في أحدث انتهاكات الحوثيين (حركة أنصار الله) للسلطة القضائية، أقر مجلس النواب الواقع تحت سيطرتهم – منتصف سبتمبر/ أيلول 2024 – تعديل بعض مواد قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 1991.[1] لا يمثل هذا الانتهاك الأول للحوثيين لاستقلالية السلطة القضائية منذ انقلابهم وسيطرتهم على العاصمة صنعاء في 2014، بل يأتي ضمن تحرك مُمنهج لإحكام السيطرة على السلطة القضائية بدوافع عنصرية ومذهبية.
عمد الحوثيون إلى تغيير الهيكلية القانونية للسلطة القضائية ، فاستحدثوا ما أسموه “المنظومة العدلية” – وهي لجنة مختصة من مهامها الإشراف على عمل مجلس القضاء الأعلى، ويتولى رئاستها محمد علي الحوثي/ عضو المجلس السياسي الأعلى للجماعة. كما استحدثوا مناصب “مشرفين” في المحاكم أسندت إليهم مهام الإشراف على عمل المحاكم بل وحتى ممارسة مهام رؤساء المحاكم غير الموالين للجماعة.[2] يُعدّ هذا التدخل السافر تعدٍ مباشر على استقلالية السلطة القضائية ويفتح المجال أمام استغلال القضاء – لاسيما المحكمة الجزائية – لتسوية حسابات سياسية وقمع المعارضين والاستحواذ على ممتلكاتهم من خلال محاكمات صورية[3]، بل وإصدار أحكام بالإعدام تفتقر إلى أدنى الإجراءات القانونية اللازمة.[4]
في مرحلة سابقة، باشر الحوثيون بالتعيينات السلالية في السلك القضائي ويظهر ذلك في الأسماء المعينة في عضوية مجلس القضاء الأعلى والمحكمة العليا وأعضاء هيئة التدريس وطلبة المعهد العالي للقضاء.[5] لوحظ ذلك بوضوح في تعيينات أعضاء مجلس القضاء الأعلى عام 2017، [6] ومؤخراً في سبتمبر/ أيلول 2024، [7] بحيث أصبح غالبية أعضائه من الأسر الهاشمية والبقية – باستثناء قلة قليلة – إما من الموالين أو التابعين للجماعة. ينطبق الأمر ذاته على التعيينات في المحكمة العليا، [8] و تعيينات رؤساء المحاكم الاستئنافية في المحافظات الواقعة تحت سيطرة الحوثيين.[9]
يبدو جلياً عدم اعتراف الحوثيين بمبدأ الفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، حيث استغلوا القضاء في حملات الاستقطاب والتعبئة السياسية في المحافظات الواقعة تحت سيطرتهم، وأبرزها حملة “إعصار اليمن للتحشيد في مواجهة العدوان” إحدى وسائل التجنيد المتبعة. نشط مجلس القضاء الأعلى في الدفع بالأفراد والشباب للانخراط في الأعمال الدعائية للحرب والمشاركة فيها والتبرع لها.[10]
اشتمل الاستحداث جملة من التعديلات، أبرزها تقويض مبدأ الفصل بين السلطات وإطلاق يد رئيس المجلس السياسي الأعلى (وهو منصب يوازي منصب رئيس الجمهورية في سلطة الحوثيين، ويتولاه حاليا مهدي المشاط) بالتعيين المباشر في مجلس القضاء الأعلى دون الحاجة إلى ترشيح من مجلس القضاء. نص تعديل المادة (104) على ما يلي: ” ثلاثة أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية من بين أساتذة كليات الشريعة والقانون بالجامعات اليمنية أو من علماء الشريعة الإسلام الحاصلين على إجازات علمية[11] في الفقه”، في حين كانت المادة قبل التعديل تشترط أن يكون ذلك “بناء على ترشيح مجلس القضاء الأعلى”.
نص تعديل المادة (57) أيضا، على أنه “يجوز لرئيس الجمهورية – للاعتبارات التي تدعو إليها المصلحة العامة – أن يُعين بقرار يصدر منه أعضاء في وظائف ودرجات السلطة القضائية – من خارج أعضاء السلطة القضائية خلال فترة ثلاث سنوات من تاريخ صدور القانون، يُختارون من بين أساتذة كليات الشريعة والقانون بالجامعات اليمنية أو من علماء الشريعة الإسلامية الحاصلين على إجازات علمية في الفقه، المشهود لهم بالنزاهة والكفاءة والإصلاح بين الناس، محمودي السيرة والسلوك”.
لم تكن سلطة صنعاء بحاجة لتمرير هذه التعديلات فهي عمليا تتحكم في تعيين القضاة عبر مجلس القضاء الأعلى الخاضع لها، غير أن وضع ذلك في إطار مُقنن يجعلها ممارسة أكثر فجاجة لتطبيع تدخل السلطة التنفيذية في اختيار القضاة وتعيينهم، ومحاولة لشرعنة هذا التعدي على أحد أهم ركائز القضاء – أي استقلاليته. الدافع الجليّ وراء هذا التعديل هو فتح الباب لتعيين شخصيات محددة واستيعاب خريجي المراكز الدينية التابعة للحوثيين غير الحاصلين على التأهيل القانوني المطلوب، ولا تتحقق فيهم الشروط اللازمة لتولي مناصب في السلطة القضائية.
هذا الاستحداث سيكون له بالغ الأثر على أداء وكفاءة السلطة القضائية، وسيمتد ذلك إلى تطبيق القوانين ذات الصلة، إذ تُلغي التعديلات شرط الكفاءة العلمية/ الأكاديمية والمعرفة القانونية. قبل التعديلات، اشترطت المادة (57) من قانون السلطة القضائية اليمني فيمن يتولى منصب قاضٍ “أن يكون حائزاً على شهادة المعهد العالي للقضاء بعد الشهادة الجامعية في الشريعة والقانون، أو في الحقوق من إحدى الجامعات المعترف بها في الجمهورية اليمنية”، إلا أن هذا الاستحداث الأخير شرعن لتعيين قضاة من حَمَلة الإجازات الفقهية فقط، أي أنه ألغى عمليا شرط التخرج من المعهد العالي للقضاء أو الشهادة الجامعية في القانون للالتحاق بسلك القضاء.
من الملفت حضور الصبغة المذهبية بجلاء وراء تبرير تلك الاستحداثات بدعوى توافقها مع القانون المدني المستمد من الشريعة الإسلامية، حيث نصت المذكرة الإيضاحية لمشروع تعديل القانون على أن: “كل من له أدنى فهم سيعرف أن ما نسبته ٩٠٪ من هذا القانون ـ القانون المدني اليمني – مأخوذ لفظاً ومعنى من شرح الأزهار – المرجع الفقهي للمذهب الزيدي – وخاصة في التطبيقات وبالنسبة للنظرية العامة”.[12]
تضيف المذكرة الإيضاحية أن أساتذة القانون جهلوا وحوّروا المبادئ القانونية للتوافق مع “النظام اللاتيني” الجمهوري وانفصلوا عن موروثهم الفقهي الزيدي. وفقا للمادة 57 من قانون السلطة القضائية، تتضمن الشروط الأساسية لتولي منصب قاضٍ حيازة شهادة من المعهد العالي للقضاء وشهادة جامعية في القانون ، لكن المذكرة الإيضاحية جادلت بأن هذا قد يحرم القضاء من أولئك الذين تلقوا العلوم الشرعية في النظام التعليمي التقليدي، والذين قد يكون لديهم خبرة أكبر في المجال القضائي من القضاة المدربين رسمياً.
هناك بُعد إيديولوجي لهذا الاستحداث يزدري القانون المدني بوصفه واقعاً تحت “المؤثرات الثقافية الوافدة” مقتبساً من كلام مؤسس الجماعة حسين الحوثي، [13] ويعتمد المذهب الديني الزيدي مرجعاً للقانون، متأسياً بنموذج حُكم الدولة المتوكلية – التي أطيح بها في 1962 – في فرض المذهب الزيدي على السلطة القضائية حتى في المناطق ذات الأغلبية السنية التي تتبع المذهب الشافعي – أحد المذاهب الفقهية الأربعة في الدين الإسلامي.[14]
فضلا عن ذلك، يبرز البُعد الطبقي في الاستحداث الأخير والذي يُعيد للأذهان احتكار القضاء من قبل طبقة خاصة من المجتمع. فقد أشادت المذكرة الإيضاحية للتعديلات بسياسة ”التحقق من تاريخ أسرة القاضي إلى الجد الخامس من حيث صلاحها ومكانتها”.[15] وفي سياق مماثل، استلهم الحوثيون من نموذج حكم الدولة المتوكلية في إقرار “ضريبة الخُمس” والذي يعطي الأسر الهاشمية الحق في 20٪ من الموارد الطبيعية في المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعة.[16]
بالمجمل، يٌعد هذا الاستحداث فاقد الشرعية والمشروعية لمخالفته الدستور اليمني وقانون السلطة القضائية القائم على الفصل بين السلطات، والمبادئ الأساسية بشأن استقلال القضاء، [17] وتقويضه كفاءة ومهنية السلك القضائي والقضاة بشكل عام.
هذه المقالة التحليلية جزء من سلسلة إصدارات ينتجها مركز صنعاء بتمويل من الحكومة الهولندية. تستكشف السلسلة قضايا ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وبيئية، بهدف إثراء النقاشات وصنع السياسات التي تعزز السلام المستدام في اليمن. الآراء المعرب عنها في هذا التحليل لا تعكس آراء مركز صنعاء أو الحكومة الهولندية.
- “صدور قانون بتعديل بعض مواد قانون السلطة القضائية وتعديلاته” وكالة الأنباء اليمنية سبأ ( التابعة للحوثيين)، 12 سبتمبر/أيلول 2024 https://www.saba.ye/ar/news3370948.htm
- محمد الشويطر، “أثر الحرب على منظومة العدالة في اليمن”، المجمع الدولي للمساعدة القانونية (ILAC)، نوفمبر/تشرين الأول 2022 ، https://ilacnet.org/wp-content/uploads/2022/07/Yemen-report-final.pdf
- “اليمن: محكمة يديرها الحوثيون تحكم على 30 شخصية سياسية معارضة بالإعدام في أعقاب محاكمة صورية”، منظمة العفو الدولية، ، 9 يوليو/تموز 2019: https://www.amnesty.org/ar/latest/press-release/2019/07/yemen-huthi-run-court-sentences-30-political-opposition-figures-to-death-following-sham-trial/
- “الحرب في اليمن: المجتمع الدولي يدين إعدام الحوثيين تسعة أشخاص”، بي بي سي عربي، 20 سبتمبر/ أيلول 2021، https://www.bbc.com/arabic/middleeast-58633535
- محمد الشويطر، “أثر الحرب على منظومة العدالة في اليمن”، المجمع الدولي للمساعدة القانونية (ILAC)، نوفمبر/تشرين الأول 2022 ، https://ilacnet.org/wp-content/uploads/2022/07/Yemen-report-final.pdf
- محمد الشويطر و إيميلي كوزاك، “القضاء في اليمن: الوضع الراهن والتحديات الحالية واعتبارات ما بعد الصراع” نوفمبر/تشرين الثاني 2019، https://www.deeproot.consulting/ar/publications/the-judiciary-in-yemen-the-status-quo-current-challenges-and-post-conflict-considerations
- “رئيس وأعضاء مجلس القضاء يؤدون اليمين القانونية أمام الرئيس المشاط”، وزارة العدل وحقوق الإنسان اليمنية (التابعة للحوثيين)، 17 سبتمبر/أيلول 2024، https://moj.gov.ye/NewsD/2273
- “عدد من القضاة يؤدون اليمين القانونية أمام الرئيس المشاط”، وزارة العدل وحقوق الإنسان اليمنية (التابعة للحوثيين)، 17 سبتمبر/أيلول 2024، https://moj.gov.ye/NewsD/2274
- “صدور قرار بنقل عدد من القضاة للعمل في عدد من المحاكم الاستئنافية” ، وكالة الأنباء اليمنية – سبأ (التابعة للحوثيين)، 30 سبتمبر/ أيلول 2024، https://www.saba.ye/ar/news3378344.htm
- “السلطة القضائية في البيضاء تدشن حملة إعصار اليمن” ، وكالة الأنباء اليمنية – سبأ (التابعة للحوثيين) ، 2 مارس/ آذار 2022 ، https://www.saba.ye/ar/news3177588.htm
- الإجازة هي شهادة إسلامية تقليدية غير رسمية في الدراسات الإسلامية تسمح لحاملها بتدريس أو نقل المعرفة في عدد من المواضيع ذات الصلة بالدين الإسلامي، مثل القرآن أو الحديث أو الفقه أو التخصصات الدينية الأخرى.
- المبررات والمسوغات العامة لتعديل السلطة القضائية، ف ٥، ص ٥. نسخة مصورة.
- نفس المرجع السابق.
- علي القاعدي، “القضاء في اليمن في عصر الإمامين يحيى وولده أحمد حميد الدين ونهاية الدولة العثمانية”، مجلة البحوث القانونية والاقتصادية، جامعة المنصورة، كلية الحقوق، العدد 58 162-109.
- المبررات والمسوغات العامة لتعديل السلطة القضائية، ف ٥، ص ٥. نسخة مصورة.
- “أفرض الضرائب وأحكم: الحوثيون وضريبة الخُمس، نحو مأسسة النخبة الهاشمية” ، الوحدة الاقتصادية بمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 https://sanaacenter.org/ar/publications-all/analysis-ar/11674
- “مبادئ أساسية بشأن استقلال السلطة القضائية”، مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الانسان، 6 سبتمبر/ أيلول 1985، https://www.ohchr.org/ar/instruments-mechanisms/instruments/basic-principles-independence-judiciary#:~:text=ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية,3