افتتاحية مركز صنعاء
الانفجار المدمر الذي حدث في ميناء بيروت، شرق البحر الأبيض المتوسط في أغسطس/آب، يجب أن يخلق إحساسًا بالضرورة الملحّة بين جميع الفاعلين في اليمن للتعامل مع القنبلة الموقوتة العائمة قبالة ساحل رأس عيسى بمحافظة الحديدة، ناقلة النفط العملاقة FSO Safer.
وكآلاف الأطنان من نترات الأمونيوم شديدة الانفجار التي خُزنت في أحد عنابر مرفأ بيروت لأكثر من ست سنوات ولم يتحرك أحد لنقلها على الرغم من الخطر الجسيم الذي مثلته، فإن ما يقدّر بنحو 1.15 مليون برميل من النفط الخام على متن ناقلة النفط المهجورة منذ أكثر من خمس سنوات، يهدد سواحل اليمن والبحر الأحمر.
تسربت مياه البحر إلى داخل الناقلة المتهالكة نتيجة عدم إجراء أعمال الصيانة اللازمة منذ اندلاع الحرب، واحتمال تراكم الغازات شديدة الاشتعال داخلها يُنذر بحدوث كارثة محققة في حال تسرّب وانفجر النفط.
لن تقتصر الأضرار في حال تمزّق هيكل السفينة وتسربت كميات كبيرة من النفط في البحر على التلوث البيئي فحسب، بل ستشمل آثارًا اقتصادية وإنسانية واسعة النطاق. وأول ما سيتعرض للخطر هي الشعاب المرجانية، موطن ومسكن حوالي 1,100 نوع من الأسماك، والممتدة على طول ألفي كيلومتر من سواحل البحر الأحمر.
لا يوفّر هذا النظام البيئي الغذاء وحسب، بل يُعد مصدر رزق لمئات الآلاف من اليمنيين العاملين في صيد الأسماك والأنشطة ذات الصلة. وفي حال حدث انفجار واشتعل النفط الخام فإن الرياح الغربية ستحمل الأبخرة السامة تجاه الملايين من السكان، كما قد تؤدي بقع النفط إلى إغلاق مينائي الحديدة والصليف -على طول الساحل الغربي لليمن وتحديدًا على بعد حوالي 50 كيلومترًا من حيث ترسو الناقلة -اللذان يعدان شريان حياة لملايين اليمنيين، فهما نقطة الدخول الرئيسية لمعظم واردات اليمن والمساعدات الإنسانية.
التسرب النفطي قد يصل إلى مضيق باب المندب، الممر المائي جنوب البحر الأحمر، الذي يربط التجارة بين أوروبا وبلدان المحيط الهندي، وأكثر الممرات المائية ازدحامًا في العالم، ما يعني أن آثار أي كارثة محتملة ناتجة عن FSO Safer قد تتجاوز حدود المنطقة وتحدث اضطرابات في حركة التجارة الدولية.
هذا الحجم الهائل من الخسائر والأضرار المحتملة جعل من خزان صافر رهينة قيّمة بيد جماعة الحوثيين المسلحة. أتقن الحوثيون “لعبة الرهائن” خلال الصراع الحالي، إذ تمكنوا من التضييق على وكالات الإغاثة وإسكاتهم عبر تهديدهم بمنع وصول المساعدات إلى السكان المعرضين لخطر المجاعة، بينما نهبوا مبالغ ضخمة من أموال الإغاثة واستولوا على الإمدادات الإنسانية.
تقع الناقلة FSO Safer في مرمى مدفعية الحوثيين على الشاطئ، وبالتالي يسيطرون على قدرة الوصول إلى السفينة، وبالفعل، رفضوا مرارًا وتكرارًا السماح للأمم المتحدة بإجراء تقييم فني لحالتها.
أمست قضية خزان صافر محط اهتمام ونقاش أرفع دوائر صنع السياسات في العالم، كمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، نظرًا للتهديد الخطير الذي تمثله، غير أن هذا خدم الحوثيين الذين باتوا يدركون أنه بوسعهم استخدام قضية خزان صافر كورقة مساومة للحصول على تنازلات خلال أي مفاوضات مستقبلية بشأن النزاع المسلح في البلاد.
وحتى أغسطس/آب، كانت جماعة الحوثيين قد نكثت بالتزامها في السماح للأمم المتحدة بإرسال مفتشين لتقييم الأضرار على متن السفينة. وفي مقابلة إعلامية لاحقًا، قال محمد علي الحوثي، القيادي البارز في الجماعة، إنهم منعوا مفتشي الأمم المتحدة من صعود السفينة؛ لأن الأمم المتحدة لم توافق على شروطهم التي شملت الإصرار على أن يصعد المفتشون إلى السفينة برفقة طاقم عمل مجهز بالمعدات والأدوات لإجراء أي إصلاحات على الفور. يخشى الحوثيون، في الواقع، من أن تكون نتيجة التقييم قد حُددت مسبقًا بالدعوة إلى إفراغ النفط المخزّن على متن الناقلة.
من جانبها، وافقت الأمم المتحدة على إجراء إصلاحات بسيطة وأولية ممكنة على الفور، ولكنها لم توافق على شروط الحوثيين لأن السفينة تحتاج، على الأرجح، إلى إصلاحات رئيسية يجب أن تحددها الأمم المتحدة قبل أن تطرح مناقصة للقيام بالأعمال اللازمة. كما أن تخزين النفط الخام بطريقة آمنة على متن السفينة قد يكون مستحيلًا على الأرجح بالنظر إلى عمر الناقلة نفسها -هي في الأصل ناقلة نفط أحادية الهيكل بُنيت عام 1976 وتم تعديلها وتحديثها لصالح الحكومة اليمنية التي حصلت عليها في منتصف الثمانينيات لتستخدمها كمنشأة تخزين وتفريغ عائمة، وكم من الوقت مر دون صيانتها.
إحدى نقاط الخلاف تتعلق بمصير عائدات بيع النفط بعد تفريغه. رسميًا، الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا – الخصم الرئيسي للحوثيين في الحرب الدائرة – هي من تملك المنشأة والنفط الخام المخزّن على متنها. وبحسب تقديرات مختلفة، تتراوح قيمة النفط ما بين 50 إلى 80 مليون دولار أمريكي، الأمر الذي أشعل المشاحنات بين الأطراف المتحاربة حول ما يجب فعله بالمال، وأحبطت جهود الأمم المتحدة للتوصل إلى اتفاق. لكن، من المؤكد أن الفترة الزمنية التي مرت على وجود النفط الخام على متن السفينة قد أثرت على جودته، ما يعني أن قيمته اليوم لن تبلغ سوى جزء بسيط من تلك التقديرات السابقة، لا سيما مع تراجع أسعار النفط الخام عالميًا.
ومع أن الجشع قد يكون انحسر – بناءً على هذه المعطيات – كعامل يعرقل الوصول إلى حل، إلا أن موقف الطرفين المتحاربين الرئيسيين في اليمن لم يتزعزع، فكلاهما يتصرفان وكأنهما لا يتحملان الحد الأدنى من المسؤولية لمنع الكارثة الهائلة التي قد تلحق ببلدهم والمنطقة. لخص الحوثي – في مقابلته – وجهة نظر الجماعة حول الكارثة المحتملة في البحر الأحمر وفقًا لمبدأ اللعبة الصفريّة، وقال إن آثارها “ستلحق أضرارًا بهم أكثر مما ستلحق بنا”. موقف الحكومة اليمنية ليس بمختلف، وتجاهلها لسلامة المواطنين صادم كموقف الحوثيين، وكل ما يهمها إلقاء اللوم على الحوثيين في كيفية تعاملهم مع الوضع. وبالفعل، إذ لخص مسؤول حكومي بارز، تحدث مع مركز صنعاء شريطة عدم الكشف عن اسمه، موقف الحكومة قائلًا: “إذا انفجر (الخزان)، فهذا ليس خطأنا”.
يجب على الأمم المتحدة أو الفاعلين الدوليين الآخرين الذين قد يتدخلون لمنع الكارثة توخي الحذر وعدم تشجيع مطالب الحوثيين في تقديم المزيد من التنازلات من خلال رفع الرهان. ومن شأن الرؤية المناسبة المصحوبة بالتحركات الدبلوماسية المتوازنة مع سياسة الضغط أن تخفف من التصعيد عبر السماح لأمراء الحرب في اليمن أن يستغلوا أي حل فيما يتعلق بالناقلة صافر ليقدمونه كدليل على حسن نيتهم تجاه اليمنيين، حتى لو أن دوافعهم في الواقع لا تهدف سوى لخدمة مصالحهم. والاتفاق على استخدام أي عوائد من بيع النفط للاستجابة لجائحة كورونا هي أحد الحلول الوسط والخلاقة الممكن استكشافها، ومن دون حل في الأفق، فإن كارثة بيئية كبيرة لا تحمد عقباها تهدد البحر الأحمر.
ظهرت هذه الافتتاحية في التقرير الشهري “رهينة على البحر الأحمر” تقرير اليمن، يوليو-أغسطس 2020.
افتتاحيات مركز صنعاء السابقة:
- يونيو/حزيران2020: على الرئيس هادي الرحيل
- مايو/أيار 2020: هل ينجو اليمن من فيروس كورونا؟
- ابريل / نيسان 2020: سحق الأصوات المختلفة
- مارس / آذار 2020: لإنهاء الحرب قبل تفشي جائحة كورونا
- يناير – فبراير / كانون الثاني – شباط 2020: الوكالات الإنسانية كأسرى حرب
- نوفمبر / تشرين الثاني 2019: حقل ألغام مكافحة الفساد في اليمن
- أكتوبر / تشرين الأول 2019: التوقيع على السيادة
- سبتمبر / ايلول 2019: سياسات الهاوية لكارثة صافر
- أغسطس / آب 2019: اليمن… مقبرة التحالفات
- يوليو / تموز 2019: التناحر على المهرة
- يونيو / حزيران 2019: الحرب بالريموت
- مايو / أيار 2019: الحوثيون كجماعة مظلِمة
- ابريل / نيسان 2019: صراع البرلمانات اليمنية
- مارس / آذار 2019: “عاصفة الترحيل” السعودية
- فبراير / شباط 2019: الإغاثة كاعتذار
- تقرير اليمن السنوي 2018: ما بعد الهاوية
- نوفمبر / تشرين الثاني 2018: المستفيدون من حرب اليمن هم المعرقلون المحتملون لعملية السلام
- أكتوبر / تشرين الأول 2018: الصعود السياسي والعسكري لحزب الإصلاح في تعز
- سبتمبر / ايلول 2018: مجاعة محتملة ولا بنك مركزي فعال يحمي الريال اليمني
مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية هو مركز أبحاث مستقل يسعى إلى إحداث فارق عبر الإنتاج المعرفي، مع تركيز خاص على اليمن والإقليم المجاور. تغطي إصدارات وبرامج المركز، المتوفرة باللغتين العربية والإنجليزية، التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بهدف التأثير على السياسات المحلية والإقليمية والدولية.