في 23 مايو/ أيار الفائت، أعلن زعيم جماعة الحوثيين (حركة أنصار الله) عبدالملك الحوثي بدء تنسيق العمليات العسكرية بين قوات الحوثيين والفصائل المسلحة العراقية الموالية لإيران، حيث تم كشف النقاب علنا عن هذا التنسيق باعتباره “المرحلة الرابعة من التصعيد” في إطار ردّ الحوثيين على الحرب الإسرائيلية الجارية على غزة، والتي تتضمن – بحسب الجماعة – توسيع العمليات العسكرية لتشمل استهداف السفن التجارية في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي، إضافة إلى استمرار العمليات في البحر الأحمر والبحر العربي وخليج عدن. لم يتوقف زعيم الجماعة خلال خطاباته الأسبوعية التي أعقبت هذا الإعلان عن الإشارة إلى تقدم عمليات التنسيق والتعاون مع الفصائل العراقية.
فتح الإعلان باب التكهنات حول طبيعة هذا التنسيق حتى يوم 6 يونيو/ حزيران، حين أعلن المتحدث العسكري باسم الجماعة يحيى سريع تنفيذ عمليتين مشتركتين مع المقاومة الإسلامية في العراق، استهدفتا ثلاث سفن في البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك اثنتان في ميناء حيفا الإسرائيلي. تبنى الحوثيون والجماعات العراقية بعدها تنفيذ ست عمليات مشتركة ضد ميناء حيفا والسفن المزعوم ارتباطها بإسرائيل خلال شهر يونيو/حزيران، لكن لم تؤكد إسرائيل وقوع أي من تلك الهجمات المزعومة ، أو حتى هيئة التجارة البحرية البريطانية (UKMTO) أو القيادة المركزية الأمريكية (سينتكوم)، والتي عادة ما تنشر تحديثات حول السفن المستهدفة في البحر الأحمر وخليج عدن. وبالتالي، يثير هذا الغموض تساؤلات حول مدى فعالية هذه العمليات المشتركة المزعومة من قبل الحوثيين والفصائل العراقية الموالية لإيران.
التنسيق المتبادل بين أعضاء محور المقاومة بقيادة إيران ليس بالأمر الجديد؛ فَبالعادة، كان حزب الله اللبناني وفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني بمثابة القوة المركزية للمحور التي تزود الوكلاء بالتقنيات والأسلحة والخبرات والخبراء، بما في ذلك في اليمن والعراق حيث باتت الدولتان ساحتي تجارب لتطوير قدرات الجماعات شبه العسكرية. لكن الأمر المختلف هذه المرة هو أن حلفاء طهران في العراق واليمن نسقوا بشكل مباشراً فيما بينهم، وسط مؤشرات عن دور محوري للحوثيين في بدء هذا التعاون المشترك. ليس من المفاجئ إقدام طهران على تعزيز أوجه التآزر بين حلفائها، لكن اللافت هو مسارعة الحوثيين إلى إشهار هذا التنسيق الثنائي رغم حداثة عهده نسبيا كجهة فاعلة عسكرية إقليمية، وهو تطوّر ينطوي على جملة من الدلالات الجديرة بالتوقف.
التنسيق على الأرض
بدأت علاقة الحوثيين الجادة مع الفصائل المسلحة في الساحة العراقية، تقريبا عام 2015. حينها قام عبد الملك الحوثي بتعيين ممثل شخصي له في العراق تركزت مهامه على الجانبين السياسي والمالي للعلاقة، إذ لطالما مثلت العراق موردا حيويا لجمع التبرعات للجماعة سواء على المستوى الشعبي، أو عبر الفصائل الحليفة.
منذ عهد قريب، قام عبدالملك الحوثي بتعيين القيادي “أبو إدريس الشرفي” كممثل جديد له في العراق، وكان الشرفي أحد أهم المشرفين النافذين في الجماعة، حيث سبق أن تولى مسؤولية الإشراف على التصنيع العسكري للحوثيين، وكذلك ادارة تحركات الخبراء الإيرانيين عند دخول ومغادرة اليمن في فترة ما قبل سيطرة الجماعة على صنعاء في 2014، ليتولى بعد ذلك قيادة محافظتي الحديدة وحجة أواخر العام ذاته. يتحرك الشرفي حالياً في بغداد ومحافظات عراقية أخرى ويلتقي قادة الفصائل المحلية وزعماء عشائر ويتولى جمع التبرعات.
مثّل تعيين الشرفي – المقرب جدا من عبدالملك الحوثي – أولى المؤشرات على تنامي قيمة العراق الاستراتيجية في تصوّر الحوثيين المتصل بدورهم الإقليمي المتنامي. في العام 2019، أفصحت العلاقة الثنائية بين الحوثيين والميليشيات الشيعية داخل “فصائل الحشد الشعبي” في العراق عن فرص واعدة للتنسيق على الصعيد الأمني، لاسيما بعد عمليات القصف التي استهدفت شركة النفط السعودية العملاقة “أرامكو”، حيث تبنتها جماعة الحوثيين في حين اشتبهت التحقيقات في أن الهجمات كانت قادمة من جنوب العراق أو إيران. لكن التحول النوعي في مجرى العلاقة جاء على إثر الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي ساهمت إلى حد كبير في إعادة تعريف أدوار مكونات محور المقاومة الإيراني.
حسب مصدر في صنعاء مطلع على علاقات الحوثيين الإقليمية، فإن الحرس الثوري الإيراني أشرف في مارس/ آذار الفائت على تشكيل “لجنة عمليات” مشتركة تضم الحوثيين وممثلين عن كتائب حزب الله العراق وكتائب سيد الشهداء- وهما فصيلين مدعومين من إيران داخل الحشد الشعبي العراقي – لتنسيق العمليات الإقليمية في مياه الشرق الأوسط وذلك على خلفية التداعيات الإقليمية الناجمة عن الحرب في غزة.
كان الأمين العام لكتائب حزب الله العراق “أبو حسين الحميداوي” قد ذكر في رسالة إلى زعيم جماعة الحوثيين تداولت مواقع إخبارية مضمونها في 18 يناير/ كانون الثاني الفائت، أن استهداف الحوثيين من قبل القوات الأمريكية – البريطانية سوف يُعد استهدافا للمقاومة العراقية. لم يستطع الحميداوي أن يفي بوعيده منذ أن أوعزت إيران إلى حلفائها بالعراق في فبراير/ شباط بوقف أي استهداف للقوات الأمريكية، بعد أن أوشكت المواجهة أن تخرج عن السيطرة بين الطرفين عقب حادثة مقتل جنود أمريكيين في الأردن في 28 يناير/كانون الثاني. لكن الحميداوي ظهر مجددا في 24 مايو/ أيار في اتصال هاتفي مع عبدالملك الحوثي، شدد فيه على “ضرورة إدامة الجهوزية والتنسيق العالي بين قوى محور المقاومة، وبالأخص بين العراق واليمن، لنصرة الشعب الفلسطيني”.
تُعد كتائب حزب الله العراق أكبر فصائل الحشد الشعبي وأكثرها ارتباطا بالحرس الثوري الايراني، علماً أنها تأسست بين عامي 2005 و 2007، باندماج جماعات خاصة كان يديرها فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، وأدرجتها الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية عالمية مصنفة تصنيفاً خاصاً عام 2009. وكانت كتائب حزب الله هي الأنشط منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في استهداف المصالح الأمريكية في العراق، وبعد وقف الهجمات مؤقتاً في فبراير/ شباط، حولت الجماعة تركيزها في إبريل/ نيسان عبر توجيه ضرباتها بالطائرات المسيرة باتجاه إسرائيل.
مناورة تكتيكية
خلال مايو/ أيار الفائت، شهدت السياسة الخارجية الإيرانية انعطافة ملحوظة عقب مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أميرعبداللهيان في حادث تحطم مروحية. ورُغم إجراء مفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة للتهدئة في اليمن ووقف عمليات الحوثيين مقابل الإسهام في دفع جهود وقف إطلاق النار في غزة، أصبحت السياسة الإيرانية اليوم تراهن على تسخين الصراع الإقليمي وتعطيل أي مبادرة أمريكية في غزة، وقد عبّرت عن هذا التوجّه بضع مؤشرات أساسية تشمل: استعراض القوة في طهران من خلال عقد اجتماع قيادة الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس مع ممثلين من الجهات الفاعلة في محور إيران الإقليمي بما في ذلك حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، وحزب الله، والحوثيين، والحشد الشعبي العراقي؛ تكثيف الهجمات عبر الجماعات العراقية واليمنية خلال مايو/ أيار الماضي؛ إعلان الحوثيين عن علاقة التنسيق المباشر مع الفصائل العراقية في بداية يونيو/حزيران؛ وارتفاع وتيرة التصعيد العسكري على الجبهة اللبنانية- الإسرائيلية.
فضلاً عن ذلك، أدلى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي بعدة تصريحات ملفتة حملت نبرة تصعيدية أشاد فيها بدور محور المقاومة في الردّ على الحرب الجارية على غزة، زاعماً أن الجهود الأمريكية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية قد تبددت وباءت بالفشل، ومحذراً من انعقاد الآمال على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، قائلاً إن “التاريخ يطوي صفحاته لصالح جبهة المقاومة”.
توجّه استراتيجي
تقف طهران غالباً وراء التنسيق العملياتي بين الحوثيين وقوات الحشد الشعبي في العراق لتحقيق هدفين رئيسيين: الأول استراتيجي لإعادة هندسة نفوذها إقليمياً بحيث يصبح أكثر مرونة وفعالية، والثاني تكتيكي حيث ينطوي على إدارة الصراعات الإقليمية وبعث رسائل تصعيدية.
وبعيدا عن مقتضيات الإدارة اليومية للصراع، فإن إيران تتجه نحو إعادة هيكلة محورها الإقليمي، بحيث يصبح هناك مفصلان جيوسياسيان: الأول هو المفصل الرأسي (شمال-جنوب) والذي يمتد من العراق إلى دول الخليج وصولا إلى اليمن، ويكون بقيادة جماعة الحوثيين وغرفة عملياته بصنعاء؛ أما الثاني فهو المفصل الأفقي (شرق- غرب) والذي يمتد من سوريا إلى لبنان إلى فلسطين، ويكون بقيادة حزب الله اللبناني وغرفة عملياته ببيروت. وقد أظهر الحوثيون منذ يناير/كانون الثاني، مرونة كبيرة وقدرة على التكيف في مواجهة الضربات العسكرية للتحالف الغربي، وسَتسعى طهران إلى الاستفادة من ذلك للمساعدة في حماية أصولها الجيوسياسية المكشوفة في العراق.
قد يستفيد محور المقاومة إلى حد كبير من تجربة ونموذج تنظيم القاعدة الدولي في إعادة هيكلة نفسه، حيث حوّل التنظيم فروعه القوية إلى مراكز قيادة إقليمية – فَعلى سبيل المثال كان فرع اليمن مسؤولا عن الخليج والقرن الأفريقي. فهذا النهج يُكسب الجماعات الغير نظامية العابرة للحدود قدرة أكبر على المرونة القيادية والفاعلية العملياتية.
تقوم دوافع طهران للقيام بهذه الخطوة، غالبا على ثلاثة أبعاد: أولا، اقتناع إيران بضرورة استثمار ظروف الحرب الجارية لتطوير قدرات المقاومة الفلسطينية بشكل يضمن قدرتها على الاستمرار في الحرب، بعد استبعاد إيران من أي تحركات أو محادثات رسمية بشأن سيناريو ما بعد الحرب. وفي هذا السياق، ستحرص طهران على تكريس أولويات وموارد حزب الله اللبناني للضغط على إسرائيل لوقف العمليات العسكرية في غزة، لكن دون المجازفة بنشوب حرب مفتوحة.
أما البعد الثاني فَينْبع من تنامي تأثير الحوثيين داخل محور المقاومة الإيراني، وقدرتهم على لعب دور قيادي مكافئ لدور حزب الله اللبناني بعد أن بات جزءا من المعادلة الأمنية الإقليمية وبعد أن أعادت طهران اكتشاف الأهمية الجيوستراتيجية للجبهة اليمنية، وأدركت حجم العوائد الكبيرة التي جنتها من استثمارها الطويل في بناء قدرات الحوثيين التسليحية والتكنلوجية والتنظيمية، وذهبت طهران إلى مضاعفة حجم استثمارها الجيوسياسي في الحوثيين عبر منحهم مهاما قيادية أكبر ضمن محورها الإقليمي.
البعد الثالث والأهم، كان تعزيز عقيدة “الردع النشط” ردّا على التقدم الملموس في مباحثات الشراكة الدفاعية الامريكية – السعودية والذي أبقى مشروع التطبيع السعودي – الإسرائيلي حيّاً على الرغم من كل تداعيات الحرب في غزة.
تُنذر هذه المتغيرات – في حال حدوثها – بخلق توازن جديد للقوى يجعل الرياض في موقع دفاعي أفضل لمواجهة القوة المتنامية لمحور المقاومة الذي تقوده طهران. لذا، فإن القيادة الإيرانية ستمضي أبعد في سياستها لهندسة طوق من الجماعات غير النظامية التي تحيط بالرياض، إضافة إلى تفعيل جماعات مسلحة شيعية في دول الخليج مثل سرايا الأشتر البحرينية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، التي زعمت خلال شهر مايو/ أيار، تنفيذها عملية ضد إسرائيل. كما بدأ الحوثيون بتحويل صنعاء إلى مركز جديد لاحتضان المعارضين الخليجيين، وهو الأمر الذي دعت إليه صراحة قيادات حوثية خلال نهاية مايو/أيار .
في هذا السياق، حرص عبدالملك الحوثي في خطاباته الأسبوعية الأخيرة على إفراد مساحات لتكرار مضمون تصريحات خامنئي محذراً الدول الإقليمية من طلب الحماية لدولهم من الولايات المتحدة أو إسرائيل، وبأن هذا المسلك سيأتي بنتائج عكسية. وفي ظل طوق الجماعات المسلحة الذي تلفه إيران حول عنق الخليج والتنسيق العملياتي بين جبهتي العراق واليمن، من المحتمل أن يوفر الاتفاق السعودي – الأمريكي الذريعة لهذا الثنائي ومن ورائه المحور لتنفيذ هجمات في المستقبل ضد دول المنطقة – حتى بعد توقف حرب غزة – بحجة مواجهة النفوذ الأمريكي عبر دول الخليج التي يصورونها كدمى متحركة لواشنطن، لكن في حقيقة الأمر، فإن غاية إيران من انخراطها في حرب غزة تتركز بعيدا عن غزة نفسها.