انتشرت وثائق مسربة على نطاق واسع حول مخاطر استخدام المبيدات الزراعية، وأثارت جدلاً مع توجيه أصابع الاتهام إلى قيادات حوثية متورطة في الاتجار بمبيدات كيميائية محظورة. دفع ذلك مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى بصنعاء لتناول القضية الشائكة في 19 مايو/ أيار، خلال لقائه مع قيادات وزارة الزراعة والري ومسؤولين آخرين في سلطة الجماعة في صنعاء، حيث أكد أن المخاوف التي أثيرت بشأن استخدام مبيدات المحظورة وآثارها الضارة المحتملة على الصحة العامة والبيئة لا أساس لها من الصحة، ووصف الحملة بأنها جزء من مؤامرة دولية.
وأشار المشاط إلى أن مبيد “بروميد الميثيل” كان يُستخدم في جميع أنحاء العالم قبل أن يتم التخلص منه تدريجيا بموجب ما أسماه ‘بروتوكول في أوروبا[1] والذي اعتبر أن المادة تؤثر على طبقة الأوزون، زاعماً أنه لا توجد إشكالية لاستخدامه في اليمن “لأنه لا توجد مشكلة في طبقة الأوزون” ولا تعاني البلاد من الاحتباس الحراري. وأضاف المشاط أن الضجة المثارة حول الوثائق المسربة والقلق من الآثار المسرطنة للمبيدات الكيميائية المحظورة ” يأتي في سياق تشويه وضرب المبيدات لمنع مكافحة الأوبئة والآفات التي يراد نشرها في المنتجات الزراعية في الجمهورية اليمنية”، مشيراً إلى أن الحملة التي تثار حول موضوع المبيدات “تتناغم مع توجه الخلايا التجسسية داخل اليمن لتدمير العملية الزراعية ولن نسمح بهذا”.
اختيار المشاط لهذه الكلمات يعني ضمنا أن الحوثيين لن يتوانوا عن إسكات الأصوات التي تدعو إلى فرض الرقابة ومراجعة السياسات وإجراء البحوث حول هكذا مسائل.[2]
ردّا على حديث المشاط، قال معمر الإرياني، وزير الإعلام والثقافة والسياحة في الحكومة المعترف بها دوليا أن دفاع المشاط “عن الاتجار بالمبيدات الزراعية منتهية الصلاحية والمحظورة دوليا، والتي تعرض حياة ملايين اليمنيين للخطر، تؤكد التورط المباشر لقيادات ميليشيا الحوثي […] بغرض الإثراء وتنمية الموارد لتمويل ما يسمى “المجهود الحربي”. وأضاف الارياني أن الخطاب جاء في إطار محاولات الحوثيين إرهاب النشطاء ومنعهم من تناول القضية. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن بعض شحنات المبيدات المثيرة للجدل كانت مستوردة إلى /أو مرت عبر المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دوليا.
مع ضعف الرقابة في أعقاب اندلاع الحرب، تم استيراد مبيدات زراعية وأسمدة خطرة ومضرة بالصحة، بما في ذلك تلك المحظور استخدامها في اليمن وبلدان أخرى بسبب آثارها المسرطنة، وسميتها العالية وتأثيرها على البيئة. وكانت سلطات الحوثيين قد استحدثت كيان جديد تحت مسمى الإدارة العامة للمبيدات والتي تتبع رسميا لوزارة الزراعة، إلا أن هذه الادارة مستقلة مالياً وإدارياً، وهو ما أثار هذا تساؤلات حول دورها في تنظيم استيراد واستخدام مبيدات خطرة وعلاقاتها مع الجهات/ الأطراف المُتربّحة من ذلك.
خلال الشهرين الماضيين، أطلق نشطاء حملة على وسائل التواصل الاجتماعي بعد تسريب وثائق توضح حجم المبيدات الكيميائية الخطرة المستوردة خلال السنوات القليلة الماضية. وعلى ضوئه، اعتقل الناشط خالد العراسي في منزله بصنعاء بتاريخ 27 أبريل/ نيسان، غالباً بسبب تسريبه لوثائق كشفت تورط تجار بارزين وقيادات حوثية في استيراد مبيدات زراعية محظورة. في 26 أبريل/ نيسان، قال العراسي في منشور له على الفيسبوك حمل عنوان: “توقفوا عن قتلنا…المبيدات إبادة جماعية”، إن “الذين يخدمون العدوان فعلاً هم الذين أغرقونا بالمبيدات من تجار ومهربين ومسؤولين بوزارة الزراعة” وانتقد صمت المسؤولين الحوثيين بشأن هذه القضية. وقال إن الحل يبدأ بالاعتراف بالمشكلة ووقف استيراد واستخدام هذه المبيدات ومحاكمة ومعاقبة الجناة.
اقترح العراسي خطوات عدة يمكن أن تتخذها سلطات في صنعاء، لكنه أضاف في المقابل ” أجزم بأن هذه الإجراءات لن تتم وذلك لسبب بسيط وهو أنه لا يمكن لسلطة الوضع المزري أن تعاقب وتحاكم نفسها “. هذا ونفت السلطات في صنعاء اعتقالها للعراسي ردّاً على أفراد أسرته الذين طالبوا بالكشف عن مكان احتجازه.
سلطت وثائق أخرى مسربة ومعلومات تم الكشف عنها منذ نهاية عام 2023، الضوء على مخالفات وأنشطة غير قانونية. وفقا لوثيقة يُزعم أنها موجهة من وزير الزراعة في سلطة الحوثيين عبد الملك الثور إلى وكيله، تم استيراد أكثر من 14 مليون لتر من المبيدات خلال عام 2023 وحده، وهي كمية أكبر بكثير من المعتاد استيرادها. وبحسب ما تداوله موقع إخباري، طلب الوزير من وكيل الوزارة لقطاع الخدمات الزراعية التوقف عن منح أو إصدار تصاريح إصدار للمبيدات والعمل على إعادة تصدير المبيدات الممنوعة إلى بلد المنشأ.
ذكرت وثيقة أخرى مسربة مؤرخة في 20 سبتمبر/ أيلول 2021، يزعم أنها موجهة من مدير عام وقاية النباتات في صنعاء إلى وزير الزراعة في سلطة الحوثيين، تفاصيل عن ضبط شحنات من المبيدات المحظورة (بما في ذلك مبيد بروميد الميثيل) في 2018 تابعة لمجموعة “دغسان”، على يد النيابة العامة وجهاز الأمن والمخابرات عند منفذ الراهدة في محافظة تعز. وأوضحت المذكرة أنه لا يمكن التصرف في المواد الكيميائية المضبوطة بموجب القانون، واستغرب مدير الوقاية من توجيهات الثور بالإفراج عن الشحنة لمزارعين في منطقة بني معاذ بمحافظة صعدة، على الرغم من اتفاق مسبق معه (الوزير) للحد من توزيع المبيدات الكيميائية الخطرة والضارة.
وتوضح وثيقة أخرى مسربة مؤرخة في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 تفاصيل الإفراج عن شحنة تابعة لشركة سبأ العالمية المملوكة لرجل الأعمال عبد العظيم دغسان (أحد المساهمين في مجموعة دغسان) تحتوي أيضا على مبيد “بروميد الميثيل”. ووفقا للوثيقة، تم الإفراج عن الشحنة بعد تدخل قائد قوات النجدة التابعة للحوثيين أبو بدر المراني، على الرغم من المحاولات المتكررة من مسؤولي الجمارك لمصادرتها لعدم صدور موافقة عليها من الجهة المختصة (وزارة الزراعة).
برزت مجموعة دغسان كلاعب رئيسي في استيراد وتوزيع المبيدات المحظورة، فضلا عن ممارسة أنشطة غير مشروعة مثل الاتجار في الأسلحة وتهريب النفط وغسيل الأموال. لدى المجموعة تاريخ من الانتهاكات البيئية، ففي عام 2014، أصدرت محكمة الأموال العامة قرارا بإغلاق مؤسسة دغسان للمبيدات الزراعية بعد أن تبين دفنها مئات الأطنان من النفايات السامة في حي الجراف شرق مدينة صنعاء. وفي عام 2018، تبيّن تورّط مجموعة دغسان في نقل النفايات السامة من حي الجراف إلى مديرية حرف سفيان بمحافظة عمران إلا أن الأهالي منعوا دفنها هناك، مما اضطر سائقي الشاحنة للتوجه نحو محافظة صعدة قبل أن يتم ضبطهم وإحالة القضية إلى المحكمة.
في نهاية المطاف، نُقلت الكمية المضبوطة إلى حرف سفيان بهدف دفنها بناء على توجيهات قضائية، رغم أن القانون رقم 25 لسنة 1999 يُلزم المستوردين بإعادة البضائع المُصادرة إلى بلد المنشأ على نفقتهم الخاصة. فضلا عن ذلك، كشف تقرير برلماني مصادرة شحنة تابعة لمجموعة دغسان تحمل 251 طنا من المبيدات المحظورة، وخلال محاكمته في صنعاء في عام 2024، أقرّ دغسان باستيراد أصناف المبيدات المحظورة عن طريق التهريب.
هذا ويُزعم أن وفاة الصحفي اليمني البارز محمد العبسي في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2016 في ظروف غامضة كان مرتبطا بقضية مجموعة دغسان وغيرها من الأطراف المؤثرة في صنعاء. ففي 6 فبراير/ شباط 2017، أعلنت نقابة الصحفيين اليمنيين أن العبسي مات مسموماً بعد تصفيته بسبب تحقيقاته في قضايا فساد تنطوي على أنشطة لتهريب النفط نيابة عن مسؤولين حوثيين كبار.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، أغلقت النيابة العامة في غرب صنعاء ملف القضية لعدم كفاية الأدلة، علماً أن تقرير فريق الخبراء الأمميين الصادر في 2019 أكّد ما تداولته وسائل إعلام يمنية بأن العبسي ذكر ثلاث شركات يُزعم تورطها في أنشطة تهريب النفط وبيعها في السوق السوداء وهي: شركة أويل برايمر المملوكة لمجموعة دغسان، وشركة يمن لايف المملوكة للمتحدث باسم جماعة الحوثيين محمد عبد السلام، وشركة بلاك جولد المملوكة للتاجر علي ناصر قرشة، وهو قيادي حوثي مقرب من زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي.
حاولت مجموعة دغسان إبقاء اسمها بعيدا عن الأضواء في السنوات الأخيرة، لتجنب المزيد من التدقيق في أنشطتها، إلا أنها بدأت مؤخرا في بناء مصنع للأسمدة والمبيدات على مناطق زراعية بين مديريتي همدان وبني مطر في محافظة صنعاء تحت اسم شركة جديدة “رواد الوطن لصناعة مستلزمات الإنتاج الزراعي”، تضم مستثمرين آخرين أيضاً. أنشئت الشركة في ديسمبر/ كانون الأول 2021 كشركة مساهمة برأس مال إجمالي 40 مليون دولار أمريكي وتركز على عدة قطاعات وتضم مستوردي وتجار المستلزمات الزراعية في اليمن إلى جانب 30 جمعية زراعية والمؤسسة العامة لتنمية وإنتاج الحبوب.
في 25 أبريل/ نيسان، نظم رجال قبائل من مديريات بني مطر وهمدان والحيمة بصنعاء وقفات احتجاجية لمنع بناء المصنع الذي تبلغ تكلفته 5 ملايين دولار أمريكي، والذي وضع حجر أساسه القيادي في الجماعة محمد علي الحوثي قبلها بأسبوعين. وأعرب المحتجون عن مخاوفهم من التهديد المحتمل للمصنع ومخلفاته، كونه سيقع بالقرب من منطقة مأهولة بالسكان يقطنها 20000 نسمة، وقد يهدد أيضاً الأراضي الزراعية والآبار والغيول في المنطقة. كما أن الخطر لا يقتصر فقط على صحة السكان والبيئة – حيث تُستخدم بعض من هذه المواد أيضا في تصنيع المتفجرات.
تجدر الإشارة إلى أن النزاعات القضائية قوّضت القدرة على تطبيق اللوائح ذات الصلة: فمثلاً حين تقوم بعض السلطات المختصة بمنع شحنات من المبيدات كونها لا تستوفي المواصفات والمعايير، تقوم جهة مختصة أخرى بالإفراج عنها فقط لامتلاكها الصلاحيات لذلك. في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2023، قدمت الهيئة العامة لحماية البيئة شكوى ضد وكيل وزارة الزراعة والري لقطاع الخدمات، ضيف الله شملان، والإدارة العامة لوقاية النباتات، تزعم انتهاكهم للقوانين واللوائح وتدخلهم في صلاحيات الهيئة عبر توجيهها بعدم الإفراج عن شحنات المبيدات.
جاء ذلك ردا على حادثة وقعت في أكتوبر/ تشرين الأول، حين تم ضبط شحنة تابعة للتاجر نايف المهرس في باحة مبنى الإدارة العامة لوقاية النباتات بمحافظة صنعاء، بعد أن قامت الهيئة العامة لحماية البيئة بالإفراج عنها من جمارك ميناء الحديدة. وطلبت الهيئة من النيابة العامة إنفاذ الأحكام القضائية الصادرة عن محكمة صنعاء، والتي منحتها (أي الهيئة) الصلاحية المطلقة للتصرّف بشحنات المبيدات داعية إلى الإفراج عن الشحنات المضبوطة. توضح هذه الأحداث مدى التشرذم المؤسسي والبيروقراطية والتنافس على الصلاحيات بين الجهات المختصة، والتي تشكل جميعها عقبات إضافية أمام تنظيم عملية استيراد المبيدات وحماية الصحة العامة.
- كان يشير على الأرجح إلى معاهدة الامم المتحدة المعروفة بـ “بروتوكول مونتريال ” بشأن المواد المستنفدة لطبقة الأوزون، والتي تضم 198 دولة ، بما في ذلك اليمن.
- توقف أحد الباحثين اليمنيين عن التحقيق في الموضوع وأبلغ مركز صنعاء أن الأمر كان ينطوي على مخاطرة كبيرة جدا بعد تصريحات المشاط حول “الخلايا التجسسية”.