إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

افتتاحية مركز صنعاء الصمت لم يعد خيارًا: الحملة الحوثية لقمع أصوات اليمنيين والمجتمع المدني

Read this in English

في إطار حملة قمع غير مسبوقة على المجتمع المدني في اليمن، اعتُقل عشرات اليمنيين من العاملين في مجال الإغاثة والمنظمات غير الحكومية خلال الأسابيع الأخيرة بتهمة التجسس والتخابر لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، في اعتداء غير عادي كَسَر الأعراف المجتمعية ومساحة المشاركة السياسية المعهودة في الثقافة اليمنية.

لم يسبق أن انحدرت الممارسات القمعية للأنظمة السابقة إلى هذا المستوى، حيث اعتُقل العشرات من موظفي وكالات الإغاثة المحلية والدولية التي كانت تعمل وتنشط بترخيص رسمي منذ سنوات -لم يُستثنَ العاملون في وكالات الأمم المتحدة والبنك الدولي وحتى البعثات الأجنبية، بل وبلغ الأمر حد احتجاز أُسر بأكملها، بما في ذلك أطفال. بثّت الجماعة سلسلة فيديوهات درامية تتضمن “اعترافات” لبعض المتهمين، في إهانة واضحة للعاملين المحتجزين بمعزل عن العالم الخارجي ممن لم تُصدر عريضة اتهام رسمية ضدهم. فَبعد سنوات من خدمة البلاد سعيًا لتطويرها وتنميتها، وُصم عملهم كَخيانة عظمى بين عشية وضحاها.

على مدار سنوات الحرب المندلعة منذ عام 2015، شهد اليمنيون العديد من الانتهاكات، لا سيما المتواجدون داخل المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، إلاّ أن وتيرة وحدّة حملات القمع تصاعدت خلال العام الماضي مع استهداف سلطات الجماعة لكافة شرائح المجتمع ممن وقعوا ضحية للضروريات والأولويات التي وضعتها سلطة الجماعة لضمان بقائها، حيث لم تُستثنَ النساء والقضاة ورجال الأعمال والمؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي والصحفيون والسياسيون. لكن الأوضاع ازدادت سوءا منذ استهداف جماعة الحوثيين للسفن في البحر الأحمر وتدهور العلاقات مع الحكومات الغربية.

تُعدّ الحملة القمعية الأخيرة ذات طبيعة استثنائية، وهذا يستدعي ردود أفعال تتجاوز التصريحات/ البيانات ذات النبرة المعتدلة أو التزام الصمت على أمل التوصل إلى اتفاق للإفراج عن المعتقلين -فهذا لم يعد خيارًا مقبولًا. ورغم أنه يُمكن تفهّم وضع العديد من الأسر التي تحبذ التزام الصمت لأسباب مختلفة، إلا أن ذلك لا ينطبق على المنظمات الدولية، فلا بّدّ أن تتخذ بدورها نهجًا مغايرًا، لأن الصمت أمام هذا النوع من القمع والاستبداد سيكون خطأ لا يغتفر.

مما يُحسب للأمم المتحدة أنها اتخذت موقفًا صريحًا إزاء الاعتقالات حيث بذل مكتب المبعوث الخاص الأممي لدى اليمن جهودًا لإطلاق سراحهم؛ لكن بدون استجابة شاملة ومُنسقة لضمان إطلاق سراح جميع المحتجزين وعدم إلحاق الأذى بهم. ستطول فترة احتجاز البعض منهم -إن لم يكن جميعهم -بل وقد وتصبح حياتهم مهددة في حال التزام الصمت. الأسوأ من هذا كله أن الحوثيين قد يجدون في هذا الصمت حافزا وتشجيعا لاعتقال المزيد من الأشخاص، سعيًا منهم لانتزاع مكاسب سياسية ومالية من خلال التفاوض على شروط معينة مع كل منظمة على حدة، أو مع المجتمع الدولي بشكل عام. وعلى ضوئه، قد تُفرج الجماعة عن دفعة من المحتجزين لتحلّ محلهم دفعة جديدة، وهو ما يستدعي تبنّي موقف مُوحّد من قبل المنظمات التي جرى اعتقال موظفيها باعتباره السبيل الوحيد لتجنب مثل هذا الاحتمال.

يقع على عاتق المنظمات الدولية والبعثات الدبلوماسية مسؤولية إضافية تجاه موظفيهم اليمنيين، ممن أصبحت حياتهم مهددة أكثر من زملائهم الأجانب -سواء داخل اليمن أو خارجه. فَحمْل جواز سفر أجنبي أو جنسية مزدوجة لا يُقلل من خطر استهدافهم، بل العكس، حيث قد ترفع سلطة الجماعة سقف المساومة على إطلاق سراح أولئك المحتجزين سعيًا منها للضغط على خصومها الغربيين. لا يوجد مجال للشك هنا بوجود تقاعس في الدفاع عن هؤلاء العاملين اليمنيين المحتجزين، وربما اختلف الأمر لو كانوا من حاملي جوازات السفر الغربية.

غني عن القول أن هذه الاعتقالات الشنيعة والتعسفية لا تُبشر بالخير بالنسبة لعملية السلام التي لا يزال كثيرون يعقدون الآمال بأن تمضي قدما بمجرد انتهاء حرب غزة. لكن يبقى السؤال: ما طبيعة وشكل الدولة التي ستتمخض عن أي محادثات سلام في وقت نشهد فيه سحق السلطة القائمة في صنعاء لجميع الأعراف الاجتماعية والقانونية بهذه الطريقة؟ فَاحتجاز المواطنين دون توجيه تُهم رسمية ضدهم، وإكراه البعض منهم على الاعتراف قسرًا، هو أشبه بالاختفاء القسري وبعيد كل البُعد عن أي إجراء قضائي نزيه.

من هذا المنطلق، يتعيّن على مُدّعي النضال من أجل نظام سياسي متعدد الأحزاب يَسمح بتمثيل مختلف المكونات والشرائح في البلاد، أن يرفعوا أصواتهم لإدانة حملات القمع الممارسة من قِبل الجماعة. فأسوأ نهاية قد تشهدها البلاد هي أن تصبح شيطنة أعمال وأنشطة المجتمع المدني -والتي اُستهدفت من قِبل جميع أطراف النزاع على مدى العقد الماضي -الوجه الجديد للسياسة اليمنية، ونموذجا لسحق الحيز المدني بطريقة تغذي الميول الاستبدادية التي نشهدها اليوم في مناطق عدة من البلاد.

لا بد من القول بأن القوى الخارجية -ولا سيما المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى -ترتكب خطأ فادحًا في حال ظنّت أن خارطة الطريق لحلّ مُعضلتها في اليمن يُمكن أن تبصر النور من خلال التطبيع مع هذا النوع من القمع. ولربما لم نكن لنشهد هذا الوضع اليوم لو تم اعتناق نهج أكثر شمولًا لإنهاء الأعمال العدائية عوضًا عن الاندفاعة التي شَهِدناها العام الماضي.

في جميع الأحوال، لا جدوى من النظر إلى الوراء؛ فَالأهم الآن هو اتخاذ موقف واضح وصريح إزاء تجاوزات الحوثيين للخطوط الحمراء، ما يُهدد بمحو ما تبقى من ملامح الثقافة المدنية في اليمن. كما تبرز أسباب منطقية تدعو للقلق والخوف على سلامة ومصير المحتجزين، حيث قد يُوسّع الحوثيون ببساطة نطاق حملة القمع الممارسة في صنعاء لتمتد إلى مناطق أخرى؛ وهو ما يستوجب عدم التزام الرأي العام الصمت والإعراض عن إبرام الصفقات خلف الكواليس حيث لم تعد خيارًا مطروحًا.

مشاركة