اقتصرت احتفالات الدولة اليمنية فيما مضى على أعياد وطنية تُحيي ذكرى أحداث سياسية بارزة في تاريخ البلاد، كذكرى ثورة 26 سبتمبر/أيلول التي أطاحت بحُكم الإمامة وأنشأت نظامًا جمهوريًا في الشمال، وذكرى اندلاع الشرارة الأولى لثورة 14 أكتوبر/ تشرين الأول ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب، إلى جانب عيد الجلاء أو إعلان استقلال جنوب اليمن عن بريطانيا الذي يصادف 30 نوفمبر/ تشرين الثاني، ثم أخيرًا ذكرى توحيد شطري اليمن وقيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو/ أيار. شهد اليمن أيضًا احتفالات بالمناسبات الدينية مثل المولد النبوي الشريف، وبداية السنة الهجرية، وعيدي الفطر والأضحى. كانت هذه المناسبات تنطوي جميعها على فعاليات وعطل رسمية بسيطة عادة ما تمر بهدوء، ولا تصبح احتفالات كبيرة إلا في حال مرور فترة مميزة مثل 10 أعوام أو 25 أو 50 عامًا. بخلاف ذلك، لم تكن السلطة تتدخل عمومًا في المناسبات الدينية -الاجتماعية الأخرى.
تراجعت الاحتفالات بالأعياد الوطنية في عهد حُكم الحوثيين لصالح الاحتفال بأحداث أخرى مهمة في تاريخ الجماعة، منها الذكرى السنوية للاستيلاء على صنعاء (الذي يصادف 21 سبتمبر/ أيلول)، والذكرى السنوية لمقتل مؤسس الجماعة حسين الحوثي وذكرى وفاة والده بدر الدين الحوثي. كما اكتسبت المناسبات الدينية أهمية جديدة، بما في ذلك الاحتفالات الطائفية كعاشوراء (ذكرى استشهاد الحسين، حفيد النبي محمد) وعيد الغدير (عيد الولاية الذي يحتفل به الشيعة باعتباره اليوم الذي سمّى فيه النبي محمد ابن عمه وصهره الإمام علي كخليفة له). حاليًا، يتجاوز عدد الاحتفالات السنوية التي يفرضها الحوثيون في اليمن 20 احتفالًا على مدار العام، حيث تنفق الجماعة ببذخ على معظم هذه الاحتفالات الجديدة.
كأي سلطة شمولية تسعى لإعادة تشكيل المجتمع، يستخدم الحوثيون هذه الاحتفالات لترسيخ رسالتهم الأيديولوجية واستعراض قوتهم السلطوية، بهدف فرض عقيدتهم الدينية والسياسية على البلد بأكمله. ولخدمة هذه الأهداف، سخّر الحوثيون كل أداة من أدوات سلطتهم، من خلال السيطرة على وسائل الإعلام وأنظمة التعليم وأموال الدولة.
لا يتسق الإنفاق الباذخ على هذه المناسبات مع الوضع الاقتصادي الذي يعيش تحت وطأته معظم اليمنيين والبلاد ككل، فخلال الاحتفال الأخير بالمولد النبوي أسرف الحوثيون في الإنفاق على زينة المدينة واستمر عرض للألعاب النارية في صنعاء زهاء 45 دقيقة، في وقت تدعي فيه الجماعة أنها غير قادرة على دفع رواتب موظفي الدولة أو تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين. وفقًا لخبير اقتصادي مقيم في صنعاء، هذا البذخ لا تتحمله ميزانية الدولة (من عائدات الزكاة والضرائب) فحسب، بل المواطنين العاديين الذين تُفرض عليهم جبايات تُجمع “كمساهمة” في الاحتفال أو حتى إلزامية تقديم هدايا عينية مثل العسل. عادة ما تُكبد نفقات إضافية خلال احتفالات المولد النبوي حيث تجبر الجماعة المواطنين وأصحاب المحلات على إضاءة وتزيين متاجرهم ومنازلهم باللون الأخضر. رغم ادعاء الحوثيين أن هذه المساهمات جهود طوعية من السكان، أفاد الخبير الاقتصادي أن أحد البنوك أُجبر على تقديم 5 ملايين ريال يمني من ميزانيته كمساهمة مباشرة لاحتفالات المولد.
أصبحت الجبايات التي يجمعها المشرفون الحوثيون أحد أبرز ملامح حُكم الجماعة، مع تقديم مبررات مختلفة على مدار العام، بما في ذلك الاحتفالات المتكررة، إلا أن جزءًا من هذه الأموال تذهب مباشرة إلى جيوب المشرفين أنفسهم، المتمتعين بحصانة قانونية، مما يعظم ثروتهم ويزيد من إفقار الناس.
لا يكتفي الحوثيون بمفاقمة واستفزاز فقر الناس من خلال الإنفاق ببذخ على هذه الاحتفالات، حيث يجبرون العديد من المواطنين على الحضور والمشاركة في مثل هذه الفعاليات. تزعم السلطات أن المشاركة طوعية وأن الحضور يعكس حجم شعبيتها، لكنها تستخدم وسائل مختلفة لإجبار السكان على الحضور.
استنادًا إلى روايات بعض من سكان صنعاء، اتخذت المناسبات العامة في عهد الحوثيين منحى دراماتيكيًا يختلف بشكل جذري عن التي جرت في عهد الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، حيث نُظمت الاحتفالات الكبيرة -آنذاك -بشكل غير منتظم، وعادة ما نظمها مسؤولون أو شخصيات اجتماعية حاولت كسب ودّ الرئيس. وزع الحوثيون قُبيل المولد النبوي مظاريف على عقال الحارات وكُلفوا باستخدامها لجمع المساهمات المالية من قاطني المنازل الواقعة في أحيائهم. هذه الخطوة وحدها كانت حافزًا كافيًا للمواطنين للامتثال للتعليمات، بحُكم مسؤولية عقال الحارات أيضًا عن توزيع المساعدات وأسطوانات غاز الطهي في أحيائهم. فضلًا عن ذلك، يُجبَر شيوخ القبائل على المشاركة في التحشيد لهذه المناسبات، تمامًا كاضطرارهم لتجنيد مقاتلين وإرسالهم إلى الجبهات الأمامية، حيث تنطوي عواقب عدم الامتثال على تعرضهم للمضايقات والاعتقال، بل إن موظفي جمعية تعمل لخدمة الأشخاص ذوي القدرات الخاصة اشتكوا من إجبار الحوثيين الأفراد ذوي القدرات الخاصة على المشاركة، رغم التحذيرات من أن بعضهم لا يحتمل ويشكل ذلك خطرًا على وضعهم الصحي.
المسألة لا تقتصر على الإنفاق الباذخ أو الاختلال في ترتيب الأولويات في بلد على شفا انهيار اقتصادي، بل على الرسائل السياسية المصاحبة لهذه الاحتفالات والمثيرة للانقسام السياسي. لم يعد المولد النبوي الشريف مناسبة لها رمزية دينية، بل مناسبة سياسية للتأكيد على شرعية حُكم الحوثيين، فوفقًا لنظرية الحُكم الثيوقراطية للجماعة، أولئك الذين يدعون نسبهم للنبي محمد -أو من يُطلق عليهم الهاشميون -اختارهم الله لقيادة الأمة ويستند حكمهم إلى ما يُسمى “الاصطفاء الإلهي“. لم تعد هذه المناسبة الآن احتفالًا بالنبي بقدر ما هي احتفال بعبدالملك الحوثي، وهو ما دفع بعض المعلقين على وسائل التواصل الاجتماعي إلى اتهام الجماعة بالحط من قدر النبي من رسول الله وحامل رسالة سماوية إلى أحد أسلاف عبدالملك الحوثي.
رغم محاولات الحوثيين الاستحواذ على المجال العام وقمع المعارضة، يقاوم اليمنيون بطرق منخفضة التكلفة وغير صدامية، وأبرز مثال على ذلك هو الاحتفالات الأخيرة بعيد الثورة في 26 سبتمبر/ أيلول التي عكست جهودًا فردية وجماعية، بما في ذلك التجمع في الساحات، وإضاءة المنازل، وتشغيل الأغاني الثورية، وإطلاق الألعاب النارية. اكتسبت مثل هذه المقاومة أهمية سياسية إضافية، حيث يعتقد معظم اليمنيين أن اختيار الحوثيين تاريخ 21 سبتمبر/أيلول 2014 لدخول صنعاء كان محاولة متعمدة لطمس ذكرى سقوط حُكم الإمامة، بالتالي يعكس الاحتفال بالذكرى السنوية لتأسيس الجمهورية اتساع الفجوة بين قناعات الناس والأيديولوجية التي تفرضها سلطات الحوثيين.
لا تكمُن خطورة الاستعاضة عن المناسبات الوطنية بالاحتفالات الدينية في تحويل الدين لمرجعية وحيدة تستند إليها شرعية الحُكم، بل تقوّض الالتزام بمفهوم دولة قومية تشمل كافة اليمنيين. أدت مساعي الحوثيين لتحويل اليمن إلى مجتمع بلا تنوّع إلى نفور الغالبية الساحقة من اليمنيين ممن يتذكرون حقبة ما قبل حُكم الحوثيين، وممن يخشون تأثير الممارسات والأفكار الحوثية على أبنائهم والأجيال القادمة، وتحوّل البلاد إلى وطن لا يألفونه ولا يرون فيه مستقبلًا يحتويهم.