إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

تعليقات قراءة في الموقف التركي إزاء أزمة البحر الأحمر

Read this in English

هنالك حالة إجماع بأن البداية الفعلية لانخراط تركيا في أفريقيا بدأ خلال فترة حُكم حزب العدالة والتنمية، وتحديدًا عام 2008، حين استضافت تركيا ذلك العام أول قمة للتعاون التركي – الأفريقي. سعي أنقرة إلى البحث عن آفاق جديدة من العلاقات السياسية والاقتصادية جاء في فترة حققت فيها الدولة معدلات نمو اقتصادي ملحوظة، حيث استطاعت تركيا خلال الخمسة عشر عاما الماضية تحقيق اختراقات هامة داخل القارة السمراء الزاخرة بالفرص الاقتصادية.

من الملاحظ أن دول القرن الأفريقي لاقت اهتمامًا خاصًا من تركيا، التي نجحت من خلال مبادرات اقتصادية في تلك الدول بأن تضيف لنفسها بُعدا جيواستراتيجيا، أهم عناصره التواجد العسكري في الصومال، حيث أنشأت تركيا أول قاعدة عسكرية لها “تركسوم” عام 2017. في العام نفسه، ألمح السفير التركي لدى جيبوتي عن استعدادات لاستضافة قاعدة للجنود الأتراك هناك، علماً بأن الدولتين تطلان على البحر الأحمر ومضيق باب المندب – الممر الملاحي والتجاري الحيوي الذي أصبح اليوم محط تركيز دولي بسبب التطورات العسكرية، جراء الهجمات التي تشنها جماعة الحوثيين على سفن الشحن التجارية بحجة مناصرة الشعب الفلسطيني في الحرب الجارية على غزة.

دفعت تلك الهجمات القوى الغربية إلى تشكيل تحالف بحري لحماية الملاحة، بينما شنت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة غارات جوية ضد أهداف للحوثيين في اليمن. رغم ذلك، لم يتوقف استهداف الحوثيين لحركة الملاحة في جنوب البحر الأحمر، ومن هنا تبرز أهمية استيضاح تفاعل أنقرة مع هذه التطورات الجوهرية المتكشفة قرب القرن الأفريقي وأصولها العسكرية هناك، وتقييم التبعات الأمنية والاقتصادية لتلك العمليات.

في الثاني عشر من يناير/ كانون الثاني، أعرب الرئيس التركي في مؤتمر صحفي عن استيائه من الغارات التي شنتها واشنطن ولندن ضد مواقع وأصول للحوثيين في اليمن، واعتبر أن الرد غير المتناسب – حسب وصفه – لواشنطن ولندن ينم عن رغبة غربية في صنع “حمام دم” في البحر الأحمر. والمُلاحظ من هذا الموقف الناقد ـ الذي خرج على لسان رئيس ثاني أكبر دولة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) – أنه ينسجم مع توجهات الرأي العام في تركيا المتعاطف مع الفلسطينيين، والذي يرى في الهجمات الحوثية نوعا من النُصرة الشرعية لأهل غزة ضد الاعتداء الإسرائيلي. لكن هناك حالة من الإجماع في أوساط النخبة السياسية والإعلامية التركية بأن الصراع في البحر الأحمر ومضيق باب المندب يقوّض المصالح والرؤية الاستراتيجية التركية لاستثماراتها في القرن الأفريقي.

أولا، للبحر الأحمر ومضيق باب المندب وحركة الملاحة التجارية فيه أهمية استراتيجية لا يجدر الاستهانة بها بالنسبة للاقتصاد التركي، حيث تعتمد تركيا بشكل كبير على الصادرات التي بلغ حجمها عام 2023، حوالي 255.81 مليار دولار أمريكي. وبالتالي، يشكل البحر الأحمر واحدا من أهم الممرات التجارية بالنسبة لتركيا حيث يسهل تبادلها التجاري مع الصين وأفريقيا، إلى جانب استيراد المواد الخام لقطاعات مهمة مثل صناعة السيارات التركية، والصناعات الكيميائية والتحويلية.

يُحتمل أن تحوّل تركيا أزمة البحر الأحمر لصالحها، فَبخلاف التداعيات التي تواجهها أنقرة نتيجة الاضطرابات في البحر الأحمر، قد تستفيد من زيادة حجم التبادل التجاري بينها وبين دول الاتحاد الأوروبي، سعياً من هذه الدول لتخفيف المخاطر وهروباً من ارتفاع تكاليف النقل عبر البحر الأحمر. كما قد تسعى تركيا لاستغلال الوضع في الضغط على الاتحاد الأوروبي لإعادة تقييم اتفاقية “الاتحاد الجمركي” وهو هدف رئيسي لصناع القرار الأتراك.

ليست الموازنة بين الربح والخسارة الاقتصادية الآنية جراء التطورات في البحر الأحمر ومضيق باب المندب وحدها ما يشغل بال صانعي القرار في أنقرة، فَلتركيا نظرة أشمل إزاء ما يشهده البحر الأحمر من مواجهات، وبأنها في الأساس جزءًا من مخطط دولي كبير يسعى لإعادة رسم خارطة التوازنات وديناميكيات القوى العالمية، والتحكم بممرات التجارة الدولية – يأتي في صميم مبادرات مثل “الحزام والطريق” الصيني أو “ممر التنمية” الغربي ـ هو جزء محوري في هذا التوجّه الاستراتيجي عالمياً.

بناء عليه، تتحسب أنقرة جيداً لهذه المخططات وتدرس فرصها وخياراتها في كلا المبادرتين/المشروعين المشار إليهما، لما لهما من ارتباط وثيق وتداعيات على الرؤية الاستراتيجية لتركيا، وأهميتها الجغرافية وموقعها بين الشرق والغرب. بعبارة أخرى، تتجنب أنقرة الاعتماد الزائد على حلف الناتو “الغربي” ولا ترغب في نفس الوقت بالانجراف نحو النظراء شرقاً كَالصين وروسيا. عوضاً عن ذلك، ترى تركيا أن هذه المعادلة قد توفر لها الفرصة لتنفيذ أجندتها الخاصة؛ فَمن خلال استكشاف فرصها في الساحة الدبلوماسية المعقدة، يبدو أن أنقرة تهدف إلى الانتقال من لاعبة إقليمية إلى دولة مؤثرة في المعادلة الدولية.

ثانيا، تسعى تركيا إلى حماية تواجدها العسكري ومصالحها الجيوسياسية في بلدان القرن الأفريقي. فَفي شهر فبراير/ شباط الفائت، زار وزير الدفاع الصومالي “عبدالقادر محمد نور” أنقرة لتوقيع اتفاقية إطارية للتعاون الدفاعي والاقتصادي مع نظيره التركي “يشارغولر”؛ وتنص الاتفاقية الإطارية بين أنقرة ومقديشو – التي تمتد لعشرة أعوام – على العديد من الأمور المهمة والاستراتيجية، من بينها تقديم الدعم التدريبي والتقني والمعداتي للجيش الصومالي، واتخاذ تدابير أحادية ومشتركة لمكافحة مختلف التهديدات في المناطق البحرية الصومالية، كَالإرهاب والقرصنة والتهريب.

من الملاحظ أن هذه الاتفاقية التي تم إعدادها وتوقيعها على عجالة جاءت بعد أيام قليلة من توقيع اتفاقية بين إثيوبيا وأرض الصومال – الإقليم المُعلِن استقلاله بشكل أحادي الجانب عن الصومال – والتي تمنح إثيوبيا (الدولة الحبيسة) موطئ قدم على خليج عدن بحيز جغرافي مقداره 20 كيلو متر لإنشاء ميناء وقاعدة عسكرية. رفضت الحكومة الصومالية تلك الصفقة واصفة إياها بغير القانونية، إلاّ أن تركيا بدأت في أوائل يوليو/ تموز بالتوسط بين مقديشو وأديس أبابا لحل هذه القضية وهو ما يعكس نفوذها المتزايد في القرن الأفريقي.

يبرز المحدد الثالث لتفاعل أنقرة مع التطورات في البحر الأحمر في سياستها الإعلامية للربط بين ضرورة وقف إطلاق النار في غزة وحلحلة الصراع الدائر في البحر الأحمر. فَطوال الأشهر الثمانية الأخيرة، ركز خطابها السياسي والإعلامي بثبات على الربط بين هاتين المسألتين، ونجد أن الخطاب السياسي التركي دوما ما ينتقد الغرب بشكل لاذع، لكنه لم يقم بإدانة هجمات الحوثيين بشكل صريح.

رُغم القراءة المتعمقة لمعظم المحللين السياسيين الأتراك لسياسة الحوثيين وفهمهم لارتباط الجماعة الوثيق بإيران في محاولة لتغيير ميزان القوى الإقليمي، إلا أن السلطة في تركيا حريصة على تجنب الصدام مع القناعات الشعبية. كما أن الدعم الغربي الكبير لإسرائيل والكمّ الكبير للانتهاكات التي ارتكبت في غزة، وضعت العديد من الدول العربية والإسلامية – وخصوصا الفاعلة إقليميا – في مأزق أخلاقي وأيديولوجي أمام شعوبها وخلقت أزمة شرعية على الأرجح.

خلاصة القول، يأتي تفاعل الموقف التركي مع مجريات الصراع الناشب في البحر الأحمر ضمن قراءة استراتيجية تتداخل فيها العوامل الاقتصادية والسياسية والأمنية والدينية والجوسياسية والجيوستراتيجية، من حيث أن لهذا الصراع أبعادًا دولية وإقليمية عميقة تتعلق بإعادة ترتيب المشهد الدولي والإقليمي على أيدي تكتلات القوى المتنافسة والمتنازعة للهيمنة على الممرات المائية الحيوية في العالم – ومن أهم هذه الممرات البحر الأحمر ومضيق باب المندب.


هذه المقالة جزء من سلسلة إصدارات ينتجها مركز صنعاء بتمويل من الحكومة الهولندية. تستكشف السلسلة قضايا ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وبيئية، بهدف إثراء النقاشات وصنع السياسات التي تعزز السلام المستدام في اليمن. الآراء المعرب عنها في هذا التحليل لا تعكس آراء مركز صنعاء أو الحكومة الهولندية.