ثُبِّطَت آمال اليمنيين والأطراف الدولية بالتوصل إلى اتفاق سلام دائم ينهي الحرب التي تدور رحاها منذ ما يزيد عن سبع سنوات، مع انهيار الهدنة التي رعتها الأمم المتحدة باليمن في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول، وفشل الجهود الحثيثة لتمديدها.
ساهمت الهدنة خلال الأشهر الستة الماضية في تخفيف وطأة الآثار المدمرة للصراع. تمثلت إيجابياتها من الناحية الاقتصادية في إفساح المجال لرفع الحظر المفروض على دخول شحنات الوقود عبر ميناء الحديدة واستئناف الرحلات التجارية من وإلى مطار صنعاء الدولي. سياسيًا، عززت الهدنة مستوى التفاؤل الشعبي بإحلال سلام دائم في ظل الهدوء الميداني الذي شهدته جبهات القتال الأمامية، لا سيما في مناطق الاشتباك مثل مأرب، كما ساهمت في إبقاء منشآت الطاقة السعودية بمنأى عن الهجمات الصاروخية الحوثية التي هددت أمنها على مدى سنوات.
مع انتهاء الهدنة، لوّح الحوثيون بتصعيد جديد يُهدد شركات النفط السعودية والإماراتية وتلك الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية، بل إن بوادر عزم الحوثيين على تصعيد الوضع مرة أخرى ظهرت حتى قبل وضع بعض من هذه التهديدات موضع التنفيذ، الأمر الذي يستدعي دراسة الديناميكيات المحلية والدولية التي ساهمت في فشل المحادثات التي قد تؤثر على أي جهود لإعادة إحياء الهدنة.
على الصعيد المحلي، هناك عاملان رئيسيان تجليا بشكل بارز، أولهما العروض العسكرية الثلاثة الضخمة التي نظمها الحوثيون خلال مدة سريان الهدنة السابقة وأعطت بوادر على تأهبهم للتصعيد، فالجماعة كانت تراهن على الضعف الذي تعاني منه الحكومة المعترف بها دوليًا، في ظل الانقسامات بين مختلف أطرافها واختلال موازين القوى. تَمثّل العامل الثاني في تغيُّر لهجة ومطالب الحوثيين خلال المفاوضات الأخيرة، فبَعد أن كانت تتسم بطابع سياسي يرتكز على مقاومة العدوان الأجنبي، تغيرت إلى مطالب اقتصادية وقانونية تسعى للحصول على حصة من عائدات النفط باعتبار أن الجماعة تسيطر على مناطق تضم ثلثي سكان البلاد.
من هذا المُنطلق، وَصف المبعوث الأمريكي الخاص لليمن “تيم ليندركينغ” مطالب الحوثيين بالمتطرفة، لكن لا ينتفي واقع أن أي اتفاق سلام في اليمن سيُساعد في تخفيف حدة تدهور الوضع الاقتصادي للبلاد عبر السماح باستئناف إنتاج وتصدير النفط والغاز في ظل ارتفاع الطلب العالمي. من الواضح بنفس القدر أن الحوثيين ينظرون لذلك كفرصة لتحقيق مكاسب مالية من شأنها أن تعزز مساعي فرض أجندتهم.
أما على الصعيد الدولي، فتحقيق السلام باليمن يعني السلام في المنطقة، وبالتالي أي سلام مؤقت يُحقَّق في إطار هُدنة تُمدد باستمرار سيُقلّل من مخاطر استهداف المنشآت النفطية في منطقة الخليج وبالتالي التهديدات على أمن الطاقة العالمي. تعكس زيارات بعض زعماء العالم إلى منطقة الخليج -لإبرام صفقات بأسعار معقولة وإحلال مصادر النفط والغاز الروسي -تنامي الطلب على موارد الطاقة الخليجية منذ بدء الحرب على أوكرانيا في فبراير/ شباط الماضي.
تستند حسابات الحوثيين على أزمة الطاقة المتعمقة في الغرب مع تدهور علاقات الأخيرين مع موسكو، وهو ما سيدفع الدول الغربية -من وجهة نظر الجماعة -للتركيز على إيجاد وسيلة مناسبة لإنهاء الحرب في اليمن بشكل دائم والمساهمة في استقرار المنطقة بأسرها. على هذا الأساس، جاء استخدام الحوثيين لنقص الطاقة في السوق العالمية كورقة مساومة استراتيجية واضحًا حين ظهرت مزاعم محلية في سبتمبر/ أيلول الماضي (أي قُبيل انتهاء الهدنة) تتهم الإمارات بمحاولة بيع الغاز اليمني إلى ألمانيا، تَبِعها تحذيرات من السلطات الحوثية للإمارات وتهديدات باستهداف أي شركة أجنبية تعمل أو تخطط للاستثمار في النفط والغاز اليمنيين. على سبيل المثال، هددت الجماعة أنها ستحرم دولتي التحالف (السعودية والإمارات) من هذه الموارد مثلما حُرم الشعب اليمني من ثرواته، ولم تمضِ سوى بضعة أسابيع حتى استهدف الحوثيون ميناءين لتصدير النفط، ميناء النشيمة في محافظة شبوة وميناء الضبة في حضرموت.
على المستوى الدولي، ينطوي الفشل في تمديد الهدنة على تبعات قد تعيد رسم خارطة المنافسات الإقليمية وتؤثر على أي محادثات أخرى تهدف إلى إعادة إحياء الهدنة. أولًا، قد تستفيد إيران مجددًا من السيناريو السياسي المُعقد في اليمن، لا سيما في ضوء اتهامها للسعودية بتأجيج الاحتجاجات الحالية في إيران. وقد تساهم استئناف المعارك القتالية، على أقل تقدير، في تحوّل تركيز المجتمع الدولي عن الاحتجاجات الراهنة في إيران، بل يمكن لطهران أيضًا استخدام الحوثيين للانتقام من الرياض، خاصة إذا ما ركز الحوثيون على السعودية بعد استئناف المعارك عوضًا عن مأرب أو أي منطقة أخرى في اليمن.
ثانيًا، قد ينظر الحوثيون إلى فعاليات بطولة كأس العالم التي سيجري استضافتها في قطر خلال نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول كورقة ضغط مماثلة على أمن الطاقة إذا ما تحرّروا من الضغوط التي تفرضها الهدنة. وأي هجوم حوثي على السعودية أو الإمارات سَيَنسف آمال دول مجلس التعاون الخليجي في مرور الحَدَث بسلاسة، خاصة وأنه من المتوقع أن يقيم العديد من المشجعين في السعودية وغيرها من دول الخليج المجاورة خلال فعاليات البطولة.
من هذا المنطلق، أن تأتي الهدنة متأخرة خير من أن لا تأتي. فالفرص مواتية الآن لليمنيين لحل النزاع، ومزيد من التأخير من قِبل معسكر الحوثيين قد يكون له تداعيات لا تُحمد عقباها في ظل تقلّب المعادلات الإقليمية والدولية، خاصة التي تشمل الرياض وطهران.
لا يُستبعد أن تتأثر الأزمة اليمنية في المستقبل القريب بالخلاف الدبلوماسي السعودي-الأمريكي الذي أعقب قرار تحالف “أوبك +” في 5 أكتوبر/ تشرين الأول بخفض إنتاج النفط. وقد تُستغل الخلافات السابقة بين واشنطن والرياض، مثل اغتيال الصحفي جمال خاشقجي عام 2018 وقضايا حقوق الإنسان وحرب اليمن ومؤخرًا أزمة النفط لليّ ذراع الرياض. من ثمّ، الفشل في إعادة إحياء الهدنة سيَعني تصاعد حدة أقوال وأفعال الحوثيين، مما قد يدفع السعودية لإعادة شن هجوم عسكري في اليمن، وهو ما سيُقابل بضغوط من الإعلام الأمريكي قد يدفع الإدارة الأمريكية إلى التردد في بيع المعدات العسكرية للرياض.
صحيح أن معظم اليمنيين يعدون التعامل مع الحوثيين مضيعة للوقت، إلا أنهم يأملون أيضًا في التوصل إلى هدنة تضع حدًّا للحرب نهاية المطاف. بات هذا الأمل يتلاشى شيئًا فشيئًا مع كل مرة يسعى فيها الحوثيون لكسب مزيد من الوقت لإعادة تنظيم صفوفهم ومطالبة الجانب الآخر بتقديم مزيد من التنازلات.
هذا التحليل هو جزء من سلسلة إصدارات ينتجها مركز صنعاء بتمويل من الحكومة الهولندية. تستكشف السلسلة قضايا ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وبيئية، بهدف إثراء النقاشات وصنع السياسات التي تعزز السلام المستدام في اليمن. الآراء المعرب عنها في هذا التحليل لا تعكس آراء مركز صنعاء أو الحكومة الهولندية.