إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

افتتاحية مركز صنعاء هل ينجو اليمن من فيروس كورونا؟

Read this in English

يبدو أن اليمن التي ترزح تحت وطأة المشاكل الإنسانية والاقتصادية المتفاقمة والمتراكمة خلال السنوات الماضية تاركة اليمنيين العاديين معرضين للخطر بشكل كبير، ستواجه موجة جديدة من الأزمات نتيجة الانتشار المتسارع لفيروس كورونا في البلاد، لدرجة توقعت معها الأمم المتحدة أن يُصيب الفيروس قرابة 16 مليون شخص في اليمن. اتسمت استجابة الأطراف المتحاربة، لجائحة كورونا بالاستهتار، بل بالغياب الحقيقي في أغلب مناطق اليمن.

تزامنت هذه التطورات مع تراجع الدعم المالي الدولي لجهود الإغاثة في البلاد، والذي جاء في أسوأ وقت ممكن. ومن المتوقع أيضاً أن تنخفض كمية العملة الأجنبية المتوفرة في اليمن بشكل حاد نتيجة تراجع التحويلات المالية للمغتربين، ونفاد الدعم السعودي المخصص لتغطية استيراد المواد الأساسية. وفي ظل هذه العوامل مجتمعة، يبدو أن الأشهر المقبلة ستكون أليمة وعواقبها كارثية، فهل سيكون بوسع اليمنيين إنقاذ بلادهم، أم أن البلد بوضعه السياسي الراهن لن يتمكن من التعافي مجددا بعد انحسار جائحة كورونا؟

سعت سلطات الحوثيين للتكتم على تفشي فيروس كورونا بدلاً من تعزيز الوعي العام، وأبقت المتاجر مفتوحة وسمحت بتنظيم الاحتفالات الرمضانية والعيدية كالمعتاد خلال شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار، بالرغم من تزايد عدد الوفيات كما بدا واضحاً من حسابات اليمنيين على وسائل التواصل الاجتماعي، وبحسب التقارير التي أفادت عن ارتفاع ملحوظ في إحصائيات الدفن خلال شهر مايو. لم يفرض الحوثيون أي إجراءات إغلاق جديدة تواكب الانتشار الواسع للوباء مؤخرا، بل اكتفوا بإغلاق المدارس والجامعات وقاعات المناسبات والمقاهي الذي جرى في وقت سابق قبل انتشار الوباء في البلد، وواصلوا جمع الأموال من التجار في ممارسات ترقى إلى الابتزاز، كما أجبروهم على دفع الزكاة لهم خلال شهر رمضان المبارك، وقد يكون ذلك أحد دوافعهم للتكتم وعدم فرض إجراءات مشددة للوقاية من الفيروس. وبالتالي فقد رفعت تلك السياسة التي اتبعتها الجماعة درجة التهديد التي يمثلها فيروس كورونا، وجعلت انتشاره في شمال اليمن محتماً لا محالة كما حدث في الأسابيع الأخيرة.

في هذه الأثناء، شهد المعسكر المناهض للحوثيين تنافساً بين فصائله يمكن أن يؤدي إلى تغيير ، حيث تمركزت القوات الموالية للحكومة في الشرق بينما تمركزت القوات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي في الغرب، واستعرت المعارك بينهما في محافظة أبين التي تعد خط التماس بين مناطق نفوذ الطرفين.

تجدر الإشارة إلى أن المجلس الانتقالي الجنوبي يسيطر بشكل كامل على عدن، العاصمة المؤقتة التي من المفترض أن تكون تحت سيطرة الحكومة، وقد وقع الطرفان اتفاق الرياض الذي هدف لإنهاء الصراع بينهما وتوحيدهما سياسياً وعسكرياً، وتفعيل عمل المؤسسات العامة وتطبيق حكم فعال في جنوب اليمن، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 برعاية سعودية، ولكن الأمور أخذت منحى معاكساً، إذ اُستغل هذا “الاتفاق” للتنافس على السلطة وعمل الطرفان على تقويض بعضها البعض باستمرار. في نهاية المطاف ونتيجة هذا التناحر، حُرم السكان في جنوب اليمن من الخدمات العامة والحماية التي كان بوسع الدولة تأمينها، مثل الاستعداد لمواجهة جائحة كورونا. كان المجلس الانتقالي الجنوبي قد أعلن ما سماه بـ”الإدارة الذاتية” لجنوب اليمن في أبريل/نيسان، وهي خطوة قد تبدو هزلية غير أنها سلطت الضوء على الحقيقة المرة وهي الغياب الفعلي للحكم في الجنوب. أما على صعيد مواجهة فيروس كورونا، فلم تلبِ السلطات طلبات المستشفيات بتأمين الإمدادات اللازمة لرعاية المرضى المصابين بكوفيد-19، بينما أغلقت العديد من مراكز الرعاية الصحية أبوابها أمام المرضى، ورفض الأطباء الذين لم توفر لهم معدات الوقاية الشخصية معالجتهم.

بدا الوضع في عدن مشابهاً لصنعاء وغيرها من المناطق، إذ تظهر إحصائيات الدفن المتزايدة وشهادات اليمنيين على وسائل التواصل الاجتماعي أن الفيروس ينتشر دون رادع. في هذه الأثناء، تعمل منظمة الصحة العالمية على افتراض أن “التفشي الفعلي يحدث” الآن في مختلف أنحاء اليمن، رغم أن من المستحيل تحديد عدد المصابين بكوفيد-19 نتيجة عدم إجراء اختبارات كافية. لقد فاقم سوء التغذية والفقر المنتشران بشكل واسع حدة الوضع، والمؤسف أنهما سوف يزدادان سوءًا في المستقبل القريب بفعل تراجع المساعدات الدولية المخصصة لليمن.

وكما أظهرت ورقة سينشرها مركز صنعاء قريبًا، سيشهد السوق اليمني قريباً انخفاضاً حاداً في كمية العملات الأجنبية المتاحة. تُقدر التحويلات المالية التي تعتبر أكبر مصدر للعملة الأجنبية في البلاد بأكثر من ثلاثة مليارات دولار أمريكي سنويًا وترسل بشكل عام من اليمنيين الذين يعملون في السعودية، حيث تتوقع الأمم المتحدة انخفاض التحويلات المالية بنسبة 70% بسبب القيود المفروضة على العمال والانكماش الاقتصادي السعودي المفاجئ نتيجة القيود المفروضة لاحتواء فيروس كورونا والهبوط الحاد بأسعار النفط العالمية.

في هذا السياق، علت التحذيرات خلال الأشهر القليلة الماضية من انخفاض الدعم الأجنبي الذي يتلقاه اليمن سنوياً ويقدر بمليارات الدولارات، في حين أعلن برنامج الأغذية العالمي في أبريل/نيسان عن تقليص المساعدات الغذائية إلى النصف في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين -خطوة تؤثر على 8.5 مليون شخص تقريبًا- بينما قالت منظمة الصحة العالمية إنها ستوقف معظم الخدمات التي تقدمها في المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية وعمليات الاستجابة لكوفيد-19. وأعلنت الأمم المتحدة في مايو/أيار أنها تتجه صوب “منحدر مالي” في اليمن وأن نقص السيولة قد يؤدي إلى إيقاف أو تقليص عمل ثلاثة أرباع برامجها هناك. هذا يعني أن آلاف اليمنيين الذين يعملون ضمن هذه البرامج سيخسرون مصدر رزقهم إلى جانب التأثير المباشر على ملايين المستفيدين. وفي خضم كل هذه التطورات، يخلق الوباء بيئة أكثر صعوبة أمام إيصال المساعدات لبرامج الإغاثة التي لا تزال تمارس عملها بسبب تخفيض عدد عمال الإغاثة الدوليين، وفرض القيود على حركة الموظفين اليمنيين نتيجة الحجر الصحي وبروتوكولات السلامة التي تفرضها وكالات الإغاثة، واضطراب سلسلة التوريد العالمية.

أي رسم بياني للتأثير الناجم عن انخفاض التحويلات المالية وتقليص المساعدات الخارجية على العملة الأجنبية المتاحة في اليمن سيظهر اتجاهاً هبوطياً، أما الهاوية الجدية فستكون عند نفاد الوديعة السعودية البالغة ملياري دولار والتي قدمتها الرياض إلى البنك المركزي اليمني في عدن قبل عامين، واستخدمها لتمويل واردات السلع الأساسية منذ ذلك الحين. ونظراً للفجوة في الموازنة السعودية وجهود المملكة لخفض الإنفاق الحكومي، فإن التوقعات بقيام الرياض بتقديم مساعدات مالية تضاهي المساعدات السابقة لجارتها الجنوبية قليلة للغاية. وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، كان المبلغ المتبقي من هذه الوديعة أقل من 200 مليون دولار أمريكي، وبالتالي، فإن عدم تعويض ما نقص من احتياطيات النقد الأجنبي يعني أن البنك المركزي في عدن قد يعجز عن تأمين خطابات الاعتماد لتمويل الواردات بعد فصل الصيف.

عندما يحدث ذلك، سيلجأ التجار – وتحديدا مستوردو المواد الغذائية والوقود – إلى السوق لشراء الدولارات لسداد فواتيرهم. لكن انخفاض كمية النقد الأجنبي المتاحة تعني أن قيمة الريال ستنخفض أكثر مقابل الدولار. وستتعرض قيمة الريال اليمني للمزيد من الضغط الهبوطي بعد أن تضخ الحكومة 250 مليار ريال طبعتها مؤخرًا لتغطية نفقاتها التشغيلية. يعتمد اليمن بشكل كبير على الواردات – ما يصل إلى 90% من المواد الغذائية الأساسية مستوردة – وبالتالي سيؤدي انخفاض قيمة العملة المحلية إلى تضخم أسعار معظم السلع. سيحدث هذا في ظل التضخم نتيجة اضطراب سلسلة التوريد العالمية بسبب فيروس كورونا.

تأتي هذه المؤشرات، بينما يعاني سكان اليمن بشدة جراء الحرب المستمرة منذ خمس سنوات، والانهيار الاقتصادي المصاحب لها، إذ يرزح نحو ثلاثة أرباعهم تحت خط الفقر وأي ارتفاع في أسعار السلع سيكون له آثار كبيرة على قدرتهم الشرائية، وبالتالي قدرتهم على البقاء على قيد الحياة. كما سيؤدي انخفاض كمية العملات الأجنبية التي تدخل اليمن إلى تقليل النشاط الاقتصادي بشكل عام وتزايد نسبة البطالة.

كما ستصبح موضع شك متزايد. من الجدير بالذكر أن قرار سلطات الحوثيين في يناير/كانون الثاني من هذا العام بحظر تداول العملة الورقية الجديدة الصادرة عن البنك المركزي في عدن قد أدى إلى ظهور أسعار صرف متباينة بين المناطق الشمالية والجنوبية، وإلى استخدام الريال السعودي والدولار الأمريكي لإتمام المعاملات المحلية. وسيؤدي استمرار انخفاض قيمة الريال إلى تقويض وظيفته كمخزن للقيمة، فأي تاجر أو رجل أعمال سيقبل تلقي دفعات بالعملة المحلية اليمنية وسط توقعات بانخفاض قيمتها غدا!!

في ظل هذه التطورات والمعطيات، من المتوقع أن تشهد البلاد ارتفاعا حاداً في عدد الإصابات بكورونا، وسط تراجع قدرة السكان على الوصول إلى الرعاية الصحية والغذاء وغياب الخدمات كتلك المتعلقة بالمياه والصرف الصحي، وغيرها من الخدمات التي لا يحصل عليها ملايين اليمنيين إلا عبر وكالات الإغاثة الدولية أو بفضل التسهيلات التي تؤمنها. كما سترتفع الأسعار في الوقت الذي ستخسر فيه شريحة كبيرة من السكان مصدر دخلها إما نتيجة البطالة أو فقدان التحويلات النقدية من خارج البلاد. من شأن هذه العوامل مجتمعة أن تفاقم حدة الأزمة الإنسانية لتبلغ مستويات جديدة تثير الرعب.

رغم كل هذا، لا بد من الوضوح هنا أن ما سيؤول الوضع إليه في اليمن ليس محتماً وبمقدور أولئك الذين في مواقع السلطة أخذ خيارات مختلفة وتغيير النتائج. على سبيل المثال هناك اتفاق الرياض الذي على الرغم من العيوب العميقة التي تشوبه فإنه يعتبر إطارا للتعاون قد يسهل -في حال الالتزام به بصدق- اندماج الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي وإنهاء المعارك في الجنوب والسماح بتشكيل جهاز دولة جديد. وقد يدرك الحوثيون والتحالف المناهض لهم في مرحلة ما أنهم يتجهون نحو دمار مؤكد نتيجة فيروس كورونا إذا لم يتوقفوا عن القتال ويشكلوا جبهة موحدة ضده، وهو تعاون من شأنه _إن تم_ أن يضع الأسس لتوحيد عمل البنك المركزي المنقسم حالياً ومؤسسات أخرى تستطيع أن تبدأ في تأمين الخدمات الأساسية لليمنيين.

ومن في الوقت نفسه، يمكن لأصحاب المصلحة الدوليين العمل لمنع المزيد من التدهور في قيمة الريال اليمني والتوصية باتخاذ إجراءات مالية صارمة لمحاربة الفساد والهدر الحكومي وتوفير النقد الأجنبي اللازم لدعم تمويل الاستيراد في اليمن. هذه الخطوات ممكنة، ولا يتطلب تحقيقها سوى اتخاذ قرار هو في الواقع بيد أولئك الذين في مواقع السلطة. أما إذا لم يتخذوا هذه الخطوات وسُمح للأمور بأن تأخذ منحى كارثياً كما هو متوقع، فالسؤال الجلي هو: هل سيكون هناك مستقبل لليمنيين باستثناء الحرب والأوبئة والمجاعة في ظل دولة فاشلة؟


ظهرت هذه الافتتاحية في التقرير الشهري “هل يدفع فيروس كورونا باليمن إلى حافة الهاوية؟” – تقرير اليمن، مايو/أيار 2020.

افتتاحيات مركز صنعاء السابقة:

البرنامج / المشروع: تقرير اليمن
مشاركة