لم تمر مطالبات حسن باعوم باستقلال اليمن ومن ثم استقلال الجنوب -أوائل ستينيات القرن الماضي -مرور الكرام حيث انتهى به المطاف أحيانًا إلى السجن أو المنفى. لم يختلف الأمر عام 2017 بعد مطالبته بإخراج “الاحتلال الأجنبي من الجنوب” في إشارة إلى دول التحالف العربي، حيث اعتبرت الحكومة اليمنية المدعومة من التحالف خطابه متطرفًا بما يكفي لإبقائه في المنفى وعزل فصيله الانفصالي خارج هياكل السلطة في الدولة، غير أن حضوره السياسي والشعبي لم يضمحل، وتعززت فرصه بالعودة مع تبدل الديناميكيات السياسية في الجنوب بعد رحيل الرئيس عبدربه منصور هادي واستبداله بمجلس رئاسي في أبريل/ نيسان 2022.
يُتوقع عودة باعوم، الذي اتخذ من مسقط مقر إقامة له منذ 2015، قريبًا إلى عدن، حيث يجري بلورة تحالف بين المكونين الجنوبيين الأكثر شعبية اللذين يطالبان بالانفصال: المجلس الانتقالي الجنوبي صاحب النفوذ السياسي وفصيل باعوم (بالحراك الجنوبي) المدعوم بقاعدة جماهيرية “المجلس الأعلى للحراك الثوري لتحرير واستقلال الجنوب”.
أدى خروج هادي من المعادلة السياسية إلى تبدل ميزان القوى لمصلحة المجلس الانتقالي الجنوبي، وخلق فرصة لاستكشاف مثل هذه التحالفات بحُكم تمتع فيه المجلس الانتقالي بنفوذ داخل الحكومة مستمدًا ذلك من عضوية رئيسه عيدروس الزُبيدي في مجلس القيادة الرئاسي. نجح الزُبيدي في استمالة القطاع الأكبر من الكتلة العسكرية والأمنية الموالية للرئيس السابق هادي في محافظة أبين، وبناء عليه أعلن أحد الألوية العسكرية النظامية هناك انضمامه إلى “القوات المسلحة الجنوبية” بقيادة الزُبيدي. بقية التشكيلات الأمنية والعسكرية الحكومية انخرطت مؤخرًا في عمليات مشتركة مع قوات الانتقالي من ضمنها الحملة الجارية لطرد عناصر تنظيم القاعدة من وادي عُميران في أبين. في المحصلة، دفعت قوة المجلس الانتقالي المتنامية المجموعات غير المسلحة الراغبة بلعب دور سياسي ملموس في الجنوب إلى النظر في التقارب السياسي معه، لكنها أسهمت أيضًا في تغذية المخاوف لدى معظم المجموعات الجنوبية من أن يؤدي هذا التقارب إلى فقدانها استقلالها التنظيمي والسياسي مع انصهارها داخل هيكل الانتقالي.
برز نجل باعوم “فادي” -رئيس المكتب السياسي للحراك الثوري -كقائد فعلي للمجلس الأعلى في السنوات الأخيرة، إلى جانب عمله كهمزة وصل بين والده والقواعد الجماهيرية في الجنوب. تنقل فادي بدهاء عبر محافظتي حضرموت والمهرة -المركز الرئيسي للمجلس الأعلى -مقتفيًا الطرق الفرعية التي اعتاد المرور بها سرًا منذ أن كانت قوات الأمن تلاحقه إبان حكم الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح. لا يُتوقع انخراط حسن باعوم -80 عامًا، يطلق عليه ناشطو الحراك لقب “مانديلا الجنوب” -في الحياة السياسية بشكل يومي بعد عودته إلى عدن، وبحسب مصادر داخل فصيله، يجري الإعداد لاحتفال تكريمي له أشبه بـ”مباراة اعتزال” للزعيم المتقدم في السن.
حاليًا، تشهد العاصمة المؤقتة عدن محادثات مكثفة بين فادي باعوم من جهة وعيدروس الزُبيدي وأحمد بن بريك (القيادي الكبير في المجلس الانتقالي) من جهة أخرى. سيكون الشكل النهائي لتحالف المجلس الانتقالي وفصيل باعوم (المجلس الأعلى) أحد المؤشرات التي ستتابعها الجماعات الجنوبية الأخرى عن كثب؛ وبناء عليه ستتخذ قرار الانضمام لموسم الحج الجنوبي إلى مديرية التواهي -مقر القيادة السياسية والعسكرية للانتقالي -من عدمه.
كي يضمن المجلس الانتقالي الاستغلال الأمثل لهذه الفرصة؛ شكل فريقًا برئاسة صالح محسن لإنشاء قنوات تواصل مع الجماعات الجنوبية داخل اليمن، في حين يركز الفريق الأساسي بقيادة أحمد بن فريد -يُمارس مهامه من الخارج منذ منتصف 2021 -على فتح قنوات حوار مع الأطراف الجنوبية في الخارج، وأجرى بالفعل نقاشات أولية مع فادي باعوم. إضافة إلى فصيل باعوم، ينخرط الفريقان مع مجموعات جنوبية أخرى في القاهرة وعدن بمن فيها المجلس الأعلى للحراك بقيادة فؤاد راشد (وهو فصيل آخر للحراك الجنوبي)، وياسين مكاوي رئيس مكون الحراك المشارك في مؤتمر الحوار الوطني (2013-2014) وأحمد العيسي، رجل الأعمال الثري ورئيس الائتلاف الوطني الجنوبي، بهدف الاتفاق على “ميثاق وطني” يؤكد على مطلب استقلال الجنوب، ويضع الملامح الأولية لهذه الدولة المستقلة.
اليوم، تبدو الكرة في ملعب المجلس الانتقالي الجنوبي لضمان أن تتحول دعوات الحوار إلى مسار جاد ومستدام يضمن الشراكة في السلطة. حوار لا يقفز إلى مناقشة الدولة المستقلة المنتظرة قبل بناء توافق حول الإطار التفاوضي العام “لقضية شعب الجنوب” الذي نصت عليه مخرجات مشاورات الرياض 2022.
أما النمو المضطرد لقوة المجلس الانتقالي الذي يُعد سلاحًا ذي حدين، فيمكن تخفيف تداعياته السلبية من خلال إشراك المجموعات الجنوبية الأخرى في صنع القرار، حيث سيضمن ذلك توجهه للحوار والشراكة بشكل استراتيجي وليس تكتيكي. كما بإمكان المجلس الانتقالي وبقية القوى الفاعلة الاستفادة من خبرة وحيادية الوسطاء الدوليين المنخرطين في المسار الثاني للسلام الذين سبق لهم العمل بشكل معمق على الملف الجنوبي، ويمكن تكليفهم ببعض مهام تيسير الحوار.
يحاول المجلس الانتقالي انتهاج سياسة “صفر مشاكل” مع المكونات الجنوبية. يحتاج إلى التقارب مع القوى الجنوبية الأخرى كي يعزز ادعاءه بتمثيل الجنوب، وتوحيد الجبهة الجنوبية لتعزيز موقفه السياسي قبل تشكيل الوفد التفاوضي المشترك للحكومة الشرعية المدعومة دوليًا في أي مفاوضات سلام مستقبلية، وسيسمح له بالتفرغ لإدارة معاركه السياسية في محافظتي حضرموت والمهرة الشرقيتين ضد حزب الإصلاح. في المقابل، ترحب غالبية القوى الجنوبية الأخرى برأب الصدع ونبذ الخلافات وبفرص منحها صوتًا في القرارات المتعلقة بأي اتفاق سلام أو تسوية سياسية، لكنها قد لا تهرول للتقارب مع الانتقالي -على غرار حسن باعوم ونجله فادي -في حال ظلت محصلتها الراهنة من السلطة “صفر مكاسب”.
هذا التحليل هو جزء من سلسلة إصدارات ينتجها مركز صنعاء بتمويل من الحكومة الهولندية. تستكشف السلسلة قضايا ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وبيئية، بهدف إثراء النقاشات وصنع السياسات التي تعزز السلام المستدام في اليمن. الآراء المعرب عنها في هذا التحليل لا تعكس آراء مركز صنعاء أو الحكومة الهولندية.