إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

تحليلات التحركات المصرية في القرن الأفريقي

Read this in English

منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، شهدت منطقة الشرق الأوسط سلسلة من التطورات الجيوسياسية التي اعتبرتها القاهرة تهديدا مباشرا لأمنها القومي: أولا، الحرب الإسرائيلية على غزة؛ ثانيا، تصعيد الحوثيين في البحر الأحمر وتراجع إيرادات قناة السويس؛ ثالثا، سعي أثيوبيا للحصول على منفذ بحري وإنشاء قاعدة عسكرية على سواحل إقليم أرض الصومال؛ ورابعاً وأخيرًا، الأزمة الليبية واحتمالية تجدد الصراع.

هزت هذه الأحداث المتلاحقة ثوابت السياسة الخارجية المصرية الراسخة على مدار أربعة عقود والقائمة على مبدأ حسن الجوار، ورفض التدخل العسكري، والاستثمار في الدبلوماسية والوساطة. على ضوئه، أظهرت القاهرة تحركات متتالية في محيطها الإقليمي خلال العام الجاري، والتي يمكن اعتبارها مؤشرًا حقيقًا عن نهج جديد يقوم على أساس المبادرة لإعادة بسط النفوذ في ما تعتبره القاهرة مجالها الحيوي.

كي تعوض نقاط ضعفها الذاتية، لاسيما مع ما تواجهه من أزمة اقتصادية خانقة، اهتمت القاهرة بِتنويع تحالفاتها الاستراتيجية في المنطقة، ومن هنا برزت تركيا كخيار مهم بعد ما شهدته علاقة البلدين من تطبيع تدريجي على مدار الأعوام الثلاثة الماضية. لقد كانت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الى القاهرة في فبراير/شباط الماضي نقطة تحول في العلاقة التعاونية بين الطرفين وتم على أساسها إنشاء “مجلس التنسيق الاستراتيجي رفيع المستوى”. واصلت العلاقات الثنائية تقدمها بصورة مضطردة وصولا إلى زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الى أنقرة في سبتمبر/أيلول الماضي.

اتخذ التقارب المصري – التركي خلال العام 2024 بُعداً جيوسياسياً مؤثرا، و تقاطعت مصالح البلدين في منطقتين حيويتين: ١) ليبيا وعموم منطقة شرق المتوسط، ٢) الصومال وعموم منطقة القرن الإفريقي والتي تعد حاليا مسرح نشط للعمليات العسكرية ويتم من خلالها اختبار حدود “التعاون المصري – التركي”. وبطبيعة الحال، فإن محصلة الدور المصري -التركي في القرن الأفريقي سيكون لها انعكاسات على تفاعلات الساحة الإقليمية، بما في ذلك الساحة اليمنية.

الصومال، نقطة البداية

في يناير/ كانون الثاني 2024، وقّع رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” ورئيس أرض الصومال “موسى بيهي عبدي”، مذكرة تفاهم تقضي بأن تَمنح أرض الصومال ـ(إقليم انفصالي غير معترف باستقلاله دوليا) إثيوبيا حق الوصول إلى 20 كم من سواحلها وبناء قاعدة بحرية عسكرية عبر استئجار قطعة أرض لمدة 50 عاما، مقابل اعتراف إثيوبيا بأرض الصومال كدولة ذات سيادة، ومنح حكومتها حصة من ملكية الخطوط الجوية الإثيوبية.

أشعل هذا المتغير – إضافة الى هجمات الحوثيين في البحر الأحمر- وتيرة التنافس الإقليمي في منطقة القرن الأفريقي، ومن المفارقات أنه ساهم في خلق أرضية مشتركة للتعاون بين القاهرة وأنقرة؛ فمن جهة تحتاج تركيا إلى حليف وازن للحفاظ على ميزتها الجيوسياسية في القرن الأفريقي أمام ما تراه تهديدًا مباشرا من قبل أبوظبي التي تنافس أيضا على حضور جيوستراتيجي في سواحل البحر الأحمر ويُشار إليها باعتبارها عرّاب الاتفاق ما بين إثيوبيا وأرض الصومال .

من جهة أخرى تحتاج القاهرة إلى حليف قوي في القرن الإفريقي كي يُعزز جهودها الرامية إلى إنشاء محور يضم اريتريا وجيبوتي والصومال، لاحتواء النفوذ الإثيوبي المتنامي في الإقليم وتعزيز حضور القاهرة الجيوسياسي جنوب البحر الأحمر، حيث يبدو الأمر أن دوافع تركيا ذات طابع استباقي لتعظيم مكانتها الإقليمية، في حين أن دوافع القاهرة ذات طابع دفاعي لحماية أمنها القومي وتطويق أديس أبابا التي تمثل تهديداً مباشراً لمصالح مصر – سواء المتصلة بنهر النيل أو البحر الأحمر.

خلال النصف الأول من العام 2024، حاولت أنقرة التعامل بشكل منفرد مع تحديات إثيوبيا بمزيج من الاستراتيجيات الديبلوماسية والسياسية والعسكرية، ففي شهر فبراير/ شباط 2024، وقعت تركيا والصومال اتفاقية إطارية للتعاون الدفاعي والاقتصادي بين البلدين، وفي الشهر نفسه وقعت ثلاث اتفاقيات عسكرية واقتصادية مع جيبوتي. بالتزامن مع ذلك، حاولت أنقرة التوسط بين الصومال وإثيوبيا لكن الجهود لم تُفلح، وعليه أصبح لأنقرة مصلحة أكبر بالتنسيق مع القاهرة، وقد أكد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال زيارته إلى القاهرة في 6 أغسطس/آب الماضي التزام مصر وتركيا بوحدة أراضي الصومال.

في 14 أغسطس/آب من العام الجاري، وقعت مصر والصومال بروتوكولا للتعاون العسكري المشترك بحضور الرئيسين عبدالفتاح السيسي وحسن شيخ أحمد، يتضمن السماح لمصر بنشر نحو خمسة آلاف عنصر من جيشها في الأراضي الصومالية. قد يكون لهذه الخطوة أهميتها نظراً لأن بعثة الاتحاد الأفريقي الانتقالية في الصومـال “أتيمس” تنتهي مهامها بنهاية عام 2024. فضلا عن ذلك، قامت القاهرة أيضا بإرسال شحنتي أسلحة إلى الحكومة الصومالية في مقديشو في سبتمبر/أيلول الماضي، وهو الأمر الذي جوبه بتصعيد إثيوبي مقابل، تمثل بإرسال أسلحة من إثيوبيا إلى إقليم بونتلاند الصومالي ذي النزعة الاستقلالية. كخطوة استباقية لتعطيل وصول أي قوات مصرية، سيطرت القوات الإثيوبية على ثلاثة مطارات في إقليم “غيدو” جنوب الصومال.

سعت القاهرة أيضًا لتعميق علاقاتها الاستراتيجية مع إريتريا التي تحتفظ بإرث كبير من العداء تجاه إثيوبيا. في 10 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وصل الرئيس السيسي إلى العاصمة الاريترية أسمرة حيث عقد قمة ثلاثية مع الرئيس الإريتري إسياس أفورقي والرئيس الصومالي حسن شيخ محمود. جاء اللقاء، الذي ناقش عدة قضايا من بينها التعاون الأمني في البحر الأحمر، كخطوة لافتة حملت الكثير من الرسائل الدبلوماسية الضمنية لإثيوبيا. بدورها، ردت أديس أبابا في الـ 13 من نفس الشهر بتفعيل اتفاقية الإطار التعاوني لحوض نهر النيل (التي تُعرف أيضاً باتفاقية عنتيبي) من طرف واحد، وهي الاتفاقية التي تسعى من خلالها أثيوبيا إلى مراجعة التوزيع القائم لِحصص مياه نهر النيل وتعارضها دولتي المصب (مصر والسودان).

يذكر أن هذه التحركات تأتي بعد زيارة وفد مصري رفيع المستوى بقيادة رئيس جهاز المخابرات عباس كامل (آنذاك) ووزير الخارجية بدر عبدالعاطي لأسمرة في سبتمبر/أيلول الماضي، حيث أشارت بعض التقارير إلى أن الطرفين تباحثا في تفاصيل إبرام اتفاقية دفاعية مشتركة للتعاون الأمني والاستخباراتي والعسكري.

في جيبوتي، عملت القاهرة منذ وقت مبكر على توثيق علاقاتها الإستراتيجية في ظل طموحاتها الدائمة بإنشاء قاعدة عسكرية هناك. عام 2021، كان عبدالفتاح السيسي أول رئيس مصري يزور جيبوتي منذ استقلالها عام 1977، وخلال يوليو/ تموز الماضي زار وزير الخارجية المصري جيبوتي ليعلن عن تدشين خط طيران مباشر بين البلدين، لكن جيبوتي – وبخلاف إريتريا والصومال- تحاول أن تمسك العصا من المنتصف، وهو نهج أصيل في السياسة الخارجية الجيبوتية التي استطاعت أن تحتضن -في وقت واحد- قاعدة عسكرية أمريكية وأخرى صينية، وبينما تواصل جيبوتي مباحثاتها مع القاهرة، اقترحت مَنح إثيوبيا حق الوصول الحصري إلى أحد موانئها، بحسب تصريح وزير خارجية جيبوتي، محمود علي يوسف.

أزمات متشابكة: القرن الأفريقي واليمن

ساهمت ديناميكيات القوى المتغيرة في القرن الأفريقي – مدفوعة بنهج أديس أبابا وأبو ظبي الساعي لإعادة تشكيل التوازنات في المنطقة والتهديدات المتزايدة للاستقرار في البحر الأحمر من جهة أخرى – إلى حد كبير- في إنضاج شروط التعاون بين تركيا ومصر. مع ذلك، فإن ثمة فوارق في مقاربة الطرفين للوضع: ترى القاهرة أن إثيوبيا هي التهديد بينما أبوظبي هي مجرد تحدٍ، والعكس صحيح بالنسبة لأنقرة. لكن الطرفين يشتركان حاليا في غاية واحدة: الضغط على إثيوبيا لإجبارها على الحوار بخصوص ملفي أرض الصومال وسد النهضة، و ترسيخ النفوذ الجيوسياسي للبلدين في منطقة القرن الأفريقي.

وقد نجحت الدبلوماسية المصرية في استمالة تركيا إلى صفها، وهي الآن بحاجة إلى تحقيق ثلاثة شروط أخرى كي تضمن بيئة عمل مثالية في القرن الأفريقي: استمالة دعم السعودية، تحييد كل من أبوظبي وإيران. من هنا تأتي أهمية الملف اليمني باعتباره أحد أهم المداخل بالنسبة للقاهرة لتحقيق الشروط السابقة.

بالنسبة للرياض فإن التجربة المصرية التركية في الصومال -في حال نجحت بردع إثيوبيا و كبح أبوظبي- قد تصبح نموذجاً صالحة للتطبيق في اليمن تحت مظلة سعودية، بهدف ردع إيران وتحسين شروط المنافسة مع أبوظبي. في حال نجح الجيش المصري في الصومال بما أخفقت فيه الولايات المتحدة وتركيا والإمارات على مدار سنوات، وهو إعادة بناء القوات المسلحة الصومالية بمعايير مؤسسية، فإن ذلك سوف يعيد تعريف الدور المصري “كمزود أمن إقليمي”، وبالتالي فقد تفكر الرياض والمجتمع الدولي جديا في إيجاد اتفاقية شراكة دفاعية بين القاهرة والحكومة اليمنية على غرار الاتفاقية التي تم توقيعها مع الصومال.

تزامنت التحركات الدبلوماسية المصرية في القرن الأفريقي مع تقارير تحدثت عن تنسيق سعودي – مصري لاستقبال وفد حوثي في القاهرة، وهذا قد يعني أن مصر مستعدة للانخراط أيضا في المسار السياسي السعودي للوصول إلى تسوية في اليمن لكي تستميل الرياض إلى خطها الاستراتيجي في القرن الأفريقي. تجدر الإشارة إلى أن القاهرة كانت قد تحفظت سابقا على المفاوضات السعودية مع الحوثيين ورفضت فتح مطار القاهرة أمام رحلات الطيران القادمة من صنعاء – بحسب مصدر دبلوماسي مصري.

في الوقت نفسه، فإن التلويح بإمكانية الانفتاح المصري على الحوثيين سيكون له صدى قوي لدى الإيرانيين قبيل الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية المصري إلى طهران (والزيارة الاخيرة لأول وزير خارجية إيراني إلى القاهرة منذ 2013)، حيث تطمح القاهرة إلى تحقيق مطلبين: إقناع إيران بوقف العمليات الحوثية في البحر الأحمر نظرا لما تسببت به من خسائر موجعة في إيرادات قناة السويس؛ والتفاهم الأمني مع طهران لتأمين مسرح عمليات القوات المصرية في الصومال، وضمان عدم تعرض الحوثيين لخطوط إمداد الجيش المصري في البحر الأحمر وباب المندب. فضلا عن ذلك، تسعى القاهرة إلى وقف الدعم الإيراني -الحوثي لحركة الشباب المجاهدين في الصومال أو على الأقل ثنيهم عن مهاجمة القوات المصرية.

في المقابل، يمكن للقاهرة أن تعمل مع طهران على التكامل الدبلوماسي المشترك للضغط نحو وقف المعارك في لبنان بعد التصعيد الإسرائيلي الأخير بالغارات الجوية والغزو البري، وربما في مرحلة ما الاعتراف السياسي بالحوثيين في اليمن. وقد سبق للمصريين أن قدموا بادرة حسن نية لإيران في هذا الاتجاه من خلال الضغط على جامعة الدول العربية للتواصل مجددا مع حزب الله اللبناني وعدم تصنيفه كمنظمة إرهابية.

لكن هذه المناورة المصرية قد لا يكتب لها النجاح لسببين: الأول نهج التصعيد الإيراني المتواصل في المنطقة لاسيما بعد هجومهم المباشر بالصواريخ على إسرائيل في 1 أكتوبر/ تشرين الأول؛ والثاني ضغوط الجانب الأمريكي. لذا كان لافتا تصريح وزير الخارجية المصري عبدالعاطي خلال لقائه المبعوث الأمريكي إلى اليمن تيم ليندركينغ في سبتمبر/ أيلول الماضي، عن “رفض مصر لأن تكون الأزمة اليمنية مدخلاً لانخراط دول غير مشاطئة للبحر الأحمر في الترتيبات الأمنية المرتبطة به”، في إشارة صريحة إلى إيران.

إن هذه التلميحات المصرية بشأن اليمن قد تكون موجهة في الوقت نفسه إلى أبوظبي. فَفي حال تبنت أبوظبي موقفا أقل انحيازا لإثيوبيا، فإن القاهرة لن تكون بحاجة إلى دعم أي تسوية سياسية في اليمن -لا تلبي شروط الأمن القومي المصري- قد تتفق عليها الرياض وطهران، بل على العكس قد تذهب أكثر نحو دعم مصالح أبوظبي وحلفائها في اليمن، وهو ما سيعيد تشكيل ميزان القوى الإقليمية بشكل كبير.

بشكل عام، فإن تنامي التواجد التركي – المصري في القرن الإفريقي سوف يحتم عليهما بالضرورة الانخراط على نحو أعمق في الأزمة اليمنية، وقد تجد القاهرة وأنقرة نفسيهما مضطرتين للمساومة بالملف اليمني أو حتى التموضع بصورة أكبر في مضيق باب المندب لمواجهة التهديدات الأمنية الناشئة التي أثرت بشكل خطير على مصالحهما التجارية.


هذه المقالة التحليلية هي أحد إصدارات منتدى سلام اليمن – مبادرة تفاعلية بتيسير من مركز صنعاء تسعى إلى الاستثمار في بناء وتمكين الجيل القادم من الشباب والجهات الفاعلة في المجتمع المدني اليمني وإشراكهم في القضايا الوطنية الحرجة.