إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

تحت المجهر مياه توتال السوداء في اليمن

Read this in English

ملاحظة: نشرت هذه المادة لأول مرة في صحيفة” لو نوفيل أوبسرفاتور– l’Obs” الفرنسية، وترجمها وحررها مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية


يبدو أن هناك لعنة غريبة تخيم على مديرية “ساه”.. لقد تحولت الأراضي الزراعية الخصبة، التي كانت يومًا مليئة بالمحاصيل والمراعي والليمون والبطيخ والبصل إلى أراضٍ قاحلة ومهجورة، لتبرز أشجار النخيل وحدها بجذوعٍ منحنيةٍ كما لو كانت تترنح، مع سواد يظهر على أسفلها كما لو أنها بدأت بالتآكل، في مشهد مقفرٍ ومُوحش. وهناك، على عتبة المنزل، يجلسُ محمد علي سالم سرور، البالغ من العمر 36 عامًا، يستمع لأصوات الطيور التي أصبحت تزداد ندرةً يومًا بعد آخر في المنطقة. وفي عتمة منزله، يتردد طفلٌ صغير في أن يخطو خطوة إلى الخارج، ليظهر أخيرًا ابنه آدم البالغ من العمر 6 سنوات، ويكشف عن عيب خُلقي مُريع، فإحدى عينيه جاحظة وكأنها ابتعدت قليلاً عن حاجب عينه اليسرى وتدلت بعض سنتيمترات إلى أسفل. قال سرور وهو ينظر إلى تشوهات وجه طفله الصغير: “نحن نعيشُ في المنطقة الأكثر تلوثًا في اليمن”.

نحن على بعد 70 كم جنوب مدينة سيئون، في منطقة حضرموت شرقي البلاد، حيث تمتد شبكة مذهلة من الأخاديد والوديان الحمراء التي تتقاطع وتتصل ببعضها في سلسلةٍ لا متناهية. لعدة قرون، كانت المياه تتدفق من هذه الأخاديد لتغذي أحواض المياه الجوفية الأربعة الرئيسية في باطن الأرض التي تزود اليمن بأكمله بالمياه. ولكن قبل عقدين من الزمن، تحولت مياه الأمطار الموسمية إلى اللون البني يُطلق عليها السكان المحليون “السيل الأسود”؛ أي الفيضانات السوداء. وشكلت هذه السيول تهديداً متواصلاً للقرى لسنوات عديدة حتى الآن. فالأمطار التي تتدفق من الهضاب والمرتفعات المحيطة عادةً ما تكسوها طبقة زيتية داكنة تتسبب في تسميم التربة الصالحة للزراعة، وتلوِّث الآبار والمياه الجوفية، كما تقتل السحالي والقرود والحشرات الصغيرة وكل مظاهر الحياة، وتزيد من تفشي حالات السرطان أو الأمراض الأخرى التي كانت نادرة بين سكان المنطقة.

قال داود صالح الجابري، رئيس المركز الطبي في المديرية، وعلمٌ كبيرٌ لليمن يزيّنُ مكتبه ذا التهوية الجيدة: “لطالما كان السرطان مشكلة في مديرية ساه خاصة في السنوات الأخيرة وأماكن أخرى بسبب المياه الملوثة للغاية”. وتؤكد عواطف حسين بن الشيخ أبو بكر، التي تعمل في مؤسسة حضرموت لمكافحة السرطان، وهي ترتدي نقاباً وقفازاتٍ سوداء، أن: “هناك ما معدله 200 حالة جديدة من السرطان سنويًا في مديرية ساه”، والطفل الصغير آدم هو واحد من هذه الحالات، حيثُ أصيب بسرطان الدماغ بعد وقتٍ قصيرٍ من ولادته وكان بحاجة إلى ثلاث عمليات في الخارج (مصر) لإزالة الورم. وتمكنت شبكة إنسانية تضامنية من جمع التبرعات اللازمة لسفره للخارج حيث جمعت مبلغ 10,000 دولار. وتمكن آدم منذ ذلك الحين من الشفاء بأعجوبة، مع أن المرض ترك في وجهه علامات لا تمحى. يقول والده: “أصبح هذا النوع من السرطان عند الأطفال شيئًا عاديًا. أنا على يقين من أن سبب هذا المرض هو التلوث البيئي الناجم عن شركات النفط. توتال هي المسؤولة عن كل ذلك، وأنا غاضبٌ جدًا منهم”.

عام 1996، بدأت شركة توتال، كغيرها من الشركات الأجنبية العاملة في حوض “المسيلة النفطي”، العمل في المنطقة. غير أنه وللأسف، فإن “القطاع العاشر (10)، الذي تديره شركة “توتال يمن للاستكشاف والإنتاج النفطي“، والتي كانت حتى عام 2015 تابعة لمجموعة توتال الفرنسية، شهد العديد من العثرات والإخفاقات، حيث حصلت سلسلة من الحوادث والاشكالات بسبب تهالك المنشآت التي كانت مخالفة تماماً لمعايير السلامة ومعايير حماية البيئة، فضلاً عن سوء إدارة المخلفات الناتجة عن عملية إنتاج النفط. وعلى الرغم من صعوبة تحديد مستوى ومدى التلوث الحاصل، لكن يمكن القول اجمالاً أن حجم الضرر الناجم عن هذه الإخفاقات كبير ولا يقتصر على عدد قليل من الوديان: فكان من الممكن أن تتأثر العديد من أحواض المياه الجوفية لليمن بأكمله. وعند التواصل مع الشركة بهذا الخصوص، لم تنفِ توتال، الحوادث العديدة التي حصلت وكانت سبباً في هذا التلوث، لكنها أكدت أنها قامت باتخاذ التدابير الفنية المناسبة للحيلولة دون ذلك وأكدت أنها لم تشارك بأي عمل في هذا الحقل النفطي منذ عام 2015.

المهندس الزراعي محسن باصرة، وهو عضو في البرلمان اليمني منذ عام 1997، كان من أوائل الذين نددوا بالتلوث النفطي في المنطقة عقب تلقيه، بحسب قوله، الشكاوى الأولى من السكان الذين يعيشون بالقرب من مرافق “توتال يمن”، بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. وقال :” لقد قمت بكتابة سلسلة من التقارير حول هذه المسألة وعرضتها كذلك على مجلس النواب في العديد من المناسبات”. وخلصت جميع التحقيقات التي قام بها باصرة إلى ما يسمى بـ “المياه المنتجة “. وهذه المياه، بحسب شرح “بول هارديستي” الرئيس التنفيذي للمعهد الأسترالي للعلوم البحرية، هي التي تخرج إلى السطح من الآبار أثناء عملية إنتاج النفط والغاز، وتحتوي في تركيبتها السامة على “كميات صغيرة من المعادن الثقيلة والمواد المُشعّة، بالإضافة إلى كوكتيل مسرطن للغاية يسمى ” BTEX (البنزين والتولوين وإيثيل بنزين والزيلين)”.

لاستخراج النفط من القطاع العاشر “10”، استخرجت توتال اليمن ملايين اللترات من هذه المياه السامة يومياً منذ عدة سنوات. ووفقاً لدراسة مفصّلة أجراها مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، فإن القطاع 14 المجاور كان ينتج ما يصل إلى مليوني برميل من المياه المنتجة يوميًا في عام 2008،. ولكن السؤال المطروح هو كيف تخلصت الشركة من هذه المياه؟

لقد قامت الشركة بتخزينها في قرابة مئة خزان/حوض تم دفنها تحت الأرض، وتغطيتها بأغطية بلاستيكية بسيطة لمنع التسرب إلى التربة، ليتم بالتالي تعريض هذه المياه لأشعة الشمس حتى تتبخر… وهذه طريقة قديمة بقدر ما هي خطيرة، بحسب قول مهندس نفطي فرنسي – رغب في عدم الكشف عن هويته- حيث قال: “بحسب علمي، لم يعد أحد يلعب هذه اللعبة في الوقت الراهن، باستثناء الشركات الصغيرة التي تمارس أساليب التلاعب والاحتيال، حيث تنص المعايير الدولية على أن تتم معالجة المياه داخل المنشآت النفطية. إلا أن الطريقة التي تم استخدامها هنا تؤدي إلى تبخّر جزء من المياه إلى الهواء فيما يتسلل جزء آخر إلى التربة، وذلك لأن عمر الأغطية البلاستيكية “البوليمر” المعرضة للأشعة فوق البنفسجية قصير. وبمجرد تبخّر المياه ستبقى جميع الجسيمات الصلبة في الخزانات: وهذه الأخيرة عبارة عن رواسب هيدروكربونية مركزة النشاط الإشعاعي وشديدة السمية.

من جانبها، تُقر شركة توتال بأنها لم تقم أبداً بالتفريغ والتنظيف الكامل لخزاناتها، بحجة تفادي إتلاف البطانة الداخلية الهشة للخزانات، ولكنها أكدت بأنه قد تم تركيب نظام معالجة المخلفات النفطية “skimming system” لاستخراج النفط المتبقي من خلال فصله عن المياه المنتجة ثم إعادة تدويره. غير أن هذا الإجراء بدوره لا يساهم في منع أطنان من التربة المشعة والمسرطنة التي تُرِكت لتتحلل. فحتى هذه اللحظة ، تظهر صور الأقمار الصناعية للقطاع العاشر التي حصلت عليها صحيفة ” l’Obs” بوضوح، أن بعض الخزانات تفيض بهذه الرواسب الكيميائية الضارّة.

علاوة على ذلك، فإن مهندساً يمنياً كان يعمل في شركة توتال يمن للاستكشاف والإنتاج النفطي لديه المزيد من المعلومات حيث قال: “عندما كانت الخزانات تمتلئ بالكامل، كنا نُعيد حقن المياه المنتجة في آبار تصريفية تم حفرها بعمق أكثر من 2500 متر”… لكن الشركة نفت ذلك بقولها: “لا وجود لهذه الآبار التصريفية المزعومة لحقن المياه المنتجة”. ويعترض “لوسيان دات” على هذا الأمر، وهو موظف فرنسي سابق شغل منصب مشرف للصحة والسلامة والبيئة في القطاع 10 بين عامي 2006 و2010. ويؤكد أن توتال دفنت بالفعل مياه سامة حيث قال: “غالباً ما تفعل شركات النفط ذلك. فعندما يقومون بالحفر للتنقيب على النفط، هناك الكثير من الآبار عديمة الفائدة لأنه لا يوجد بها نفط، لذلك يملؤونها بمياه ملوثة إلى حد ما وهو تصرف لا مسؤول ومن ثم يقومون بردمها وإغلاقها”. ووفقاً لخبير لا يود الكشف عن هويته فإن هذه الطريقة خطيرة حيث قال: “لم أسمع بمثل هذه الطريقة من قبل … وهذا مجدداً مخالف للمعايير والممارسات القياسية. ويثير تساؤل ما الذي سيحدث للمياه السامة التي يتم حقنها في البئر؟ كما يجب أن تكون الأنابيب الناقلة للمياه غير قابلة للتسرب ويجب صيانتها باستمرار”. ووفقاً لوسيان دات، فإن هذا السؤال لم يُطرح أبداً: وحتى لو كان هناك تسرب صغير، فلن يكون له تأثير على عمق 2000 متر. لكن يظل الخطر الوحيد هو تلوث منسوب المياه الجوفية”. ومن جانبها، تؤكد شركة توتال أنه “لم تكن هناك آبار لحقن المياه في طبقات المياه الجوفية”.

السؤال هنا: من كان يعرف عن هذه الطرق والأساليب؟

عام 2012، انضم المحامي المحلي سامي جواس إلى الجيولوجيين والممثلين المحليين وعضو من وزارة النفط اليمنية، في زيارة إلى القطاع النفطي 10 و”أحواضه الكبيرة التي تبلغ مساحتها 30 مترا في 30 مترا”. كان في استقبال اللجنة حاتم نسيبة، أحد الشخصيات البارزة في شركة توتال في الشرق الأوسط، الذي توفي في عام 2020. ودارت مناقشات ساخنة حول ذلك حيث طلب أعضاء اللجنة من الشركة بناء محطة لمعالجة المياه المنتجة. ورد الرئيس التنفيذي باقتضاب أن ذلك “مكلّف للغاية”. وكما يتذكر المحامي: “لقد اقترحوا علينا حلين فقط هما: إما تعريض المياه المنتجة للشمس أو إعادة حقنها، ولكن في مستوى أعمق من طبقات أحواض المياه الجوفية العذبة الرئيسية. لقد ساورنا القلق إزاء هذه الحلول، لذلك سألنا ما إذا سيكون لهذه المياه أثر على المدى الطويل من حيث تلويث المياه الجوفية التي يشربها اليمنيون”. ثم التفت حاتم نسيبة إلى ممثل وزارة النفط، قبل إلحاحه على أن “الحكومة اليمنية موقعًة على هذه الطرق في العمل!”. ويقول المحامي سامي جواس: «لقد حذرتهم من أنه في حالة التلوث، سيحاكمون من قبل القضاء اليمني أو الفرنسي”. وأكد هذه التصريحات حسين بامخرمة، عضو المجلس المحلي في سيئون، الذي كان حاضرًا أيضا أثناء هذه الزيارة: “لم يكن طرحهم مقنعًا أبداً ولم تتبدد مخاوفنا على الإطلاق”.

لم تأت مخاوف السكان المحليين من فراغ، حيث حصلت العديد من حالات التلوث الخطيرة في وقت مبكر أواخر القرن العشرين. وفي يونيو 2008، أشار تقرير لمحافظ حضرموت إلى تلف أحد الخزانات السامة التابع للموقع، الذي “جرفته الأمطار إلى وادي بن علي”. وبعد زيارة المسؤولين المحليين للمنشآت، لاحظوا أنه تم بناء عدة خزانات في أعقاب انتهاء السيول الطبيعية. وعندما تحركوا لمسافة 20 كيلومترا عبر الوادي، وجدوا العديد من البقع السوداء، وهي الآثار المرئية للمياه المنتجة التي لم يتم فصلها بنسبة 100٪ عن النفط الخام. ويكشف تقرير المسؤولين عن القلق الذي ساور المجتمع المحلي: “كان سكان وادي بن علي قلقين بشأن هذه البقع السوداء التي ظهرت بعد الفيضانات الأخيرة. وسألونا عن مدى ضرر هذه المواد على صحتهم وأرضهم واستخدامهم اليومي للمياه (الشرب والطهي والغسيل والري). وقد قرر البعض التوقف عن زراعة وحراثة أراضيهم لأنهم يخشون أنه بمجرد زراعة أراضيهم، لن ينمو شيء مرة أخرى”. وتم أخذ عينات من التربة والمياه ليكشف التحليل المرفق بالتقرير أن مستويات الكادميوم والزئبق أعلى بكثير من معايير منظمة الصحة العالمية. وبحسب بيير كورجولت رادي، أخصائي التلوث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي- CNRS، “يمكن أن تنشأ الزيادة في الزئبق من المياه المنتجة التي بها رواسب نفطية، لكن إثبات ذلك ليس بالأمر السهل. سيتطلب الأمر تحليلات أكثر كفاءة وتكلفة واستهلاكًا للوقت لمحاولة إثبات ذلك”. لم تكن جامعة حضرموت للعلوم والتكنولوجيا تمتلك الوسائل التقنية والموارد المالية لإجراء مثل هذه التحاليل. ويضيف بيير كورجولت رادي: “ولكن إذا اعتمدنا على النتائج وسياق التسريبات المتكررة للمياه المنتجة والنفط، فإن هذه تبدو فرضية مقبولة وتفسر ظاهرة السرطانات لدى السكان المحليين في المنطقة”.

بحسب إفادة عدد قليل من أطباء الأورام في المنطقة، فإن عدد حالات السرطان بدأ في الارتفاع تحديداً في عام 2008، عندما حدث الأسوأ: التسرب النفطي في وادي الغبيرة عقب انفجار خط أنبوب توتال يمن، الذي تم تمديده على الأرض لعشرات الكيلومترات بإحدى ليالي شهر مارس/آذار، في ظروفٍ غامضة. ولم ترغب الشركة الفرنسية في الكشف عن سبب التسريب. وعزت الحكومة اليمنية ذلك إلى مشكلة فنية. والسؤال هنا لماذا لم تقم شركة توتال، التي تتباهى بمشروعها الأخير في أوغندا بقيامها بدفن الأنابيب الخاص بها لمئات الكيلومترات، بعمل الشيء نفسه في اليمن، لتتجنب الأعمال التخريبية وحماية نفسها من أي أخطارٍ مستقبلية؟ وهو سؤال يُعيد نفسه يتعلق بالتكلفة. ويبدو جلياً من الصور التي لم يتم نشرها وتم إرسال نسخة منها إلى صحيفة “l’Obs”، مدى وحجم هذا التسريب.

أندريه لامي، مدير السلامة والبيئة والتنمية المستدامة من سبتمبر 2005 إلى يناير 2009 في قطاع 10، لا يزال يتذكر هذه الحادثة حيث قال: “حدث ذلك في الليل، ولم نتدخل إلا في الصباح. من الصعب إخباركم بعدد اللترات من النفط التي تسربت في تلك الليلة، لكن لك أن تتخيل أنبوبًا ضخمًا يصب إلى الأرض، أي ما يمكن تقديره بآلاف البراميل” إلى جانب ذلك، لم يكن المكان في مكان على مستوي أفقي لذا تم إفراغ الأنبوب. ويقول اندريه إنه وفريقه قاموا بسحب أنابيب طويلة لشفط برك النفط التي تشكلت على جوانب الوديان والاخاديد الملوثة، كما قاموا ببناء مصدات ترابية باستخدام الجرافات حول الفراغات والتجاويف التي كان يتسرب منها النفط، معززة بأقمشة ماصة لمواجهة مياه الأمطار في حال حدوثها. في حين يقول مهندس نفطي يرغب في عدم الكشف عن هويته: “هذه الإجراءات إجراءات تقليدية، وبدون إجراء معالجة للتربة، فما الفائدة؟ لقد كان من الضروري غسل التربة وصولاً إلى الأعماق الملوثة”.

يتذكر لوسيان دات المشهد: “لم نتمكن من إنزال السيارات والمركبات إلى الموقع، لذلك اضطررنا لحمل المعدات على الحمير. أما بخصوص التلوث النفطي على السطح فتتركه كما هو، وبعد ستة أشهر يختفي لأن الشمس والبكتيريا ستتكفل بإزالة جميع الهيدروكربونات”. ولم يتطرق “دات” مطلقا للمعادن الثقيلة، لكن قال “كانت كل عمليات التنظيف هذه تزعجني، لأننا فعلناها في الأساس من أجل إبقاء وسائل الإعلام بعيدةً عنا، فشركة توتال كانت خائفة جدا [من أن يتم الكشف عن ذلك] لدرجة أنهم جعلونا ننظف كل حجر، لكن من الواضح أنه كانت هناك فجوات لم نتمكن من الوصول إليها وأن كل ذلك من الممكن أن يظهر للعلن في كل موسم أمطار … في الوادي، يقول مهندس سابق يعمل في الشركة تحدّث شريطة عدم الإفصاح عن هويته: “كانت توتال تدفع للسكان المحليين، مع عدم توفير أي حماية، خمسة دولارات في اليوم الواحد مقابل طمس وإزالة البقع السوداء”. غير أنه في الواقع آلاف من لترات النفط قد تسربت ولا تزال تخرج عند هطول الأمطار الغزيرة، حسبما يقول السكان. كما تشير عدة تقارير من المحافظة إلى خروج سيول سوداء من الجبال. كان آخرها عام 2017. من جانبها، تدعي شركة توتال أنها أنشأت “معدات احتواء” للحد من آثار “التسرب” وأنشأت «نظامًا لمراقبة المياه في قاع الوادي، الذي بدوره لم يكشف عن أي تلوث على السطح أو تحت الأرض”.

لقد استغرقت شركة توتال عدة شهور في عملية التنظيف للتسرب المذكور. وللمقارنة فقط، استغرقت عمليات التنظيف التي أعقبت تسرب خط أنابيب نفطي في بلين دو لا كراو (بوش دو رون) في الجنوب الفرنسي عام 2009، أكثر من عشر سنوات. وتمت إزالة 73 ألف طن من التربة الملوثة، تم تصنيف حوالي ربعها بأنها غير صالحة للاستخدام وأنها نفايات خطرة؛ فيما خضع الباقي للمعالجة البيولوجية. وعلى الرغم من هذه الإجراءات، إلا أنه يعتقد أن مئات الأمتار المكعبة من النفط لا تزال موجودة في تربة هذا الموقع الفرنسي.

يسبب التسرب النفطي الغضب والذعر بين السكان اليمنيين القاطنين بالقرب من قطاع 10، حيث تشير التقارير المؤرخة في يونيو/حزيران 2008، التي أعدتها لجان في محافظة حضرموت، إلى أنه تم عقد اجتماعات لحل أزمة بين توتال وممثلين محليين بعد حادثة التسرب التي حصلت. ووفقا لأحد هذه التقارير: “أكدت لنا شركة توتال بأنها تستثمر مبلغًا كبيرًا من أجل الحفاظ على البيئة والمياه، وتقول أنها أجرت دراسات وتحليلات لمنسوب المياه الجوفية في ساه و120 بئرا”. وقد حصلت صحيفة « L’Obs » على هذه الدراسات التي أجرتها شركة جيوس السويسرية في يونيو 2008 بتمويل من توتال، حيث تعتبر هذه الدراسات والتحليلات العلمية على عينات المياه المأخوذة من الآبار، أكثر بدائية من تلك التي أجرتها جامعة حضرموت. فلم يتم تناول نشاط شركة توتال إلا مرة واحدة في النتائج، فيما لم تُشر ولو بكلمة واحدة للتسرب النفطي الذي حدث في مارس 2008، ولم تذكر تسرب المياه المنتجة، حتى أن الشركة السويسرية ذهبت في تحليلاتها إلى حد إلقاء اللوم على السكان المحليين، حيث أفادت: “تظهر المعايير المقاسة في الميدان حالات شاذة ترجع على الأرجح إلى نقاط التلوث المحلية الناجمة عن سوء إدارة مياه الصرف الصحي التي تتسرب إلى قاع الوادي وتلوث الآبار”. وقد أكدت لنا شركة توتال، عند سؤالها عن تقرير شركة جيوس، أن “الزيارات الميدانية والتحليلات اللاحقة التي أُجريت مع ممثلي السلطات والسكان المحليين أكدت عدم وجود آثار نفطية متبقية في المياه”.

كما يُقال، فإن المصائب لا تأتي فرادى. فقد كان عام 2008 هو العام الذي شهدت أيضًا مديرية ساه في شهر أكتوبر/تشرين الأول، فيضانات مروعة اجتاحت بعض مناطقها، حتى أن بعض حواجز وسدود المياه في المنطقة فاضت وتحولت إلى سيول جرفت كل ما أمامها لمئات الكيلومترات. ويقول أندريه لامي بوضوح: “لقد ساعدنا السكان بشكل كبير”. وأتذكر نقاش مع الزملاء في موقع توتال… لم يكن لدى الأطفال اليمنيين حليب على الإطلاق وكان لدينا مخزونٌ كبير منه. وكان بعض أعضاء الفريق مترددين في التخلي عنه لأنهم كانوا يشربونه كل صباح مع الشاي. لكننا في النهاية، صوتنا وقررنا بأن نعطي كل الحليب إلى الأطفال في منطقة ساه”.

ومن الواضح أن تقديم هذا الحليب لم يكن كافيًا. فسرعان ما انطلقت المظاهرات والاعتصامات السلمية في الوادي السفلي عند مدخل قطاع 10، حيثُ طالب المزارعون الغاضبون تعويضات من شركة توتال عن أراضيهم الملوثة. وشكلت قبيلة الجابري، ذات النفوذ المحلي الكبير، لجنة مكونة من اثني عشر زعيماً قبلياً. وقررت توتال، خوفًا من وقوع هجمات إرهابية أو عمليات تخريبية، دفع ثمن التلوث الناجم عن خط الأنابيب الخاص بها. وأوضحت الشركة عند التواصل بها أنه تم تشكيل لجنة تعويضات بالتعاون مع السلطات المحلية، وأن “هذه اللجنة قامت باحتساب بشكل مستقل المبلغ السنوي الذي يتعين على الشركة دفعه”. واستطاعت صحيفة ” l’Obs ” التحقق من أن شركة فرنسية صغيرة Idéal تم تكليفها في أبريل 2010، لتقييم خسائر المزارعين. ولم يتم التعاقد مع خبراء تلوث التربة والمياه لدراسة التداعيات البيئية والصحية طويلة الأمد. وتُرك فريديريك بيلات، عالم الأنثروبولوجيا والمهندس الزراعي، وحده ليقوم بتقييم الأضرار. ويتذكر قائلا: “لم يكن لعمال شركة توتال أي تواصل بالسكان، حيث وصلوا بالطائرة مباشرة إلى مقرات عملهم ومكثوا بضعة أسابيع ومن ثم غادروا، دون أن يكون لديهم أدنى فكرة على الإطلاق حول ما الذي يجري هناك في أسفل الوادي. لقد قمت أنا بإجراء دراسة زراعية صغيرة لمعرفة كيفية تعويض المزارعين، واقترحتُ شفويًا بأن تقوم الشركة بإجراء تحليل للتربة والمياه. ولا أعرف حقيقةً ما إذا كان قد تم ذلك أم لا”.

في إطار هذا التقييم، التقى “بيلات” بالعديد من المزارعين لتحديد أسعار البيع، وحجم المحاصيل، وتكلفة البذور، ومساحة الهكتارات المتضررة، حيث قال: “لقد اقتصرت دراسة الضرر التي أجرتها شركة توتال على دراسة قطعة أرض صغيرة جداً، وحتمًا أن التلوث لا يقتصر على هذه القطعة من الأرض فحسب، ولكن كنت مُلزماً لأقوم بعملي في نطاق المسؤوليات المكلف بها. وقد بالغت في تقدير التعويضات”. وبحسب تقريره الذي كان مفصّلاً للغاية، فقد قدّر الخسائر الزراعية بمبلغ 59000 دولار يتم تقاسمها بين 500 من سكان الأراضي المحددة. وهذا يمثل 0.0005 بالمائة من الأرباح السنوية لشركة توتال التي ارتفعت إلى 10.3 مليار يورو عام 2010، مدعومة بارتفاع أسعار النفط. ووفقًا لوثيقة بتاريخ 28 أغسطس/آب 2012، أرسلها مدير توتال في المنطقة، حاتم نسيبة، إلى المحافظ، فإن الشركة “دفعت تعويضات عن «الأضرار» التي طالت أراضي مواطني وادي الغبيرة… [مبلغ] 11,400,000 ريال يمني (57,000 دولار) كتعويض عن عام 2008، و 58,000 دولار لعام 2009 و58,000 دولار لعام 2010″. ومن الغريب أن الترجمة العربية للوثيقة تحدثت فقط عن «الأضرار» ولم تستخدم فيها كلمة «التلوث» بتاتاً. واليوم، تدعي توتال أنها دفعت تعويضات خسائر لعام 2011.

لم يساعد هذا التعويض الأولي في تهدئة غضب السكان المحليين، إذ اجتمع مجموعة من المحامين اليمنيين في سبتمبر/أيلول، في إحدى غرف فندق قصر الحوطة الذي يقع بالقرب من مدينة شبام، لمناقشة إجراء قانوني آخر ضد شركة توتال. وكان طاهر أحمد باعباد وزملاؤه في “مكتب الحق للمحاماة” قد تقدموا بشكوى ضد شركة النفط العملاقة في مارس 2015، وكانوا حينها يمثلون خمسة مزارعين من قبيلة الجابري الذين تضرروا من انفجار خط الأنابيب، وطلبوا فيها من محكمة سيئون إلزام شركة توتال “بتحمل المسؤولية الكاملة عن هذا التلوث، وإنهاء أنشطتها في الوادي وعلى الأراضي، وتنظيف المياه وفحص وتحليل تركيبتها، وتنظيف كل الأخاديد التي لا تزال ملوثة ودفع تعويضات جديدة للمزارعين”. هنا نتساءل هل كانت استجابة الشركة الفرنسية للقضاء قد تأخرت كثيراً؟ ففي 1 مارس/آذار 2016، أصدر رئيس محكمة سيئون مذكرة إلى المحافظ تضمنت أمرًا تنفيذيًا بمصادرة “الأموال المودعة من قبل شركة توتال لدى بترومسيلة”، وهي شركة النفط الوطنية اليمنية التي استلمت بعد ذلك منشآت توتال.

ما هي بالضبط هذه الأموال؟

من الصعب تحديد ذلك. فقد كانت التعاملات المالية بين توتال وبترومسيلة شائعة منذ نهاية التسعينيات وحتى بداية الحرب في عام 2015. ويُشير اتفاق سري أبرم عام 2015، وعهد به محاسب سابق في شركة توتال إلى صحيفة « l’Obs » ، إلى أن مبلغ 59,722,603 دولار قدمته الشركة الفرنسية للشركة اليمنية مقابل «إعفائها وإخلاء عهدتها من الالتزامات» المتعلقة بآبارها ومرافقها القديمة والتي أصبحت أقل ربحيةً مع مرور الوقت. وبموجب هذه الاتفاقية، “توافق كل من الجمهورية اليمنية ووزارة (النفط والمعادن) على أنه بعد تقديم هذه الدفعة، سيتم إخلاء الشركة المتنازلة (توتال) وإبراء ذمتها وإعفائها من كافة المسؤوليات والمطالبات بصورة نهائية لا رجعة فيها”. وهذا دليل آخر على نوايا شركة توتال النفطية في حماية نفسها من أي إجراءات قانونية قد تتخذ بحقها بعد فرارها من البلاد في بداية الحرب الأهلية في عام 2015.

الأمر المؤكد أنه: في عام 2016، تم إبلاغ مكتب الحق للمحاماة من قبل مقدمي الدعاوى بأنهم يسحبون شكواهم، ولم يكن المحامون على علم بالشروط المالية التي أدت إلى الانسحاب، بعد أن تم استبعادهم من المفاوضات بين بترومسيلة وتوتال ومزارعي وادي الغبيرة. وتحدث المحامي طاهر أحمد باعباد عن مبلغ قدره 400,000 دولار، ولكنه دون تقديم أي دليل. وعند تواصل الصحيفة «l’Obs» مع المدعين، لم تجد منهم تجاوبا بالرد. من جانبها، نفت شركة توتال أنها “دفعت مبالغ مباشرة أو غير مباشرة لمقدمي الدعاوى لكي يسحبوا شكواهم”. لكن السخط العام لا يزال قوياً ولم يتوقف، فبحسب قول أحد المحامين فإن “شيوخ القبائل الذين كانوا مسؤولين عن توزيع أموال التعويضات الأولى التي دفعتها شركة توتال لم يقوموا بتوزيعها بشكل عادل”.

والسؤال هنا من المستفيد من هذه القضية المروعة؟ وكيف يمكن معرفة ذلك؟

في وادي ساه، يخرج الشيخ غازي الجابري من وادي ساه ترافقه عدداً من سيارات الدفع الرباعي ذات النوافذ العاكسة. ويعرف هذا الزعيم في المنطقة بنشاط قبائله ضد التلوث الذي يفتك بها. ويحاول هو وأتباعه جمع الأموال لمساعدة المزارعين والمرضى على البقاء على قيد الحياة. ويقول غازي شاكياً وهو يمضغ القات وهو شجرة منشطة شائعة في اليمن “لم أحصل أبدا من توتال على أي مبلغ، ما الذي حصلت عليه كتعويض منها؟ أربعة خرفان!”.

غازي ليس الشيخ المحلي الوحيد الذي اشتكى من عدم الحصول على التعويضات الصغيرة الثلاثة التي دفعتها توتال بين عامي 2008 و2010، حيث يقول شيخ آخر (عبد اللطيف الجابري) “لم يكن هناك تقاسم للتعويضات. سوى حصول مشايخ صغار من الوادي على شيءٍ بسيط، في حين تموت الأشجار في المساحات الخضراء، وتتضاءل المحاصيل، وتختفي النحل، والناس في كل مكان يصابون بالسرطان. تستمر البقع السوداء في الظهور مرة أخرى. أنا مستعد للذهاب إلى فرنسا لمقاضاة شركة توتال”.

هو ليس وحده الذي يثير إمكانية اتخاذ مزيد من الإجراءات القانونية ضد الشركة. فهناك فاروق الجابري، الذي نشأ على إيقاع هذه المصائب، أصبح قائداً فاعلاً لمنطقة وادي بن علي وهو في سن 33. واحتفظ بمعظم مراسلات أسلافه مع شركة توتال في حالة عودة القضية مرة أخرى إلى المحكمة. وقال: “الناس غاضبون، لكن غالبية السكان لا يعرفون حقوقهم ولا يعرفون أن بإمكانهم المطالبة بتعويضات عن الأضرار الفادحة التي تسببت بها توتال. سأذهب وأحمل أصواتهم إلى فرنسا إذا طُلب مني ذلك”. وإذا كانت شركة توتال تعتقد أن قضية التلوث قد غُمرت في فوضى الحرب الأهلية في اليمن، فقد تُصاب بخيبة أمل: فالغضب الذي أججته مياهها السوداء لم يخمد بعد”.