إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

تعليقات مسافرو سقطرى المنسيِّون: عشوائية الطيران وكوارث السفن

Read this in English

ألقت الحرب في اليمن بظلالها على سقطرى، المحافظة الأرخبيلية الواقعة في المحيط الهندي، وعلى الحياة اليومية لقاطنيها. فَقبل اندلاع الحرب عام 2014، كانت تنطلق ثلاث رحلات جوية أسبوعيا من وإلى جزر الأرخبيل: الرحلة الأولى كانت تسيرها الخطوط الجوية اليمنية؛ والثانية كانت على متن فيليكس إيرويز (إحدى شركات الطيران المحلية الصغيرة)؛ بينما كانت تتولى وزارة الدفاع اليمنية تسيير الرحلة الثالثة والتي كانت مخصصة لنقل الجنود وأسرهم ومحدودي الدخل.

بعد اندلاع الحرب، أوقفت الوزارة وفيليكس إيرويز رحلاتهما، في حين استمرت رحلات الخطوط الجوية اليمنية ولكن بشكل متقطع وغير منتظم، حيث تستمر هذه الانقطاعات في بعض الأحيان لأشهر. أخذت أسعار تذاكر الطيران في الارتفاع بشكل مطرد، حيث وصل سعر التذكرة من سقطرى إلى المكلا في حضرموت (ذهابًا فقط) إلى 150 دولار أمريكي، أي ما يزيد عن ثلاثة أضعاف سعرها قبل الحرب.

على ضوء ذلك، لجأ السكان إلى استخدام قوارب الصيد للتنقل ذهابًا وإيابًا بين الجزر التي تبعد نحو 210 أميال عن البر اليمني، بحيث تستغرق الرحلة – على أفضل تقدير وفي الظروف المواتية- من يومين إلى ثلاثة أيام للوصول إلى سقطرى من محافظتي المهرة أو حضرموت.

من ناحية أخرى، كانت هذه الرحلات غير آمنة إلى حد كبير، حيث كانت الأعطال والأحوال الجوية المضطربة تتسبب في تأخير الرحلات ووقوع كوارث في بعض الأحيان، وتعرضت بعض السفن للغرق وعلى متنها أطفال ونساء وشيوخ، وفُقد آخرون في البحر لعدة أيام أو حتى لأسابيع متتالية. مررتُ شخصياً بهذه التجربة في عام 2019، حين تعطلت السفينة التي كُنت على متنها على بُعد 100 ميل من ساحل محافظة المهرة ومعي 50 رجلًا و9 نساء و4 أطفال. ظلت السفينة عالقة في البحر لمدة سبعة أيام إلى أن نجح التحالف العسكري بقيادة السعودية في تنظيم عملية إنقاذ بالتنسيق مع القوات البحرية اليمنية.

على الرغم من تلك المخاطر، ثمة عوامل عديدة تدفع السكان إلى اللجوء إلى هذه الوسيلة للتنقل، لاسيما ارتفاع تكلفة الرحلات الجوية. قبل عام 2011، كان سعر التذكرة أقل من 50 دولار أمريكي (ذهاباً فقط)، إلاّ أن الأسعار ارتفعت بشكل مطرد بعد 2015 إلى أن وصل سعرة التذكرة حاليًا 150 دولار أمريكي. علاوة على ذلك، كان للانهيار الاقتصادي الذي استفحل في السنوات الأخيرة (مع انقطاع رواتب الموظفين العموميين لفترات طويلة، وتهاوي قيمة العملة المحلية، وتوقف الصادرات النفطية بسبب الحصار المُحكم الذي فرضه الحوثيون على الموانئ التي تسيطر عليها الحكومة) تأثير عميق على سقطرى كما هو الحال في غيرها من المناطق التي تخضع لسيطرة الحكومة، حيث زادت هذه العوامل الاقتصادية ، إضافة إلى ارتفاع تذاكر الرحلات الجوية ، من المصاعب المالية بحيث لم تعد تكلفة السفر في متناول العديد من السكان.

إضافة إلى ارتفاع كلفتها، أضحت الرحلات الجوية قليلة وغير منتظمة. فَبعد عام 2015، توقفت الخطوط الجوية اليمنية عن تسيير رحلاتها لمدة عام تقريبًا بسبب اندلاع الحرب، قبل أن تستأنف تقديم الخدمة تدريجيًا وفق جدول زمني مُخفف. كانت هناك رحلة واحدة أسبوعيًا بين سقطرى ومدينة سيئون في وادي حضرموت، مع وجود انقطاعات متكررة قد تصل أحيانًا إلى شهر أو شهرين. ولم يتحسن الوضع إلا بعد انقضاء أسوأ مراحل جائحة كورونا أو كوفيد-19، حيث بدأت الرحلات الجوية تعود إلى العمل وفق جدول زمني محدد، بمعدل رحلة ذهاب وعودة أسبوعية من عدن عبر المكلا.

بداية العام 2024، قامت الخطوط الجوية اليمنية بزيادة عدد الرحلات إلى رحلتين أسبوعيًا من وإلى عدن -عبر المكلا- والغيضة بمحافظة المهرة. فضلا عن ذلك، هناك رحلتان أسبوعيا بين سقطرى وأبو ظبي منذ 2017، تُسيرهما شركة إماراتية (العربية للطيران). ومنذ نشر المملكة العربية السعودية قوات عسكرية في الجزيرة خلال عام 2018، تقوم طائراتها العسكرية بنقل الركاب المحليين من سقطرى إلى الغيضة من حين لآخر.

استمرار المشاكل

بخلاف خدمات الطيران المذكورة التي تتولى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية تسييرها، لم تفعل الحكومة اليمنية شيئًا يُذكر لتخفيف عزلة سكان الجزيرة. فطوال فترة الصراع، كان السياسيون منشغلون بالنزاعات والمشاحنات الشخصية بينما يقبع المواطنون في معاناتهم المتصاعدة. فقد كانت المكانة المميزة التي يتمتع بها هؤلاء السياسيون تتيح لهم سهولة الركوب على متن رحلات جوية باهظة الثمن، وتُعمي بصائرهم عن مشاكل عامة الشعب.

من جانبهم، يرى أهل سقطرى أن الحرب هي التي أجبرت معظم الناس على اللجوء إلى السفر عبر البحر برغم من كل ما يحفه من مخاطر جسيمة. ومع ذلك، لم تولِ السلطات المحلية أو المركزية هذه المسألة الاهتمام اللازم.

تفاقم الوضع المأساوي في سقطرى وتكبدت الجزيرة المزيد من الخسائر في الأرواح، مع فشل السلطات المتعاقبة في تنظيم عملية السفر بحرًا (على الأقل لحين استقرار الأوضاع السياسية واستئناف مؤسسات الدولة لعملها). ومن اللافت للنظر أنه لا توجد أرقام رسمية لضحايا السفر بحرًا أو مصادر دقيقة لأعداد المفقودين ، وعدم اكتراث أصحاب القرار برصد أو توثيق عدد ضحايا حوادث الغرق والتي تمرّ كخبر بشكل عابر رغم تعالي الأصوات التي تُنبه بتزايد حالات المفقودين. وليس لدينا سوى روايات السكان المحليين التي يسردونها علينا حول المعاناة التي مروا بها والأهوال التي شاهدوها بحرًا.

كانت فاطمة على متن سفينة تحمل على متنها 70 رجلًا و10 نساء وطفل واحد، عندما تعطلت في البحر عام 2016. “تم تحميل السفينة بما يفوق طاقتها الاستيعابية. توقفنا في وسط البحر مرتين وقيل لنا أن السفينة تعرضت لخللٍ ما. لكن في الليلة الثالثة ، شعر الجميع بأن النهاية وشيكة، خاصة قُبيل الفجر، حينما استيقظتُ على أصوات وصراخ وصياح جميع ركاب السفينة. طلب أحدهم من الركاب أن يبادروا بالنجاة بأنفسهم وركوب قوارب النجاة الصغيرة الموجودة على متن السفينة”.

أضافت فاطمة: “ركبنا قوارب النجاة، بينما بقيت بعض العائلات على متن السفينة نظرًا لصعوبة الموقف، لأن الظلام كان يخيم على جميع أرجاء المكان. لم نعرف من ركب قوارب النجاة ومن بقي في السفينة. استخدمنا ألواحًا خشبية لتحريك قوارب النجاة بعيدًا عن السفينة التي كانت على وشك الغرق. وبينما نبتعد عنها، ومع بداية تسلل نور الصباح ليبدد ظلام الليل، رأينا بعض الشباب متشبثين بأطراف السفينة وهي تغرق. وشيئًا فشيئًا اختفت السفينة وكان لا يزال على متنها نساء وأطفال ورجال، إما لعدم قدرتهم على القفز إلى قوارب النجاة أو لفقدانهم وعيهم. وبقينا في قوارب النجاة لعدة أيام حتى تم إنقاذنا ووصلنا إلى البر”.

يصف عبد الله، أحد طلاب كلية الحقوق بجامعة حضرموت، الوضع الحالي للسفر والتنقل قائلًا: “سافرت عن طريق البحر عدة مرات، رغم أنني أعاني من دوار البحر والغثيان الشديد أثناء السفر، لكن دخل عائلتي لا يكفي لشراء تذكرة طيران”. وفي إحدى المرات، عام 2021، سافر عبد الله مع حوالي 30 شخصًا آخرين على متن إحدى السفن التي كانت تضم ركابًا من الرجال والنساء والأطفال: «تحركت السفينة بعد الظهيرة، وبعدما قطعنا مسافة حوالي 100 ميل وعند منتصف الليل، هبت عاصفة ووقع على إثرها عطل فني في السفينة. بقينا في عرض البحر تصارعنا الأمواج لمدة خمسة أيام، إلى أن عثرت علينا سفينة حربية عمانية، فنقلتنا إلى البر العماني. وبعد ذلك، قررت عدم السفر بحرًا مرة أخرى، لكني اضطررت للعودة إلى السفر عبر البحر لاحقًا لإنهاء دراستي الجامعية”.

في السياق ذاته، أخبرنا أحد سكان سقطرى، فضَّل عدم ذكر اسمه أو الكشف عن هويته، عن فقدان شقيقه المراهق في البحر في 2016، واستطرد وعيناه تغرورقان بالدموع: “لا نزال نأمل أن نرى أخي عائدًا ذات يوم، ملوحًا بيديه بإشارة العود الحميد، إذ لم نعثر على دليل مادي على وفاته حتى الآن”. وذكر ربان إحدى السفن، الذي فضل أيضًا عدم الكشف عن هويته، إنه كان من الصعب تجنب مشكلة الاكتظاظ على متن القوارب نظرًا لعدم وجود جهة مشرفة تُنظم ضوابط وتكاليف النقل البحري و اضطرار بعض سكان سقطرى للتنقل من أجل العلاج أو الدراسة أو زيارة الأقارب في مناطق أخرى. وأضاف قائلًا: “أجبرتنا الأوضاع الحالية على السماح للمسافرين بالركوب معنا على متن السفينة، رغم أن أخطار البحر لا حصر لها. ولكن ما بوسعنا أن نفعل؟”

الحلول المقترحة

يتعين على السلطات أن تعي واجبها تجاه حماية حياة الناس، ونقدم فيما يلي العديد من المقترحات في هذا الصدد، بعضها في صورة حلول قصيرة المدى والبعض الآخر في شكل نُهج طويلة الأمد.

بادئ ذي بدء، يتعين على سلطات المحافظة في سقطرى تنظيم عملية السفر بحرًا من خلال تحديد نقاط المغادرة في الجزيرة، وينبغي تفتيش سفن الركاب قبل انطلاقها؛ كما يتعين اعتماد ربان السفن بناءً على كفاءتهم، وكذلك تنظيم عدد الركاب بشكل صارم، وتقييم الظروف الجوية مسبقًا.

على الجانب الآخر، يجب على الحكومة المركزية الضغط على الخطوط الجوية اليمنية لتخفيض أسعار تذاكر الطيران لتكون في متناول سكان سقطرى، والتوقف عن الحجوزات المزدوجة، والالتزام بمواعيد الرحلات. ينبغي كذلك تنظيم حملات عامة للتوعية بأهمية اتباع إرشادات السلامة في البحر ورفع الوعي بمخاطر الاكتظاظ على متن السفن أو الإبحار دون معرفة الظروف الجوية.

على المدى الطويل، يجب على السلطات دراسة إمكانية شراء طائرة خاصة لنقل سكان سقطرى إلى أقرب نقطة في البر اليمني، مع ضرورة الضغط على الحكومة المركزية لتقديم المساعدة في هذا المسعى.

يمكن استخدام عائدات السياحة في سقطرى لتغطية تكاليف هذه الخدمة. ويمكن للسلطات أيضًا دراسة إمكانية التعاقد مع شركات طيران دولية لتسيير رحلات جوية إلى جزيرة سقطرى من وجهات إقليمية مثل جدة وصلالة والمطارات الهندية، بحيث تكون تلك الوجهات بمثابة نقاط عبور للمسافرين من وإلى سقطرى.

أخيرًا، ينبغي على السلطة المحلية والحكومة المركزية النظر في إمكانية استغلال موقع سقطرى كمحطة عبور وتوقف لسفن الركاب، بما في ذلك السفن السياحية الصغيرة، في سقطرى. وجدير بالذكر أنه تم إدراج أرخبيل سقطرى إلى قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو منذ عام 2008، لما تتمتع به من نظام بيئي فريد والتنوع الحيوي النباتي، ولعل هذا هو الوقت المناسب للبدء في توجيه الأنظار لاستثمار ذلك سياحيًا على نحو يخدم مصالح سكانها المحليين ويفي باحتياجاتهم.


هذا التعليق هو جزء من سلسلة منشورات لمركز صنعاء تحت مبادرة “منتدى سلام اليمن” الساعية إلى تمكين الجيل القادم من الشباب اليمني والجهات الفاعلة في المجتمع المدني وإشراكهم في القضايا الوطنية الحرجة.