أحدثت العواصف العاتية والسيول التي اجتاحت اليمن منذ يوليو / تموز الماضي، الدمار في مناطق مختلفة من البلاد، مُلحقة أضراراً جسيمة بالزراعة والبنية التحتية ناهيك عن تأثر أكثر من 560 ألف شخص. وجد عشرات الآلاف من السكان في إب وصنعاء ومأرب والحديدة والمحويت وتعز – بما في ذلك نازحين – أنفسهم دون مأوى أو مياه نظيفة، وقضى المئات رغم عدم الإعلان حتى الآن عن الحصيلة النهائية للوفيات، وتنامي القلق من انتشار الأمراض المنقولة عن طريق المياه مثل الكوليرا.
انتشرت مشاهد مؤثرة لانتشال الجثث من تحت الركام، أو من تحت الأشجار، بل وتم تداول صورة مؤلمة – تُجسد ثُقل المعاناة والمأساة – لامرأة مطمورة في الوحل تحتضن طفلها في مديرية ملحان بمحافظة المحويت. تسببت الأمطار الغزيرة في ردم أنفاق وخنادق تُستخدم لأغراض عسكرية من قبل الحوثيين في المناطق الساحلية، وربما في تعطيل خططهم العملياتية، لكنها جلبت تهديدا من نوع آخر حيث جُرفت الألغام الأرضية مع السيول مما قد يتعذر اكتشافها وإزالتها لعقود قادمة.
أصبحت الأمطار الصيفية ظاهرة أخرى مألوفة وشائعة في اليمن، وهي نموذج آخر للظواهر الجوية المتطرفة التي تحدث الدمار في البلدان الأقل قدرة على التكيف مع التغيرات المناخية. كان هطول الأمطار الصيفية هذا العام تحديداً سيئ التوقيت وفي ظروف غير مواتية إطلاقاً؛ فَرغم تراجع حدة المعارك القتالية على الجبهات نسبياً، تسببت هجمات الحوثيين المتصاعدة في البحر الأحمر (على إثر تداعيات حرب غزة) في تعميق الانقسامات السياسية والتدهور الاقتصادي في البلاد وعززت الشعور العام بالخيبة وفقدان الأمل تجاه مآل الأوضاع.
تفاقم الوضع مع الصعوبات المتزايدة التي باتت تواجه العمل الإنساني على خلفية حملة الاعتقالات الحوثية المستمرة التي تطال الموظفين اليمنيين العاملين في المنظمات الدولية والمحلية، وإعادة فرض عقوبات أمريكية على جماعة الحوثيين بسبب الهجمات في البحر الأحمر. في غضون ذلك، تعصف الخلافات والانقسامات بين أطراف معسكر الحكومة اليمنية، مع تركّز الاهتمام على التداعيات السياسية للخلافات القائمة بشأن السياسات المصرفية، ومحاولات رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي إعادة بسط سلطته من خلال جولة زيارات رئاسية إلى تعز وحضرموت. من جهة أخرى، تعمل المملكة العربية السعودية على إبقاء الأمل حيا في التوصل إلى تسوية نهائية مع الحوثيين، بينما ينشغل المجتمع الدولي بهجمات الحوثيين على إسرائيل وسُفن الملاحة في البحر الأحمر..
إن غياب الاهتمام الدولي يعكس – وبشكل صارخ – تراجع الرفاه الاجتماعي والاقتصادي لليمن إلى أسفل اهتمامات الأجندة العالمية، وهو أمر مستغرب بالنظر إلى أن البلاد تقع حاليا في قلب عاصفة جيوسياسية إقليمية. لكن الاختلالات المحلية هي ما تُعزّز نظرة العالم إلى اليمن باعتباره معضلة أمنية بحتة يجب التعامل معها أولاً.
يتجلى تقصير وإهمال الحكومة المركزية في مثل هذه الظروف بشكل لا لبس فيه، لكن الأمر يعود في الواقع لسنوات سابقة حين دق خبراء المناخ أجراس الخطر في ثمانينيات القرن العشرين بشأن التأثير المدمر للتغيّرات في أنماط هطول الأمطار – حيث تهطل بغزارة في عام، ويعقب ذلك فترة جفاف في العام الذي يليه. كان تأثير الأمطار الغزيرة كارثياً بالتحديد في المدرجات الزراعية التي تشتهر بها المرتفعات الغربية في اليمن والمعتمدة على مياه الأمطار للريّ، حيث أدت إلى تدفق سيول هائلة عبر المنحدرات غَمرت الوديان الجبلية وصولاَ إلى سهل تهامة. تفاقمت المشكلة مع تنامي ظاهرة إزالة الأحراج وهجرة الشباب إلى المُدن، مما ساهم في تحوّل البيئة الخصيبة إلى أرض قاحلة في غضون سنوات – وهو ما رصده فيلم وثائقي بريطاني تم إنتاجه عام 1990.
نَسفت الحرب الأخيرة جهود السنوات التي سبقت اندلاعها، والتي سعت للتخفيف من آثار وأضرار تلك التغيرات. فقد فاقم الصراع الذي تعيشه البلاد في السنوات العشر الأخيرة من تأثير تغيرات الأنماط المناخية التي بدأت تظهر في العقود الأخيرة، وأدى هذا إلى زيادة تكاليف البذور والأسمدة والمعدات الزراعية، وأجبر بعض السكان على هجر أراضيهم الزراعية من أجل الانخراط في مِهَن أخرى. تزايدت الضغوط مع موجات النزوح الجماعية للسكان الفارين من مناطق النزاع، وزرع الألغام الأرضية، والنقص المستمر في الوقود والذي أدى تحديداً إلى زيادة ظاهرة إزالة الأحراج من أجل الاحتطاب وإهمال مبادرات التشجير في مناطق مستجمعات المياه.
على ضوء ما سبق، تبرز الحاجة إلى إحياء ممارسات الريّ التقليدية في اليمن والنُظُم القديمة المتوارثة محلياً لحصاد المياه وزراعة الأشجار، لكن هذا لن يتحقق إلا من خلال مبادرات يقودها المجتمع المحلي وممارسات تتجذر فيها المعرفة المحلية. في الظروف الراهنة، أفضل ما يُمكن السلطات السياسية القيام به هو تمكين المجتمعات المحلية للمناطق المتسمة بطابعها الجغرافي الفريد في اليمن، من خلال تزويدهم بالموارد اللازمة لتطبيق معارفهم باستقلالية. من جهة أخرى، يُمكن للحوثيين إحداث فارق كبير من خلال إطلاق مبادرة واسعة لإعادة التحريج، باعتبارهم السلطة المسيطرة حاليا على المرتفعات الشمالية والغربية.
في ظل كل هذه المعطيات، يتضح مجدداً (وعلى نحو مأساوي) أهمية تصدّر ملف البيئة سُلّم أولويات الجهات المانحة لليمن، كون ذلك سيُسهم في توليد الشعور بالمسؤولية تجاه تلبية احتياجات ضحايا السيول. أبرزت مؤتمرات الأمم المتحدة المعنية بتغير المناخ أهمية هذه القضية بشكل عام، وأُنشئ صندوق خاص بغرض حشد التمويل لمساعدة البلدان النامية، وما يحتاجه القادة اليمنيون الآن هو الاهتمام بقضية المناخ بشكل أكبر والدفع بها بفعالية لكي تكون للبلاد أسبقية في الاستفادة من مثل هذه البرامج.
كما لا يمكن غض النظر عن تداعيات الأزمة على التراث الثقافي والحضاري الذي بات معرضاً للخطر، حيث تسبّب هطول الأمطار الغزيرة مؤخراً بانهيار جزء من قلعة شمر يهرعش الحِمْيرية في محافظة البيضاء وتضرّر الواجهة الشمالية لقلعة زبيد التاريخية في محافظة الحديدة، بينما باتت عدة منازل في مدينة صنعاء القديمة – بعضها مبني من الطين والحجر وفق الطراز المعماري المستخدم في العالم منذ القِدَم – عُرضة للخطر. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة اليمنية وسلطة الحوثيين أطلقتا نداء عاجلا للمساعدة في الحفاظ على هذه المباني الأثرية – المصنفة معظمها في قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو- حيث يُهدد انهيارها بطمس تاريخ اليمن بل والهوية الثقافية للبلاد.
يظل المفهوم الأساسي الذي ينبغي التشديد عليه هو مفهوم العدالة؛ فَالشرائح الأفقر في البلدان الفقيرة لا يدفعون ثمن نهوض الاقتصادات المتقدمة فحسب، بل وأيضا ثمن انعدام كفاءة قيادات لم يختاروها أساساً. أعادت السيول الأخيرة تسليط الضوء على التهميش والإهمال النسبي لقضية المناخ على مدار عَقد من الحرب، بحيث أصبح شبح الأزمة يطارد الحكومة اليمنية وسلطات الأمر الواقع في اليمن مع تنامي الغضب الشعبي إزاء هذا الإهمال. المجتمعات المحلية تملك المعرفة الكافية للتصرّف والتكيّف مع هذه المتغيرات، وما تحتاجه هو تحرك السلطات لتوحيد سياساتها في التعامل مع هذا الملف ومُضافرة جهودها لدعم تلك المجتمعات.