لعلّ إحدى أكثر الدلالات الراسخة على انهيار الدولة في اليمن هو عدم قدرة الحكومة المعترف بها دوليا على الوفاء بواجباتها في توفير خدمات الكهرباء، أكثر من المعارك القتالية على الجبهات وانعدام الأمن الغذائي. على مدى سنوات وفي كل مرة تطرق فيها شهور الصيف الأبواب، يتأهب السكان في مناطق مختلفة بالبلاد لانقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة وتصبح الحياة اليومية لملايين الأشخاص لا تطاق تقريبا، مع ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة الشديدة التي تُعرض المرضى وكبار السن لخطر مفارقة الحياة. بحلول أواخر أكتوبر/تشرين الأول، بات سكان عدن يحصلون على ساعتين فقط من الكهرباء يوميا بسبب نقص الوقود اللازم لتشغيل محطات توليد الطاقة.
على الجانب الآخر بالمقابل، لا تُعد خدمات الكهرباء مشكلة أساسية بالنسبة لليمنيين في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين رغم تعدّد أوجه الحرمان التي يعيشون تحت وطأتها، كونه قطاع مُخصخص غالباً في شمال اليمن الأمر الذي يضمن على الأقل توفّر خدمات الكهرباء في المناطق الحضرية حتى وإن كانت التعريفة مُكلفة بالنسبة لمعظم السكان (234 ريال يمني لكل كيلوواط ساعة). تظل بالطبع بعض التحديات في إمداد الطاقة إلى بعض المناطق الريفية في الشمال وهو ما دفع الكثيرين إلى الاعتماد على بطاريات الطاقة الشمسية المتدنية الجودة وذات عمر افتراضي قصير الأمر الذي يُشكل عبء آخر على السكان نتيجة ارتفاع تكلفة شرائها وصيانتها. في المجمل، تستفيد سلطات الحوثيين من وجود مناخ أكثر اعتدالا في المناطق الجبلية الواقعة تحت سيطرتها، وهو ما يُخفض الطلب على الكهرباء خلال أشهر الصيف مقارنة بالمناطق الأخرى من البلاد. بالعودة إلى عدن، ساهم الدعم الحكومي الكبير للقطاع في خفض تعرفة الاستهلاك المنزلي (والذي يمثل 62 في المائة من حجم استهلاك الطاقة) إلى 12 ريال يمني فقط لكل كيلوواط / ساعة – لكنه في المقابل هيّأ بيئة خصبة لممارسة الفساد على أعلى المستويات. تتراوح الميزانية المرصودة لدعم القطاع بين 75 و100 مليون دولار أمريكي شهريا – وهو أعلى إنفاق حكومي حتى الآن، ويعادل ضعف الميزانية المرصودة لرواتب موظفي القطاع العام. تستخدم الحكومة هذه الأموال – التي تُؤمّن عادة من السعودية – لشراء وقود الديزل والذي يتم توزيعه مجانا على الشركات الخاصة المسؤولة عن توليد الطاقة من محطات خاصة، وبيعها مجدداً إلى الحكومة التي تقوم بدورها بتوزيعه على المستهلكين بتعريفة مُخفّضة. رُغم ذلك، يتم تحصيل ما نسبته 20 في المائة فقط من قيمة الفواتير المستحقة لقاء خدمات الكهرباء المقدمة في بعض المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة، في ظل لجوء السكان إلى سرقة الكهرباء من شبكات الإمداد الكهربائية المتقادمة.
هذا النظام المُعقد أو “البيزنطي” قائم منذ ما قبل الحرب، حيث لم يُحرز تقدم يُذكر في سبيل إصلاحه ومعالجته نتيجة تعدّد الأفراد المُتربّحين منه ممن يختلسون لقمة سائغة من المليار دولار أمريكي المرصودة للقطاع سنوياً. أدركت السعودية وجود ممارسات الفساد هذه، بالتالي أصبحت أقل استعدادا مؤخراً لضخ المزيد من الأموال لدعم القطاع. من جهتها، تخشى الحكومة تأجيج المعارضة في حال لجوئها إلى رفع الدعم – حيث سبق أن ساهمت الاحتجاجات الجماهيرية ضد ارتفاع أسعار الوقود في تحريك قطار الأحداث التي أفضت إلى استيلاء الحوثيين على السلطة في صنعاء في سبتمبر/ أيلول 2014. لكن هذا المنطق لم يعد مواتياً في ظل الاحتجاجات الغاضبة التي تشهدها الشوارع كل صيف والمدفوعة بانهيار الخدمات مؤخراً.
يؤكد مُهندس عَمل لفترة طويلة في قطاع الكهرباء بتعز وعدن، بأن مشاكل القطاع تعود إلى عهد الرئيس السابق علي عبد الله صالح، ويُتوقع أن تزداد سوءا مع مرور كل عام. أنفقت الدولة في عهد صالح 26 مليار دولار أمريكي على القطاع بين عامي 1999 و2009، وهو نَهج استمرت عليه الحكومة. فمنذ اندلاع الحرب عام 2015، أنفقت الحكومة في عدن ما يصل إلى 6 مليار دولار أمريكي لشراء الوقود وصيانة محطات توليد الطاقة، لكن رغم كل هذه الاستثمارات، لا تزال البنية التحتية ضعيفة.
لم تُعد هذه المشاكل تخفى على أحد، حيث وصفت مذكرة قدّمها رئيس مجلس النواب إلى حكومة رئيس الوزراء معين عبدالملك سعيد في أغسطس/آب (بناء على تقرير اللجنة البرلمانية لتقصي الحقائق) قطاع الكهرباء بالـ “الثقب الأسود لابتلاع المال العام نتيجة لتفشي ظاهرة الفساد”. رصدت الحكومة 569.5 مليار ريال يمني (2.27 مليار دولار أمريكي) في عام 2022، لتمويل الميزانية التشغيلية لوزارة الكهرباء، إلاّ أنها تكبدت خسائر بلغت 557 مليون دولار أمريكي في نفس العام، بسبب ترتيب تعاقدي غير مُجدي مع أحد مُورّدي الطاقة. تفاقم الوضع سوءا – وفق المذكرة – منذ أن كلف مجلس القيادة الرئاسي الحكومة بمعالجة أوضاع الكهرباء في العام الماضي، حيث تُنفق الحكومة حالياً 3 ملايين دولار أمريكي يوميا لتوفير الكهرباء في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، في إطار صفقات توريد غير شفافة. نوّهت المذكرة أيضاً إلى أن “أزمة الكهرباء في عدن ليست أزمة موارد بل أزمة إدارة الموارد”، علماً بأن دراسات أجرتها جهات مستقلة توصلت إلى استنتاجات مماثلة.
يحتاج القطاع إلى إصلاحات شاملة تبدأ باتباع المؤسسة العامة للكهرباء التابعة للحكومة إجراءات شفافة وتنافسية لشراء الكهرباء من مُشغلي محطات توليد الطاقة بالقطاع الخاص. علاوة على ذلك، يتعين على الحكومة تطوير البنية التحتية اللازمة، عوضاً عن الاعتماد على موردين دون وازع من ضمير، وقد يكون الخيار الأفضل استخدام الموارد المتاحة لها للاستثمار في وسائل أرخص وأنظف لتوليد الكهرباء كالطاقة الشمسية، أو على الأقل شراء وقود المازوت بتكلفة أقل وإعادة تأهيل وصيانة محطات توليد الطاقة القديمة. كما يُمكن رفع الدعم تدريجياً بما يُسهم في توفير التمويل اللازم للاستثمار في تطوير البنية التحتية، إلى جانب تحسين آلية تحصيل الفواتير المستحقة لقاء خدمات الكهرباء المقدمة. قد يَلزم أيضا وضع حلول خلاّقة، كتبنّي نهج لامركزي تتولى بموجبه كل محافظة تركيب شبكاتها الكهربائية الخاصة، علماً بأن كل هذه الخطوات ستَتطلب الوقت والمال، لكن قبل كل شيء ستَستوجب وضع حدّ لحالة الفوضى التي أوجدتها الحرب في الميادين السياسية والاقتصادية. بلغت هذه المشكلة نقطة التأزّم حيث تُركت لتَستفحل على مدى سنوات عدة، وبالتالي تبرز حاجة ملحة اليوم إلى الأخذ بإجراء ونَهج شامل ومُتكامل لمعالجتها. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو ما إذا كانت السلطات في عدن على قدر هذه المهمة.