“أعتقد أن الناس في مجتمع كمجتمعنا يتجهون نحو الكوميديا الساخرة لأنها إحدى أسهل الوسائل وأكثرها فعالية لاختراق الجدران الصلبة للعادات والأعراف المتجذرة”
— هديل الموفق
هديل الموفق زميلة غير مقيمة في مركز صنعاء، تُركز جهودها على صنع السلام وحقوق الإنسان والأمن البيئي. بعد اندلاع الحرب في اليمن، انضمت الموفق إلى منظمة مواطنة لحقوق الإنسان كباحثة متخصصة بالتحقيق في جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان. انتقلت إلى الولايات المتحدة عام 2016، حيث حصلت على شهادة في العلوم السياسية من جامعة ستانفورد. على مدار سنوات، كرّست هديل حياتها المهنية كناشطة في مجال حقوق الإنسان، وعملت كباحثة مع منظمات مثل هيومن رايتس ووتش، وريسبونسبل سورس نيتوورك (RSN) المعنية بقضايا حقوق الإنسان، والمركز اليمني للسياسات.
لاقى أسلوبها واستخدامها الفريد للكوميديا الساخرة ومشاهدها أو سكيتشاتها الكوميدية الظريفة والذكية التي تتناول (بأسلوب ساخر) سلوك الأطراف المتحاربة في اليمن، رواجاً على وسائل التواصل الاجتماعي بين الجماهير اليمنية والأجنبية على حد سواء. يُوجّه أحدث سكيتشاتها الكوميدية، بعنوان “دليل تجميل الميليشيات: النسخة الحوثية”، نقداً لاذعاً للجماعة، إلا أن أعمالها تتناول جميع أطراف النزاع بلا استثناء، وتلقى صدى لدى العديد من اليمنيين بسبب مصداقيتها والرسائل الهامة التي تبعثها حول عدم وجود مُنتصر في هذه الحرب وأن المواطنين اليمنيين يتحملون في نهاية المطاف وطأة فشل الأطراف المتحاربة.
في هذا العدد من “تقرير اليمن”، تُحاور محررة مركز صنعاء لارا أولنهاوت هديل الموفق حول ما دفعها لاستخدام الكوميديا الساخرة كأداة ووسيلة لنقد الوضع السائد في اليمن:
مركز صنعاء: هل يُمكنك أن تخبرينا عن رحلتك في عالم الكوميديا الساخرة؟ كيف بدأت في إعداد هذه المشاهد أو السكيتشات الكوميدية الساخرة، وما مصدر إلهامك؟
الموفق: قمت بإعداد أول مشهد أو سكيتش كوميدي ساخر بعد وقت قصير من فرض الإغلاق بسبب تفشي فيروس كورونا. كنت قد أكملت للتو الفصل الدراسي الأخير في الكلية وبصراحة شعرت بالملل الشديد ولم يكن لدي أي شيء آخر أفعله – وبرأيي أن الملل هو بوابة جيدة للإبداع. في ذلك الوقت، كنت أجرب قالباً جديداً، وهو مقاطع الفيديو، حيث لطالما استخدمت الكوميديا الساخرة في منشوراتي المكتوبة على وسائل التواصل الاجتماعي عند مناقشة التطورات السياسية. أما بالنسبة لمصدر إلهامي، فإن تفاهة الأحداث السياسية في اليمن هي مصدر إلهام كبير. فَفي كثير من الحالات، لا يحتاج المرء سوى أن يحمل مرآة ليُري المجتمع الكوميديا السوداء التي تمارسها نخبنا السياسية، وأحيانًا المجتمع نفسه، على أرض الواقع.
مركز صنعاء: ما هو أول رسم لك، وكيف تفاعل معه الجمهور؟
الموفق: كان الرسم الأول عبارة عن مقطع إخباري يضم ثلاث قصص، تحكي مدى تدهور الحياة في اليمن بسبب الحرب والإخفاقات السياسية. على سبيل المثال، أظهرت إحدى القصص زوجة تشعر بالقلق على الصحة العقلية لزوجها لأنه يجرؤ على تخيل حياة أفضل لهما ولا يزال متمسكًا بالأمل، على الرغم من أنه يمني ويعيش في اليمن. وصورت قصة أخرى العدد الكبير من البعوض في عدن كجزء من الرد العسكري للتحالف الذي تقوده السعودية والإمارات، وكيف أنه، مثل جميع التدخلات السابقة للتحالف، أدى إلى نتائج عكسية في وجه اليمنيين.
قوبل الرسم بالكثير من الدعم والحماس وشاركه الناس على نطاق واسع على فيسبوك، ومما أدهشني مشاركة الرسم من أولئك القادمين من خلفيات محافظة والذين تغافلوا عن حقيقة أن المرأة اليمنية في الرسم لم تكن ترتدي الحجاب – عادة ما يكون هذا محور النقاش على وسائل التواصل الاجتماعي اليمنية – واهتموا أكثر بمحتوى الرسم. لقد رأيت الاستجابة مشجعة للغاية، ولهذا واصلت العمل.
مركز صنعاء: غادرتِ اليمن في عام 2016. كيف كانت تجربتك الخاصة مع الحرب في اليمن؟
الموفق: شاركت في انتفاضة 2011، وعايشت النهضة اليمنية (قصيرة العُمر) التي أعقبت الثورة والمتمثلة بانتشار الفن والانفتاح في الحيز السياسي والمدني. سرعان ما صُعقت باندلاع حرب لم تكن في حسبان غالبية اليمنيين. في بداية الحرب، لا أظن أنني كنت مُدركة تماماً لحجم الفظائع التي سنشهدها كيمنيين، فَقد حدث كل شيء بسرعة البرق، وحين تكون في خضمّ الحدث، تعيش أحداث الحرب كما لو كنت في غيبوبة، ولا تدرك أبدًا أن هذه حرب معتقداً أنها ستنتهي في ظرف أسبوع. انضممت إلى منظمة مواطنة (لحقوق الإنسان) في أوائل أبريل/ نيسان 2015، كباحثة تُحقق في جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان. كنت قد تخرجت حديثاً من المرحلة الثانوية، وفجأة، أصبحت أحاور الأمهات والآباء وأفراد الأسرة الآخرين ممن فقدوا أحبائهم في الحرب أو ألتقط صوراً لجثث الأطفال – لا أعتقد أنني ألقيت الضوء على تجربتي الكاملة مع الحرب حتى بعد مغادرتي اليمن.
مركز صنعاء: عند إعداد مشاهدك أو سكيتشاتك الكوميدية، هل تفكرين أكثر في كيفية إيصالها للجمهور اليمني، أم الجمهور الأجنبي، أم كليهما؟ وما الذي تودين تحقيقه من خلالها؟
الموفق: يدور هذا السؤال في ذهني على الدوام حين أخطط لمشاهدي أو سكيتشاتي. عند تناول بعض القضايا، يكون الجمهور المستهدف واضحًا بالنسبة لي. فَعلى سبيل المثال، إذا كنت أنتقد أو أقوم بالتعليق على قضية اجتماعية أو ثقافية ليس لها بُعد سياسي، فأنا أستهدف الجمهور اليمني. يختلف الأمر عند طرح مسألة مرتبطة بالسياسات العامة حيث أتخبط في تحديد الجمهور الذي يجب استهدافه.
أثّر عملي كباحثة في السياسات العامة على العديد من مشاهدي حيث سعيت إلى إيصال رسائل مبنية على نتائج عملي من خلال قالب يسهل تقبله، مثل السكيتشات الكوميدية. فالمواطن اليمني العادي لن يقرأ تقريرًا أو موجزاً سياساتيًا، وبصراحة، أشك في أن معظم صناع السياسات يفعلون ذلك. لذا، لجأت إلى استخدام وسائل أخرى لنشر الرسائل السياسية، واكتشفت لاحقًا أن الأصدقاء شاركوا مقاطع الفيديو الخاصة بي داخل أوساطهم المهنية، بما في ذلك سفراء وغيرهم من الجهات الفاعلة رفيعة المستوى العاملة في اليمن.
والهدف منها هو تقديم مرآة عاكسة يستطيع من خلالها صناع القرار – بما في ذلك الجهات الفاعلة المحلية والدولية – رؤية فشلهم في تحسين حياة اليمنيين، مثلاً بالسخرية من الطريقة التي تعامل بها المجتمع الدولي مع عملية السلام. حين يتعلق الأمر بالجمهور اليمني، أتطلع دوماً إلى فتح باب النقاش حول قضية معينة، أو إلى تقديم منظور جديد، أو المساهمة في تأجيج الرأي العام ضد النخب السياسية.
مركز صنعاء: قال الروائي والكاتب المسرحي اليمني وجدي الأهدل في إحدى المقابلات إنه “في الوقت الحالي، سيكون من المستحيل تقديم عرض مسرحي يسخر من الحرب الحالية والمتحاربين فيها. لكن هذا هو بالضبط نوع المسرح الذي يحتاجه اليمن”. برأيك، ما هو الدور الذي تلعبه الكوميديا الساخرة في اليمن؟ وكيف ترين مستقبل تقديم محتوى ذو مضامين سياسية ساخرة في ظل المناخ السياسي الحالي الذي يعيشه اليمن وقمع الناشطين؟
الموفق: لدى اليمنيين ميل طبيعي للفكاهة ويستمتعون بها حتى في حياتهم اليومية. إذا تابعتِ البرامج التلفزيونية اليمنية، ستلاحظين أن معظم المسلسلات ذات طابع كوميدي. أعتقد أن الناس في مجتمع كمجتمعنا يتجهون نحو الكوميديا الساخرة لأنها إحدى أسهل الوسائل وأكثرها فعالية لاختراق الجدران الصلبة للعادات والأعراف المتجذرة، وكلما كان المجتمع أو البنية السياسية أو الأيديولوجية أكثر تشدداً ومحافظة، زادت الحاجة إلى أدوات قوية مثل الكوميديا الساخرة لفتح مساحات للحوار، خاصة حين تصبح المساحات التقليدية لمثل هذه الحوارات محدودة أو مُقيدة.
من خلال متابعتي وملاحظاتي الشخصية، أعتقد أن الأشخاص الذين يعيشون في اليمن ما يزالون يستخدمون الأسلوب الساخر لمناقشة الأمور السياسية والحياة في اليمن، أكثر من الكتابات الجادة، والتي يمكن أن تُعرض أصحابها للمشاكل. وبشكل عام، فكرة استخدام المسرح كوسيلة فنية تكاد أن تكون ضرب من الخيال في العديد من المناطق في اليمن، في ظل المناخ السياسي الراهن. مع ذلك، أودّ رؤية مثل هذه العروض المسرحية خارج اليمن، أي في الأماكن التي تحتضن جاليات يمنية كبيرة. فقد يكون لذلك أثر مضاعف بحيث يصل المحتوى من خلال هذه المجتمعات الصغيرة إلى سكان اليمن، إما بتناقله شفهياً أو عبر البث المباشر الذي من شأنه أن ينقل المسرح إلى منازل المواطنين اليمنيين داخل اليمن. يحتاج المرء إلى أن يكون مبدعًا في التعامل مع مثل هذه التحديات الصعبة، وكل تمويل يذهب لمثل هذه المشاريع يستحق العناء.
مركز صنعاء: هل واجهتِ شخصيًا أي تحديات أو تعرضتِ لانتقادات أو ردود فعل سلبية بسبب أعمالك؟
الموفق: أعتقد أن المرة الوحيدة التي تعرضت فيها لانتقادات أو ردود فعل سلبية، وإن كانت على نطاق محدود للغاية، هي عندما نشرت مقطع فيديو ميزت فيه بين الهاشميين (وهم الأشخاص الذين ينحدرون من أُسر تدعي النسب إلى النبي محمد ولا يؤمنون بالضرورة بالأيديولوجية الحوثية) والحوثيين (وهم ميليشيا تتبنى عقيدة التفوق للمنحدرين من نسب النبي محمد والاصطفاء الإلهي والأحقية في الحُكم).
أعددت هذا المقطع كَردّ على تنامي خطاب الكراهية واستهداف يمنيين يحملون ألقاباً تعكس نسبهم الهاشمي، بغض النظر عن رأيهم في الحوثيين. جاءت ردود الأفعال السلبية من مجموعة صغيرة من الأشخاص المنتمين لحركة الأقيال، وهي حركة قومية يمنية ظهرت كمُعارضة لأيديولوجية الحوثيين؛ إلاّ أن بعض المثقفين اليمنيين شاركوا أيضًا في انتقادي، وأساءوا فهم مقطع الفيديو على أنه متعاطف مع مشروع الحوثيين.
بصرف النظر عما تقدم، كنت محظوظة بما يكفي لعدم مهاجمتي بصورة أكبر. فَبين الحين والآخر، يعلق شخص ما على مظهري ولماذا لا أرتدي الحجاب، ونادرًا ما تصلني تعليقات غير لائقة. عثرت ذات مرة على أحد مقاطع الفيديو الخاصة بي والتي تم تحميلها على اليوتيوب بواسطة شخص آخر – وحصل الفيديو على أكثر من 2500 تعليق، غالبيتها مجرد هجوم على أخلاقياتي ومظهري، ولم يكن هناك الكثير من التعليقات التي تناقش المحتوى نفسه. كانت لحظة شعرت فيها بالامتنان للانتشار المحدود نسبيًا لمقاطع الفيديو الخاصة بي على مواقع التواصل الاجتماعي.
مركز صنعاء: هل تدعم عائلتك وأصدقاؤك أعمالك؟
الموفق: عائلتي تدعم “في الغالب” مقاطع الفيديو الخاصة بي، لا سيما أمي. بالطبع أسمع أحيانًا عبارات مثل: “لم تتخرجي من جامعة مرموقة لتسجلي وتنشري مقاطع فيديو على اليوتيوب”، وهذا لا يعني أنها لا تستمتع بمقاطع الفيديو الخاصة بي، لكنها لا ترى إمكانيات هذه الوسائط الجديدة في إحداث التغيير، حالها حال الكثيرين من أبناء جيلها. هناك أيضًا قلق بشأن سلامتي – غالباً لدى والدتي – خاصة أنني أسخر من مختلف الجهات السياسية الفاعلة داخل اليمن وخارجه. بخلاف ذلك، كانت عائلتي داعمة ومشجعة للغاية.
كما أني محظوظة بصداقتي القوية مع اثنين من صُناع الأفلام/ المحررين وهما حمزة شيبان وحنان الصرمي، اللذان دَعماني دائمًا، وأجد نفسي معتمدة عليهم بصورة متزايدة للحصول على مساعدة فنية في إنتاج فيديوهاتي، خاصة مقطعي الفيديو الأخيرين اللذين قمت بإنتاجهما. أرى أن هذه العلاقة المهنية تتطور مع مرور الوقت، وآمل أن يكون هناك المزيد من التعاون في المستقبل.
مركز صنعاء: بعد وقت قصير من انتقالك إلى كاليفورنيا في عام 2016، كنتِ أحد المُدّعين الرئيسيين في الدعوى التي رفعها الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية للطعن في حظر السفر الذي فرضه الرئيس ترامب (قضية الموفق ضد ترامب). هل أثّرت هذه التجربة على أعمالك بأي شكل من الأشكال؟
الموفق: أود أن أقول إن تجربتي وقراري بأن أكون طرف مُدعي رئيسي في هذه القضية نابع من مشاركتي سابقاً في ثورة الشباب اليمنية، لكن لم يكن لها بالضرورة أي تأثير على مسار عملي بعد التخرج. فأنا أرى سكيتشاتي الكوميدية الساخرة بمثابة امتداد لنشاطي في اليمن، وهو أمر ينبع من الاهتمام العميق والقلق على حاضر بلدي ومستقبله.
مركز صنعاء: أسّست لنفسك مكانة متميزة في هذا المجال، هل ترين أن الشباب اليمنيين الآخرين يمكنهم القيام بذلك أيضاً؟ وما هي نصيحتك لهم؟
الموفق: تقديم محتوى ذي مضامين سياسية ساخرة هو ممارسة قديمة قدم الحضارة الأغريقية؛ ولذا أرى شباب يمنيين يعتمدون هذا النوع من الفن، وربما بطرق أكثر إبداعاً. نصيحتي للرفاق داخل اليمن هي استخدام الإبداع كقناع لإيصال الرسائل السياسية، وعدم مهاجمة سلطات الأمر الواقع في مناطقهم بشكل مباشر، بل تطوير أساليب مبتكرة لتناول الأحداث السياسية والجهات الفاعلة ضمنيًا. بخلاف ذلك، سيتعين عليهم اتخاذ قرار مدروس وواعٍ للانخراط في هذا النوع من الأنشطة، وإدراك طبيعة المخاطر التي سيعرضون أنفسهم لها.
لدي أيضًا نصيحة مهمة، قد أستفيد منها على المستوى الشخصي، وهي أهمية الاستمرار والمثابرة من أجل نجاح أي عمل. إنتاج أي عمل بشكل منتظم يساعدك على بناء اسمك وعلامتك التجارية، وجمهور عريض في نهاية المطاف.
مركز صنعاء: هل تخططين لسكيتش قادم؟، وهل يمكنك إخبارنا قليلاً عنه؟
الموفق: أعمل حاليًا على سكيتش جديد يتناول سيل ردود أفعال الحوثيين الغاضبة على مساعي الولايات المتحدة لوقف مصادر إيراداتهم. ما زلت أخطط للنقاط التي سأتطرق لها والجمهور المستهدف، ولكن آمل أن أنشرها قريبًا.