الطائرات المسيّرة والصواريخ الحوثية العابر للحدود. في كلا المرتين، لم يكن الحوار أكثر من مناورة تكتيكية استغلها الطرفان في إدارة الأزمة بشكل مؤقت دون الانخراط جديًا لإيجاد حل دائم، وحتى إذا ما تمخض عن الحوار إجراءات تهدئة عملية، فسرعان ما تلاشت مع أول موجة تصعيدية عسكرية.
تميزت المحادثات الأخيرة بكونها الأقل سرية؛ إذ تعمّد الطرفان إخراج بعض من جوانب الحوار للعلن وتغليف التفاصيل بالغموض. كان ذلك مناسبًا تمامًا للحوثيين؛ حيث الإشاعات عن وجود حوار مع الرياض قد يهز ثقة الأخيرة مع حلفائها المحليين ويعزز من شرعية الحوثيين السياسية كطرف ندي أمام خصومهم الإقليميين (السعودية والإمارات). من هذا المنطلق، سيستغل الحوثيون حاجة السعودية الملحة للهدنة لضمان أمنها؛ كي يرفعوا سقفهم التفاوضي وينتزعوا امتيازات مالية (مثل إدراج أفراد عسكريين في كشوفات رواتب موظفي القطاع العام، وأخذ حصة من عائدات النفط اليمني المصدر)، دون أن يضطروا لتقديم أي التزامات سياسية حول تسوية شاملة.
من ناحيتها، تحتاج الرياض إلى التواصل المباشر مع الحوثيين لتعويض التراجع الحاصل في الوساطة الأممية والعمانية، ولكي تضبط مستوى التصعيد في اليمن بحيث لا يتجاوز الخطوط الحمراء، خصوصًا أنها بحاجة ماسة إلى منع أي تصعيد كبير في الصراع خلال هذه الفترة يجعلها في مرمى نيران منتقديها الأمريكيين، على الأقل إلى أن تتجاوز توترها الحاد مع الإدارة الأمريكية على خلفية سياستها النفطية وموقفها من الحرب الروسية-الأوكرانية.
وطالما لم يعد المناخ الدولي ولا توازنات القوى محليًا سانحة لكي تشن دول التحالف العربي حملة ضغط عسكرية ضد الحوثيين، فمن الأجدى للسعودية الانخراط في محادثات معهم حول بعض الترتيبات الأمنية مثل وقف العمليات البرية في اليمن ووقف الهجمات الجوية العابرة للحدود والقيام بصفقات تبادل للأسرى، وهي في الوقت نفسه لا تمانع من تسريب أخبار عن المحادثات كي تحرج الحوثيين أمام حاضنتهم الشعبية، وتستكشف بنيتهم الداخلية وإمكانية اللعب على تناقضاتها.
من المهم النظر إلى المشاورات السعودية-الحوثية في سياق الحوار “السعودي-الإيراني” الجاري، والذي شهد تقدمًا ملحوظًا حتى مع ارتفاع النبرة العدائية تجاه الرياض من قِبل بعض قيادات الحرس الثوري الإيراني على خلفية الاحتجاجات التي تشهدها شوارع إيران حاليًا. من يتتبع قنوات التواصل غير الرسمية بين الحوثيين والسعوديين يجدها مقرونه بالأساس مع المبادرة العراقية التي بدأت في سبتمبر ٢٠١٩ للتقريب بين الرياض وطهران. وسيكون من فرط التمني الاعتقاد أن هذه المحادثات ستقنع الحوثيين بالابتعاد عن طهران والتخلي عن الخيار العسكري، حيث إن هذه المحادثات ما كانت لتتم أصلًا إلا بتنسيق إيراني مدروس.
حاليًا، يمكن تفسير السلوك الحوثي المزدوج بين التصعيد والتهدئة، كجزء من ازدواجية السياسة الخارجية الإيرانية التي تتنازعها مقاربتين (دبلوماسية وعسكرية): المقاربة الأولى تقودها وزارة الخارجية وهي تجنح إلى التهدئة في اليمن والحوار مع السعودية والعودة للاتفاق النووي مع الغرب، والمقاربة الثانية يقودها الحرس الثوري الذي يستخدم جماعات شبه عسكرية تعمل بالوكالة لانتزاع الهيمنة الإقليمية و يميل الى التصعيد الميداني للضغط على المجتمع الدولي. و من جهتهم، يتكيّف الحوثيون بذكاء مع هذه الديناميكية الإيرانية: يتحاورون بيدهم اليمنى مع السعودية، ويضربون بيدهم اليسرى الموانئ اليمنية في جنوب شرق البلاد. وبقدر ما سيميل ميزان القوى السياسي في إيران لمصلحة إحدى المقاربتين، سيميل سلوك الحوثيين إلى التغيير معه.
محادثات بين الإصلاح والإمارات
يمكننا أن نجد هذا النمط من الحوارات الاستكشافية يتكرر في اليمن ضمن مسار مختلف، ولذات الأسباب. في بداية نوفمبر من العام 2022 سافر عضوا مجلس القيادة الرئاسي الممثلان لحزب الإصلاح الإسلامي عبدالله العليمي وسلطان العرادة إلى أبوظبي حيث التقيا هناك بعدد من المسؤولين الكبار لبحث الطريقة المثلى لإدارة العلاقة المتوترة بين الإمارات والحزب. هذه ليست المرة الأولى التي تزور فيها القيادات الإصلاحية العاصمة الإماراتية أبوظبي، خصوصًا زيارة سلطان العرادة عام 2015 (الذي كان صديقًا شخصيًا للشيخ محمد بن زايد الحاكم الفعلي آنذاك للإمارات قبل توليه الحكم بداية العام الجاري). كما زار رئيس مجلس شورى الإصلاح محمد اليدومي وأمين عام الحزب عبدالوهاب الآنسي أبوظبي والتقيا ابن زايد عام 2018. ثمة عامل مشترك بين الزيارة السرية الأخيرة وسابقاتها، وهو الضغط السعودي الذي يُمارس دومًا لتخفيض مستوى التوتر داخل المعسكر المناهض للحوثيين، وتوحيد جبهته للتعامل مع القضايا الأكثر إلحاحًا. على سبيل المثال عام 2018، كانت التهدئة ضرورية ضمن التحضير لمعارك الساحل الغربي وعمليات قادتها القوات المدعومة من الإمارات للاستيلاء على الحديدة، واليوم باتت هذه التهدئة ضرورية لتُحييد حضرموت عن التحول لساحة صراع بين حزب الإصلاح وحليف أبوظبي الأبرز في الجنوب، المجلس الانتقالي الجنوبي.
سارع حزب الإصلاح إلى التجاوب مع فرصة الحوار مع الإمارات بعد أن اختل ميزان القوى الاستراتيجي داخل المناطق المحررة لصالح أبوظبي وحلفائها المحليين (ألوية العمالقة، وقوات المقاومة الوطنية، والمجلس الانتقالي الجنوبي). وما سبقه من تقارب بين الموقفين السعودي والإماراتي حول ضرورة تحجيم دور حزب الإصلاح نظرًا لفشله في مواجهة الحوثي عسكريًا وإخفاقه في قيادة الشرعية سياسيًا كطرف في حكومة الرئيس السابق عبدربه منصور هادي.
ومنذ إقرارهم بخسارة معركة شبوة؛ بدأت قيادة الإصلاح بتبني استراتيجية دفاعية تميل إلى التهدئة للحفاظ على ما تبقى من نفوذ سياسي وعسكري لها داخل معسكر الشرعية، وهي تناور قدر الإمكان كي ترمم تحالفها المتداعي مع السعودية، ولكي تتجنب أي مواجهة مفتوحة مع أبوظبي في ظل الظروف المحلية والإقليمية الراهنة. أما الجانب الإماراتي، ففتح أبوابه مجددًا أمام خصمه اللدود في اليمن، نزولًا عند التفاهمات الثنائية مع السعودية حول خفض مستوى التوتر بين حلفائهم المحليين، حتى لو مؤقتًا. عَمِد كلا البلدين مؤخرًا إلى الوفاء بتعهدات مالية ضخمة للحكومة اليمنية من أجل دعم مجلس القيادة الرئاسي في مواجهة التبعات الاقتصادية لهجمات الحوثيين على الموانئ النفطية.
من المحتمل أن تسفر الحوارات الأخيرة في أبوظبي عن تهدئة مؤقتة يحركها عاملان: أولًا جمود المشهد الأمني والسياسي بين الإصلاح والمجلس الانتقالي الجنوبي خصوصًا أنه قد استعصى على أي طرف إنجاز اختراق حقيقي في مناطق حضرموت الوادي طوال الفترة الماضية، وثانيًا وجود تفاهمات سعودية إماراتية تدفع نحو تطبيع العلاقة بين حزب الإصلاح والمجلس الانتقالي مع تحجيم دور الأول وتعزيز نفوذ الثاني في هياكل الشرعية الجديدة، مثل مجلس القيادة الرئاسي. يمكن رؤية قرار مجلس القيادة الرئاسي الصادر في 6 ديسمبر باستبدال رئيس الأركان والقائد الفعلي للمنطقة العسكرية الأولى المتمركزة في سيئون، يحيى أبو عوجا، من هذا المنطلق.
يظل من المستبعد أن تخلق هذه المحادثات تغيرًا عميقًا في الديناميكيات السياسية داخل معسكر الحكومة الشرعية، وستظل العلاقة المتبادلة بين حزب الإصلاح من جهة وأبوظبي وحلفائها المحليين من جهة أخرى عند طابعها “التنافسي/العدائي”، وقد تستمر موجات التصعيد المتبادلة لاسيما في حضرموت وإن بوتيرة منخفضة، ومن ثم تزداد وتيرتها أكثر بمجرد أن يتراجع الضغط السعودي المباشر على الطرفين.
آفاق استمرار حالة الجمود
قد يدفع انتشار المعلومات القائلة بوجود حوار سعودي حوثي ومباحثات إصلاحية اماراتية الكثيرين للاستنتاج بأن أبرز داعمي الحكومة يحاولان تسوية صراعهما في اليمن بشكل سريع وأحادي، متجاوزين حلفائهما المحليين (محادثات السعودية مع الحوثيين التي تتجاوز مجلس القيادة الرئاسي، ومحادثات الإمارات مع حزب الإصلاح التي تتجاوز المجلس الانتقالي الجنوبي). لكن بمجرد أن توضع هذه المعلومات في سياقها العام، ندرك أنها جزء من المناورات السياسية التقليدية للقوى المحلية والإقليمية الفاعلة في الأزمة اليمنية، التي لطالما تكررت على مدار 8 سنوات. وهي مناورات تعبر عن حجم الجمود في الأزمة أكثر مما قد تشي بمسارات جديدة لحلها.
هذا التحليل هو جزء من سلسلة إصدارات ينتجها مركز صنعاء بتمويل من الحكومة الهولندية. تستكشف السلسلة قضايا ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وبيئية، بهدف إثراء النقاشات وصنع السياسات التي تعزز السلام المستدام في اليمن. الآراء المعرب عنها في هذا التحليل لا تعكس آراء مركز صنعاء أو الحكومة الهولندية.