تشتعل شوارع الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ سبتمبر/أيلول باحتجاجات جماهيرية حاشدة لا تظهر أية بوادر على خمود غضبها في وقت قريب، مما يثير أسئلة متزايدة حول مستقبل النظام الحاكم هناك. تَرِد أربعة سيناريوهات محتملة لذلك: إما نجاح النظام الحاكم في إخماد المظاهرات وعودة البلاد إلى الوضع الذي كانت عليه قبل سبتمبر/ أيلول، أو نجاح النظام في قمع الاحتجاجات فيما سيُعد انتصارًا مهزوزًا سيخرج منه النظام أضعف من ذي قبل، أو حدوث انقلاب داخلي، أو سقوط النظام الحاكم.
ما يزال الوضع حساسًا وقد تتغير ديناميكيات الأحداث بسرعة، لكن ما أثبتته الأيام هو ضُعف قدرة المحللين على التنبؤ ببقاء الأنظمة السلطوية، وهو ما يُملي الالتزام بقدر من التواضع عند طرح التوقعات. لكن بالمُجمل، يبدو تحقّق السيناريو الثاني الأكثر احتمالًا على المدى القصير إلى المتوسط: أي بقاء النظام الحاكم لكن ليس بالقوة التي كان عليها، حيث يصعب تخيل عودة الوضع إلى ما كان عليه قبل سبتمبر/ أيلول: فقد ترسّخت المعارضة ضد النظام الحاكم واتّسعت رقعة الاحتجاجات لتتجاوز الطبقة الوسطى في المناطق الحضرية إلى سكان الأحياء والمدن الأكثر فقرًا والمعروفة عادةً بتأييدها للنظام. وفي مسار مُغاير لنمط الاحتجاجات السابقة التي كانت تطالب بإصلاحات، دعا المحتجون هذه المرة إلى الإطاحة بالنظام الحاكم، إلا أن سقوط الأخير لا يبدو وشيكًا في ظل غياب المؤشرات التي تُنبئ بحدوث ذلك -أي رفض قوات الأمن إطاعة الأوامر، والانشقاقات العميقة داخل صفوف القيادات العليا للنظام، والإضرابات واسعة النطاق- في الوقت الراهن على الأقل.
هذا يأخذنا إلى السؤال التالي: ما الانعكاسات المحتملة لبقاء نظام إيراني ضعيف على سياستها الخارجية بشكل عام، ولا سيما سياستها المتعلقة باليمن؟
بشكل عام، يقوم نهج السياسة الخارجية لإيران على استراتيجية دفاعية تستند إلى توطيد الجمهورية الإسلامية علاقاتها مع الجماعات المسلحة غير الحكومية في جميع أنحاء المنطقة وتزويدها بالسلاح والدعم المالي والتقني والاستخباراتي. بهذا الشكل، يمكن لإيران الاستفادة من علاقاتها مع هذه الجماعات لتهديد -بشكل مباشر أو غير مباشر -المصالح الأمريكية ومصالح شركائها الإقليميين -لا سيما إسرائيل والسعودية والإمارات -إذا ما فكر هؤلاء بمهاجمة إيران أو حلفائها. على سبيل المثال، جاء ردّ الحوثيين على النجاحات العسكرية التي حققتها قوات ألوية العمالقة المدعومة إماراتيًا ضدهم أوائل عام 2022، بشن ضربات بالصواريخ والطائرات المسيّرة ضد الإمارات، الأمر الذي دفع أبو ظبي إلى إصدار أوامر لقيادة ألوية العمالقة بوقف تقدمها في جنوب مأرب.
يتمثل هدف إيران في زعزعة الأمن والاستقرار في الخارج، وهذا يعني عمليًا تركيز سياسة طهران الخارجية بشكل جزئي على ضمان أمن النظام الحاكم. ومع حالة الضعف المتزايد التي يعاني منها الأخير على الصعيد المحلي، يمكننا توقع أن تضاعف إيران تكتيكاتها المعتادة في الأسابيع والأشهر المقبلة: فأي ردّ انتقامي منها بات واردًا أكثر من أي وقت مضى في إطار مساعيها لمواجهة أي تهديد أو استفزاز محتمل، وقد تلجأ لاستخدام قوة أكبر لتحقيق ذلك.
سيكون وقع تداعيات مثل هذا التحوّل في سياستها أشد على اليمن تحديدًا. تعود العلاقات بين إيران والحوثيين إلى ما قبل بداية التدخل العسكري الذي تقوده السعودية في اليمن، إلا أنها توطدت أكثر بعد عام 2015 وأصبح الدعم الإيراني الآن لا يقتصر على تزويد الحوثيين بالأسلحة الصغيرة والذخائر، بل بقطع غيار أسلحة أشد فتكًا تشمل الطائرات المسيّرة والصواريخ المتطورة التي يصل مداها الآن إلى الإمارات والسعودية. كان هذا الدعم استثمارًا جيدًا للغاية بالنسبة لإيران: فمُقابل ميزانية سنوية تُكلف نحو مئات الملايين من الدولارات الأمريكية، استطاعت إيران ترسيخ موطئ قدم لها داخل اليمن وألقت بخصمها السعودية في براثن مأزق كبّد الأخيرة تكاليف باهظة. صحيح أن تفاصيل ديناميكيات العلاقة بين الحوثيين وإيران تظل غير واضحة تمامًا، لكن يبدو أن طبيعة العلاقة تميل أكثر إلى التشاور المكثف بين الجانبين، حيث تنأى طهران بنفسها عن إصدار أوامر مباشرة لشريكها في اليمن. وما عزّز هذه العلاقة هو اتساق مصالح الجانبين في أغلب الأحيان، بحُكم تشارُكهما نفس وجهات النظر حول السياسة الإقليمية.
من هذا المنطلق، لا يُتوقع أن تتزعزع أُسس الشراكة بين إيران والحوثيين حتى مع تنامي ضعف النظام الإيراني على المستوى المحلي. ما سيتغير هو الكيفية التي ستنعكس بها هذه الديناميكيات على أرض الواقع وقد يتجلى ذلك في موقف الحوثيين وإيران إزاء الهدنة. فرغم استفادة الحوثيون من الهدنة التي سَرت منذ أبريل/نيسان إلى أكتوبر/تشرين الأول 2022، لم يُظهروا نية للانخراط في مفاوضات جدية واستغلوا فترة الهدوء كمتنفس لإعادة لملمة وتوحيد صفوفهم بعد الخسائر التي تكبّدوها أوائل 2022. خلال تلك الفترة، راقب الحوثيون بابتهاج تخبّط مُعسكر القوات المناهضة للحوثيين وفشله في تشكيل جبهة مُوحدة، وترقبوا (مع إيران) بصبر، إيمانًا منهم بأن موقفهم نسبة إلى موقف الحكومة المعترف بها دوليًا سيتعزّز حتمًا بمرور الوقت، وهو ما ثَبُت صحته لاحقًا. من جهتها، رأت إيران أن استمرار الحرب يعني استمرار استنزاف السعودية.
تظل هذه الحسابات الإيرانية على حالها بشكل أو آخر، ويبدو استعدادها لدعم أي تنازل من الحوثيين في محادثات السلام أبعد من أي وقت مضى مع تنامي ضعف موقف النظام الإيراني على المستوى المحلي. بل قد تلجأ إيران إلى زيادة دعمها لمطالب الحوثيين المتطرفة وقد تعارض التنازلات التي من شأنها أن تسمح للسعودية بتقليص خسائرها. بعبارة أخرى، ستعمل طهران دون هوادة لكي تعاني السعودية محليًا على غرارها، وقد تتحمس أكثر لتشجيع الحوثيين على الانتقام من السعودية والإمارات إذا ما شعرت بموقف أكثر معاداة لها من تلك الدول. وفي حال أخذ موقفها ضد خصومها الإقليميين منحى أكثر حدَة، فهناك احتمال أكبر بأن تدعم إيران أي تحركات ضد السعودية والإمارات بُغية منعهما من الاستفادة من مشاكلها الداخلية.
يوجد سؤال آخر ومهم يطرح نفسه وهو نهج الحوثيين تجاه إسرائيل. فوِفقًا لبعض التقديرات واستنادًا إلى معلومات مفتوحة المصدر غير مكتملة بَعد، لا يُمكن للطائرات المسيّرة والصواريخ الحوثية الوصول إلى إسرائيل في هذه المرحلة، حيث لا يتجاوز مداها 1500 كيلومتر، أي على بُعد حوالي 300 كيلومتر من الطرف الجنوبي لإسرائيل. لكن هذا لا يستبعد لجوء إيران الى نقل التكنولوجيا اللازمة وقطع الغيار التي تعزز من قدرة الصواريخ الحوثية على بلوغ إسرائيل في ظل المشاكل الداخلية التي تعاني منها الدولة وتنامي ثقة الحوثيين في قدرتهم على شنّ هجمات خارج حدود اليمن.
تفتقر الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا إجمالًا القُدرة الكافية على إلحاق الهزيمة بالحوثيين، ولا تظهر آفاق توحي بتراخي قبضة الجماعة المُحكمة على صنعاء وشمال غرب اليمن في المستقبل المنظور. في المقابل، تبدو فرص الاعتراف الدولي أو النمو الاقتصادي ليمن يُسيطر عليه الحوثيون معدومة، وبالتالي محكوم عليها البقاء دُويلة فقيرة تفرض سلطتها القمعية بحُكم الأمر الواقع. هذا الوضع الراهن مُلائم بالنسبة لنظام إيراني ضعيف: فهو يُديم اعتماد الحوثيين على الجهة الخارجية الراعية لها، وفي الوقت نفسه يُبقي الأراضي الخاضعة لسيطرة الحوثيين قاعدة تستخدمها طهران لاستعراض عضلاتها في شبه الجزيرة العربية. تلك كانت حسابات الجمهورية الإسلامية الإيرانية قبل اندلاع الاحتجاجات في سبتمبر/ أيلول، ومع تنامي ضعف نظامها الحاكم، سيصبح الحوثيون وسيلة أكثر قيمة تخدم مساعي النظام الإيراني لضمان بقائه ومواجهة خصومه.