عقب اندلاع حرب غزة، سارعت جماعة الحوثيين (حركة أنصار الله) بإعلان موقفها الداعم للفلسطينيين، مستهدفة إسرائيل بشكل مباشر إلى جانب السفن الإسرائيلية والغربية في البحر الأحمر. أدت هذه الأزمة غير المسبوقة إلى تصاعد التوترات الإقليمية وظهور تهديد جديد للأمن البحري العالمي، لكنها في الوقت نفسه عزّزت المكانة الإقليمية لجماعة الحوثيين وربما موقفها على طاولة المفاوضات. فقد تحول الحوثيون بشكل أساسي من مجرد طرف معترف به كجهة فاعلة يمنية محلية إلى جهة فاعلة إقليمية قوية ضمن محور المقاومة بقيادة إيران، واستناداً إلى رؤى رئيسية من خبراء مركز صنعاء، يسلط هذا التحليل الضوء على ثلاثة أبعاد: تأثير هجمات الحوثيين على الأمن البحري؛ وإعادة تشكيل الديناميكيات الإقليمية؛ والآثار المترتبة على عملية السلام اليمنية.
تأثير الهجمات على الأمن البحري ومسارات الشحن الدولية
كان تأثير هجمات الجماعة على الأمن البحري أكثر وضوحًا خلال الأشهر الأولى من حرب غزة، فقد استهدف الحوثيون إسرائيل في البداية بالصواريخ بعيدة المدى والطائرات المسيرة، لكنهم سرعان ما تحولوا إلى استهداف السفن المرتبطة بإسرائيل أو تلك المتجهة إليها. بحلول أوائل عام 2024، وسع الحوثيون نطاق أهدافهم لتشمل السفن الأمريكية والبريطانية، مما أدى إلى تكثيف هجماتهم في خليج عدن واستدعى ردًا سريعًا من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة تمثل في توجيه غارات جوية انتقامية ضد مواقع للحوثيين في إطار عملية شُنت في 11 يناير/كانون الثاني، وأطلق عليها اسم (بوسيدون آرتشر).
على الرغم من التراجع الملحوظ في الهجمات التي يشنها الحوثيون في البحر الأحمر، إلا أنهم لا يزالون يشكلون تهديدًا للأمن البحري وفرضوا واقعاً جديدًا في المنطقة، حيث أصبحت هذه الهجمات وسيلة في أيدي الحوثيين للضغط على المجتمع الدولي. بحسب منصة بيانات “بورت واتش” التابعة لصندوق النقد الدولي، فإن معدل حركة السفن المارة عبر قناة السويس أسبوعياً خلال الفترة من يوليو/تموز إلى سبتمبر/أيلول 2023، بلغ 72 سفينة شحن وناقلة، لكن هذا العدد انخفض إلى 31.6 سفينة خلال الفترة نفسها عام 2024، مما يشير إلى احتمال استمرار تأثير الازمة على مسارات النقل والشحن العالمية في البحر الأحمر حتى في ظل تراجع وتيرة الهجمات.
لعلّ إحدى أكثر الهجمات شدة في الأشهر الأخيرة كان الهجوم على ناقلة النفط اليونانية سونيون في 21 أغسطس/آب، حيث قام الحوثيون بتفخيخ ثم تفجير السفينة مما تسبب في اندلاع حريق على متنها وخطر حدوث تسرب نفطي كبير في البحر الأحمر. على ضوئه، تم تعليق عمليات سحب السفينة بسبب مخاوف من حدوث تسرب، قبل أن يتم نقلها أخيراً إلى منطقة آمنة بعد شهر تقريبًا (في 16 سبتمبر/أيلول) بمساعدة القوة البحرية التي يقودها الاتحاد الأوروبي في إطار عملية أسبيدس. ووفقًا لتقارير القيادة المركزية الأمريكية، شملت الهجمات الأخرى استهداف ناقلة نفط خام ترفع علم بنما ومملوكة لشركة يونانية، بالإضافة إلى هجوم مشتبه على ناقلة سعودية، وكلاهما وقعا في 2 سبتمبر/أيلول. وفي حال تأكد ضلوع الحوثيين في الهجوم المزعوم على الناقلة السعودية، فقد تصبح نقطة خلاف رئيسية في المحادثات السعودية -الحوثية، لا سيما وأن الحوثيين امتنعوا حتى الآن عن استهداف السعودية أثناء الصراع الدائر في غزة. هذا وقد نفت الشركة السعودية المالكة للناقلة التقارير الواردة عن الهجوم.
علاقة الحوثيين مع إيران ومحور المقاومة، و الصدام مع إسرائيل
على المستوى الإقليمي، نجح الحوثيون في التموضع كلاعبين بارزين في المحور الموالي لإيران، وعززوا تنسيقهم مع أعضاء المحور الآخرين، وخاصة الفصائل الشيعية العراقية. منحت حرب غزة الحوثيين ذريعة لإظهار قدراتهم المتزايدة والاضطلاع بدور إقليمي أكبر، ففي يوليو/تموز 2024، استهدف الحوثيون تل أبيب باستخدام طائرة مسيرة، مما أسفر عن مقتل مدني اسرائيلي وإصابة نحو عشرة آخرين، وهو ما دفع إسرائيل إلى الردّ عبر هجوم أسفر عن اندلاع حريق كبير في ميناء الحديدة. بتاريخ 15 سبتمبر/أيلول، شن الحوثيون هجومًا آخر تسبب في نشوب حريق في منطقة غير مأهولة في وسط إسرائيل بعد سقوط أجزاء منه، وهو ما أبرز قدرتهم على اختراق وتهديد البلاد.
في هذا السياق، يقول عبد الغني الإرياني، باحث أول في مركز صنعاء، إن عمليات الحوثيين في البحر الأحمر كان لها تأثير مزدوج على علاقتهم بإيران ومكانتهم كلاعبين في الإقليم، وأضاف إن “هجماتهم في البحر الأحمر جعلت منهم أعداء جدد، وبالتالي فإن الوسيلة الوحيدة للتمتع بالحماية هي التحالف الكامل مع إيران والمحور الموالي لها”، مشيرا إلى أنهم باندماجهم الكامل في المحور تخلوا عن الاستقلالية الذي كانوا يتمتعون به سابقا.
من ناحية أخرى، يؤكد الإرياني أن الحوثيين “لا يتخذون القرارات فيما يتعلق بالداخل اليمني فحسب، بل يشاركون في مناقشات حول العمل التنسيقي للمحور، وأصبح نشاطهم في العراق أكثر وضوحا”.
أسفرت هذه التطورات عن تغيير ديناميكيات التحالف مع إيران، وأثبتت نفعها الكبير للجمهورية الإسلامية. ووفقاً لميساء شجاع الدين، باحثة أولى في مركز صنعاء، فإن “إيران ترى أن استثمارها في الحوثيين كان جيدًا، حيث أثبتوا قدرتهم على أن يكونوا عنصرًا فعالاً وأن يضطلعوا بدور في محور المقاومة، مما دفع طهران إلى إسناد دور أكبر لهم”. لم تستبعد شجاع الدين إمكانية تقديم إيران المزيد من الدعم للحوثيين وكذلك اعتماد الجماعة بشكل متزايد على إيران.
على الرغم من وصفهم في بعض التقارير والتحليلات بأنهم وكلاء لإيران، يحافظ الحوثيون على مستوى كبير من الاستقلالية، ويسعون بشكل حثيث لتحقيق أجندتهم وأهدافهم الخاصة. في الوقت الراهن، تتوافق أهداف هذه الأجندة إلى حد كبير مع أجندة طهران، ولكن قد يتغير ذلك في المستقبل، ويبقى السؤال الأهم: هل ستتمكن إيران من منع أي تصعيد محتمل من قبل الحوثيين، والذي من شأنه أن يخلق المزيد من التوترات مع إسرائيل والسعودية؟
ترى شجاع الدين أن “الإيرانيين والحوثيين كانوا على وفاق حتى الآن، ولن يعارض الحوثيون أي توجيهات تصدر من إيران. كما أن الإيرانيين يدعمون الحوثيين دائمًا، حتى لو زعموا خلاف ذلك. لدى الإيرانيين بعض النفوذ ويمكنهم استخدامه إذا أرادوا، لكنهم ليسوا جادين بشأن وقف عمليات الحوثيين”. يتفق عبد الغني الإرياني مع هذا الرأي ويرى أن إيران لا تزال تتمتع بنفوذ كبير على جماعة الحوثيين، حيث قال: “لقد تمكنوا (الحوثيون) من الحصول على تقنيات أكثر تطوراً من إيران لتنفيذ الهجمات. لكن إذا لم يتبعوا القواعد، فَستتوقف إيران عن إمدادهم بتلك الوسائل، وبالتالي أصبحوا (الحوثيون) أكثر قابلية للتحكّم بهم”.
رغم أن الحوثيين قد يستمرون في الاعتماد على إيران، لابد من إدراك أنهم في وضع يسمح لهم أيضاً بتصعيد خطابهم وهجماتهم ضد إسرائيل. بالرغم من عدم اتخاذهم لأي إجراء بعد، فقد أعربوا عن نيتهم في الانتقام لمقتل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، الذي اغتيل في إيران بتاريخ 31 يوليو/تموز.
تجدر الإشارة إلى أن قدرة الحوثيين على استيعاب أي ضربات مضادة محتملة من إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما تُمكنهم من تبني مواقف أكثر جرأة. من جهتها، تظل إيران متمسكة بسياسة الحذر المدروس، وهو موقف يخدم مصالحها حيث يوفر لطهران فرصة لتبني سياسة الإنكار ونفي أي دور لها في هجمات الحوثيين كما كان الحال في هجوم سبتمبر/أيلول 2019 على منشآت النفط السعودية.
أدى التصعيد الأخير على الجبهة الإسرائيلية- اللبنانية، ومن ذلك تكثيف الغارات الجوية في أنحاء البلاد وشن العمليات البرية الإسرائيلية في جنوب لبنان، إلى زيادة تعقيد موقف الحوثيين والحسابات الاستراتيجية لإيران ومحور المقاومة، حيث تسببت الهجمات الإسرائيلية، التي نجحت في اغتيال زعيم حزب الله حسن نصر الله، في استثارة الرد من جانب الحوثيين الذين استهدفوا مدينتي تل أبيب وعسقلان في إسرائيل بالصواريخ في 27 سبتمبر/أيلول.
ردًا على ذلك، شنت إسرائيل غارات جوية على محطات الطاقة ومرافق تخزين النفط في الحديدة. من جهتها، شنت إيران هجومًا صاروخيًا ضد إسرائيل في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، في إطار سعيها للحفاظ على نفوذها الإقليمي وكمحاولة لإرسال رسالة إلى خصومها وحلفائها. مع استمرار تطور الوضع، قد يفتح إضعاف حزب الله الباب أمام الحوثيين لتولي دور قيادي داخل محور المقاومة.
التداعيات على عملية السلام في اليمن
عزّزت هجمات الحوثيين في منطقة البحر الأحمر وتنامي دورهم الإقليمي ونفوذهم في عملية السلام الجارية في اليمن. في يوليو/تموز 2024، حقق الحوثيون انتصاراً في الأزمة بين البنكين المركزيين، وذلك عندما اضطر البنك المركزي في عدن – بضغوط سعودية على الحكومة اليمنية – إلى التراجع عن إجراءاته الرامية إلى عزل صنعاء عن النظام المصرفي الدولي. كان هذا الحدث بمثابة دليل على فعالية استراتيجية الحوثيين والمكاسب الملموسة التي حققوها في الساحة المحلية اليمنية، إلا أن مسألة ما إذا كانت هذه المكاسب ستؤدي إلى تنامي قوة الحوثيين على المدى الطويل في البلاد تظل محلاً للنقاش، فَعلى الرغم من النفوذ العسكري الذي تتمتع به الجماعة ضد السعوديين، إلا أن هجماتهم المرتبطة بأحداث غزة أثارت إدانة المجتمع الدولي، ورغم أن دعمهم للفلسطينيين في غزة عزز مكانتهم الإقليمية، إلا أنه حد في الوقت نفسه من إمكانية قبول الغرب للحوثيين كطرف في أي تسوية سلمية مستقبلية في اليمن.
في هذا السياق، يرى عبد الغني الإرياني أن الحوثيين أصبحوا معضلة دولية بالنسبة للولايات المتحدة، قائلاً: “لن يسمح الأميركيون باستمرار عملية السلام. ولن يمكّنوا السعوديين من تسليم السلطة في اليمن للحوثيين”. لذا، حتى لو انحازت الرياض إلى مطالب الحوثيين، أصبح يُنظر للجماعة الآن باعتبارها تهديدًا للأمن الدولي، وبالتالي أضعفت موقفها في المفاوضات ولو نسبياً على الأقل. علاوة على ذلك، قال الإرياني: “أدرك السعوديون أنه على الرغم من الصفقة التي عرضوها على الحوثيين، فقد تحالفت الجماعة بشكل أقوى مع إيران”.
سيواصل الحوثيون استغلال الزخم الكبير الذي اكتسبوه منذ بدء الحرب على غزة، وذلك بغض النظر عن نتائج تلك الحرب، فَقد عزز التصعيد بين إسرائيل وإيران وحلفائها مكانتهم الإقليمية، دون الحد من علاقاتهم بإيران. ورغم أن هجماتهم المرتبطة بغزة أدت إلى تعزيز دورهم الإقليمي داخل المحور الموالي لطهران، لا يتوقع أن يستفيد الحوثيون من هذه المكاسب في أية تسوية يمنية مستقبلية، حيث قد يعارض المجتمع الدولي أي موقف سعودي أكثر مرونة تجاه الجماعة.
بعبارة أخرى، اتخذ الحوثيون خطوة كبيرة باتجاه دمج أنفسهم في محور إيران الإقليمي، لكن هذا حمل معه أيضاً مجموعة جديدة من التحديات بالنسبة لهم.
هذه المقالة التحليلية جزء من سلسلة إصدارات ينتجها مركز صنعاء بتمويل من الحكومة الهولندية. تستكشف السلسلة قضايا ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وبيئية، بهدف إثراء النقاشات وصنع السياسات التي تعزز السلام المستدام في اليمن. الآراء المعرب عنها في هذا التحليل لا تعكس آراء مركز صنعاء أو الحكومة الهولندية.