في ليلة يوم أحد، قبل أكثر من ثلاث سنوات، وجدت روان (15 عامًا) نفسها محشورة في دراجة نارية برفقة شقيقتها وشقيقيها بينما كان والدهم “عبد الباري يحيى فارع” يُسرع بهم بعيدًا عن القتال الدائر قرب منزلهم الواقع في محيط مطار الحديدة. اصطدمت الدراجة النارية بلغم أرضي أسفر انفجاره عن مقتل والد روان وشقيقيها، البالغين من العمر 3 و8 سنوات، على الفور. أصيبت روان بجروح طفيفة وحاولت جر شقيقتها حنان (10 أعوام) المصابة بجروح خطيرة إلى مكان آمن نسبيًا. أمضت روان الساعات الـ 12 التالية على الهاتف مع عمال الإغاثة التابعين للأمم المتحدة، الذين قدموا لها إرشادات الإسعافات الأولية حتى نفدت بطارية هاتفها. ظلت حنان تنزف الدماء، حتى تمكن المسؤولون الأمميون، في نهاية المطاف، من تأمين سيارة إسعاف لنقل الفتاتين عقب اتصالات مكثفة مع سلطات الحوثيين في صنعاء والتحالف الذي تقوده السعودية في الرياض.
توفيت حنان في المستشفى، وتعيش روان حاليًا تحت كنف جدها وجدتها. أشار عمها، الذي سرد أحداث يونيو/حزيران 2018، إلى أن الأسرة تبذل كل ما في وسعها لمساعدة روان على عيش حياتها، قائلًا: “كانت تجربة مؤلمة للغاية بالنسبة لها. فقدان المرء لوالده وجميع إخوته وأخواته دفعة واحدة وبهذه الطريقة أمر لا يمكن تحمله أو تجاوزه”.
تحوّلت خطوط المواجهة بعيدًا عن مدينة الحديدة المطلة على البحر الأحمر أواخر العام الماضي، لكن لا يزال سكان الضواحي الشرقية والجنوبية المترامية الأطراف بالمدينة محاطين بآلاف الألغام الأرضية المزروعة منذ منتصف عام 2017، والتي أسفرت عن مقتل 832 شخصًا على الأقل منذ ذلك الحين، وفقًا لمعلومات مشروع بيانات مواقع النزاع المسلح وأحداثها (ACLED). خلال معظم تلك الفترة، كان هناك طريق واحد فقط مفتوح للخروج من المدينة البالغ عدد سكانها حوالي 700,000 نسمة، لكن بعد انسحاب القوات الموالية للحكومة في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، انتشرت قوات الحوثيين وأعادت فتح الطرق في المناطق التي هُجرت إلى حد كبير بعد اندلاع الحرب. أعقب ذلك مزيد من الانفجارات المأساوية.
من ضمن الحوادث المبلّغ عنها هذا العام، تسبب لغم أرضي في مقتل شقيقين “عبده وعلي ديدو” في يناير/كانون الثاني، عقب ذهابهما لتفقد منشأة لتخزين الغاز تابعة لشركة النفط اليمنية على بُعد 10 كيلومترات شرق مدينة الحديدة، التي أُغلقت خلال اندلاع المعارك القتالية عام 2018. لدى وصولهما، داس أحد الشقيقين على لغم، ما تسبب في مقتل كليهما وإصابة عامل ثالث بجروح خطيرة. في مارس/آذار، لقي خمسة أقارب حتفهم حين اصطدمت شاحنة صغيرة كانوا يستقلونها بلغم أرضي في نفس المنطقة، وبعد أربعة أيام -أي في 20 مارس/آذار –أُصيب زوجان شابان وابنتهما البالغة من العمر 4 سنوات بجروح إثر انفجار لغم في منطقة الكداح بمديرية الخوخة. في 11 أبريل/نيسان، عاد محمد عقلان، وهو أحد أفراد شرطة المرور بالحديدة، لتفقد منزله في الضواحي الشمالية للمدينة بعد سنوات من النزوح، ليدوس على لغم تسبب في بتر ساقه وكسر الساق الأخرى التي تضررت بصورة كبيرة.
حفر وزراعة الألغام
في يونيو/ حزيران 2018، سعت قوات الحوثيين إلى تحصين مواقعها الدفاعية في الضواحي الجنوبية للحديدة إثر تقدم القوات المدعومة من التحالف بقيادة السعودية نحو المدينة لاستعادة السيطرة عليها. حينها، حزمت آلاف الأسر أمتعتها وغادرت المدينة بحثًا عن الأمان في مكان آخر. أُغلقت الشوارع مع زيادة عدد الخنادق والحواجز على جوانب الطريق؛ وعمدت الشركات إلى إغلاق أبوابها وعُلقت معظم الأنشطة الترفيهية. سعت القوات المشتركة -وهي القوات الحكومية والمقاومة المحلية والقوات المدعومة من الإمارات والسعودية -إلى استعادة السيطرة على المدينة الساحلية الرئيسية التي تعد واحدة من أكثر منافذ اليمن ازدحامًا لدخول الواردات التجارية والمساعدات الإنسانية.
بحلول الوقت الذي وصلت فيه القوات المشتركة مشارف مدينة الحديدة، كان القتال قد امتد بالفعل ليس فقط إلى منطقة التحيتا، على بعد حوالي 120 كيلومترًا جنوب مدينة الحديدة، بل إلى المديريات الجنوبية للحديدة بما في ذلك الدريهمي والخوخة وحيس. في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2018، وقعت الأطراف المتحاربة على اتفاق ستوكهولم الذي رعته الأمم المتحدة، والذي تضمن اتفاق وقف إطلاق النار في مدينة الحديدة وموانئها البحرية الثلاثة، فضلًا عن خطط لنزع السلاح في المدينة عبر إعادة تموضع وانسحاب الأطراف المتحاربة، والخطوة الأخيرة لم تتحقق بالكامل قط. في جنوب الحديدة، أجبر القتال المستمر العديد من الأسر على الفرار، وأحيانًا لعدة مرات، مع تغير مواقع خطوط المواجهة. حاليًا، ما تزال مساحات شاسعة من الأراضي مليئة بالألغام والقذائف غير المنفجرة المتروكة. تنشط فِرَق إزالة الألغام في جنوب الحديدة، حيث تقوم ببطء بتحديد مواقع الألغام المدفونة في مناطق خطوط المواجهة السابقة ونزعها وجمعها.
رغم أن الأرقام الإجمالية تظل مجهولة، سواء في محافظة الحديدة أو على المستوى الوطني، نُزع أكثر من 334,000 لغم وعبوة ناسفة في جميع أنحاء اليمن منذ منتصف 2018، وفقا لمشروع مسام، وهو مشروع لنزع الألغام ممول من السعودية. منذ ذلك الحين، أبلغ المشروع، بالتعاون مع المركز التنفيذي اليمني للأعمال المتعلقة بالألغام (YEMAC)، عن إزالة 4,960 لغمًا مضادًا للأفراد، و123,355 لغمًا مضادًا للدبابات، و7,345 عبوة ناسفة، و198,400 قطعة من الذخائر غير المنفجرة.
الألغام الأرضية خطر يهدد الأحياء السكنية
ذكر العديد من سكان مدينة الحديدة -بما في ذلك قاطنو الضواحي الشرقية والجنوبية الملغومة بكثافة حيث أُغلقت العديد من المنشآت الصناعية والمزارع المملوكة للأسر ومزارع الحيوانات أو نقلت مقارها أثناء المعارك القتالية -أن جماعة الحوثيين زرعت الألغام في أحيائهم أو بالقرب منها خلال السنوات الأخيرة. قال أحد سكان حي الربصة الواقع في الطرف الشرقي من المدينة (37 عامًا)، إنه “لا توجد علامات تحذيرية” ولم يُطلب من السكان سوى تجنب مناطق معينة.
على الطرف الجنوبي من مدينة الحديدة، لغمت قوات الحوثيين حواجز على جوانب الطرق. “هل ترى حاويات الشحن الكبيرة تلك (40 قدمًا/ 12 مترًا)؟ كانت مليئة بالرمال والألغام”، قال أحد السكان الذي طلب عدم الكشف عن هويته، خشية استهدافه. “قيل لنا ببساطة ألا نقترب من أي منها”. في الآونة الاخيرة أُزيلت عدد من الحاويات على طول الضواحي الشرقية والجنوبية للمدينة.
حتى محيط المدينة الشمالي، حيث توجد نقطة الدخول والخروج الوحيدة للمدينة، ظل يغص بالألغام تحسبًا لأي نشاط من القوات المشتركة. وُضعت أسلاك شائكة في حواجز على جانب الطريق هناك، حيث انفجرت ألغام أرضية خلفها.
خارج المدينة الساحلية، زرعت قوات الحوثيين ألغامًا أرضية في جنوب الحديدة، لا سيما في الأراضي التي سيطرت عليها بالقرب من خطوط المواجهة خارج مديرية الدريهمي مباشرة وفي عدة أجزاء من مديريات التحيتا والخوخة وحيس. أكد السكان المحليون أن القوات المشتركة الموالية للحكومة زرعت ألغامًا، معظمها في المناطق الواقعة بين مديريتي التحيتا والخوخة. ومع ذلك، فإن الأعداد الهائلة من الألغام التي زرعتها قوات الحوثيين في المحافظة تثير تساؤلات ملحة حول مصدرها. في سبتمبر/أيلول 2018، أفاد تقرير صادر عن مؤسسة “كار” لأبحاث التسلح في النزاعات أن الحوثيين صنعوا “الغالبية العظمى” من الألغام الأرضية المزروعة في جنوب الحديدة محليًا، كما أنهم صادروا ألغامًا مضادة للدبابات وأدخلوا تعديلات عليها لتنفجر بمجرد تعرضها لقوة ضغط لا تتجاوز 10 كيلوغرامات فقط بدلًا من 100 كيلوغرام. حساسية هذه الألغام يعني إمكانية تفجرها بمجرد تعرضها لوزن طفل صغير.
حركة المدنيين في المناطق الملغومة
من يناير/كانون الثاني 2021 وحتى أوائل أبريل/نيسان 2022، تسببت الألغام الأرضية التي زرعتها قوات الحوثيين -إلى جانب الذخائر غير المنفجرة -بمقتل أو إصابة 363 مدنيًا في عدد من المحافظات، وفقًا للمرصد اليمني للألغام المعني بجمع معلومات عن ضحايا الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة في البلاد. وقعت معظم هذه الحوادث، التي قال المرصد إنها حصدت أرواح 176 شخصًا وتسببت في إصابة 187 آخرين معظمهم من الأطفال، في المديريات الساحلية الجنوبية من الحديدة. شملت مجموعة الحوادث التي وقعت في الفترة من سبتمبر/ أيلول إلى أكتوبر/ تشرين الأول 2021 ما يلي:
- في منتصف سبتمبر/أيلول، انفجرت حافلة صغيرة تقل 15 شخصًا، بينهم 11 طفلًا، معظمهم ينتمون لأسرة واحدة من مديرية الخوخة. أُصيب جميع من كانوا على متنها، أغلبهم بجروح خطيرة.
- في مطلع أكتوبر/تشرين الأول، داست امرأة حامل على لغم زرعه الحوثيون في الضواحي الشرقية لمدينة الحديدة، بالقرب من مطاحن البحر الأحمر. فقدت الفتاة البالغة من العمر 35 عامًا طفلها وساقيها.
- في وقت لاحق من أكتوبر/تشرين الأول، أُصيب أحد أعضاء فريق إزالة الألغام بجروح خطيرة أثناء نزع الألغام الأرضية في المنطقة نفسها، حيث فقد إحدى ساقيه.
- بعد أسبوع واحد في الدريهمي، اصطدمت دراجة نارية تقل طفلين يبلغان من العمر 12 و17 عامًا، ورجل يبلغ من العمر 60 عامًا، بلغم أسفر عن مقتل الثلاثة. وقال أحد أقارب الضحية البالغ من العمر 12 عامًا، حمود جابر عياش، إن خيارات السكان باتت تقتصر على الموت بسبب الألغام الأرضية أو النزوح، مضيفًا أن “العيش كنازح بالقرب من المناطق التي تغص بالألغام هو حكم بالإعدام في حد ذاته”.
مهّد الانسحاب غير المتوقع للقوات المشتركة من محيط مدينة الحديدة، في 12 نوفمبر/تشرين الثاني، الطريق أمام الحوثيين لاجتياح هذه المناطق. كما أدى إلى موجة نزوح جديدة، مع السماح للسكان المحليين بالتنقل بحرية أكبر في معظم أنحاء محافظة الحديدة. فتحت قوات الحوثيين جميع الطرق المؤدية إلى مدينة الحديدة، بما فيها الموجودة في المناطق التي تغص بالألغام في محيط المدينة الشرقي والجنوبي. ورغم الجهود الجارية لنزعها، تقبع آلاف الألغام في باطن الأرض.
تظل مديرية الدريهمي، الواقعة على بعد 23 كيلومترًا جنوب الحديدة، والتي كانت مركز المعارك في المحافظة، معزولة إلى حد كبير، حيث لم يُسمح سوى لعدد قليل من الأسر بتفقد منازلهم سريعًا. ذكر بعض سكان الدريهمي، ممن نزحوا إلى المناطق المجاورة، بأن الألغام الأرضية لا تزال منتشرة في المنطقة.
جاء على لسان أحدهم: “سُمح لي بتفقد منزلي بعد تحدثي مع عدد من المشرفين الميدانيين التابعين للحوثيين. بمجرد فتحي إحدى الغرف، رأيت أنها مكدسة بالألغام الأرضية. أغلقت الباب فحسب وغادرت المكان”.