إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

تشكُّل ملامح الدولة البوليسية: جماعة الحوثيين تثقل قبضتها مع استمرار هجماتها في البحر الأحمر

Read this in English

بينما يتطلع العالم نحو التطورات في البحر الأحمر وتأثير هجمات جماعة الحوثيين على الاقتصاد العالمي ومسار عملية السلام في اليمن، ومخاطر مزيد من التصعيد، لا يجب غض الطرف عن الارتدادات الواسعة لهذه التطورات على الداخل اليمني. فقد أدى انخراط الحوثيين في حرب غزة إلى تحولات جوهرية في مسار الأحداث، في إطار مساعي الجماعة لاستثمار هذه الفرصة لأقصى قدر ممكن.

لا يُمكن التشكيك بالتعاطف الشديد الذي يُكنّه اليمنيون – بمختلف انقساماتهم – مع القضية الفلسطينية ودعمهم لها بشكل مطلق، وهو ما سهّل للحوثيين قرار الانخراط في حرب غزة الجارية، بل واستغلالها كفرصة لتعزيز سلطتهم في الداخل. فقد تزامن اندلاع حرب غزة مع ظروف حرجة وسخط شعبي متنامٍ يواجه الحوثيين على الصعيد الداخلي نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية وعدم دفع مرتبات موظفي القطاع العام. ومع وقف الأعمال العدائية ورفع القيود عن مطار صنعاء وميناء الحديدة في أعقاب إبرام الهدنة في أبريل/ نيسان 2022، لم يعد لدى الحوثيين عذراً يبرر تدهور الأوضاع المعيشية وسياستهم الجائرة في جمع الضرائب والجبايات، خاصة مع ظهور معالم الثراء على بعض قيادات الجماعة.

من اللافت أن أكثر لحظة بدت مثيرة للتوتر لدى الحوثيين هي الاحتفالات الشعبية العفوية والواسعة بذكرى ثورة 26 سبتمبر (1962) والتي يراها اليمنيون كالنقيض السياسي للانقلاب الحوثي على السلطة الشرعية في سبتمبر/ أيلول 2014، وبمثابة تحدٍ صامت للجماعة وأيديولوجيتها. وعلى ضوء ذلك، شهدت شوارع صنعاء مئات الاعتقالات رغم أن المسألة لم تتعدَ الاحتفال. لكن هذا كله تغير في أقل من أسبوعين إثر عودة القضية الفلسطينية لواجهة الأحداث في المنطقة وتصدّرها العناوين.

جاءت حرب غزة ووحشية العدوان الإسرائيلي لتشتت الانتباه، وسرعان ما أثار تدخل الحوثيين – عبر هجمات صاروخية ضد اسرائيل واستهدافهم السفن في البحر الأحمر – إعجاب بعض من خصومهم وساهم في إضفاء شرعية جديدة على سلطتهم. هذا التصعيد الجديد، هذه المرة بدعوى مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة، كان بمثابة كابح لتفجّر الغضب الشعبي ضد سياسات الجماعة.

ساهم التعاطف الشعبي الواسع مع فلسطين، والغضب من القتل والدمار الواسع في غزة ومن الغارات الأمريكية – البريطانية في اليمن، في تزايد معدلات التجنيد وبدء حملات تعبئة واسعة في مناطق سيطرة الحوثيين، شملت دورات عسكرية وثقافية إجبارية تستمر لعدة أيام وتستهدف كل شرائح المجتمع اليمني من رجال وأطفال ومراهقين بما فيهم أكاديميين وقضاة.

يحرص زعيم الجماعة، عبدالملك الحوثي، حالياً على الظهور بشكل دائم على القناة الرسمية للجماعة لإلقاء خطاب مساء كل خميس (أي ليلة كل جمعة) عن انخراطهم في حرب غزة، وقد تتزامن مع خطابات أخرى له في حال صادف وجود مناسبة ضمن مناسبات الحوثيين العديدة كذكرى بعض الشهداء من شخصيات لها رمزيتها مثل حسين الحوثي وصالح الصماد وغيرهما.

إحدى الأمور اللافتة في خطابات عبدالملك الحوثي (منذ أول خطاب ألقاه في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول عقب عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة حماس ضد مستوطنات إسرائيلية) هو تأكيده المستمر بأن الجماعة تنسق مع محور المقاومة للرد بشكل متناسب على العدوان الإسرائيلي ضد أبناء غزة. بدا من الواضح أيضاً أنه يتابع شخصياً وباهتمام جهود التعبئة، ويتّهم بشكل مستمر منتقدي الجماعة بالنفاق وموالاة الكفار واسرائيل. كما من الُملاحظ أن خطابات الحوثي في هذه الحرب أصبحت أكثر دينية شيئاً فشيئاً، مقارنة بالخطاب القومي/ الوطني الذي كان يعتمده خلال الحرب مع التحالف بقيادة السعودية حيث كان حريصا وقتها على تفادي إثارة الحساسيات المذهبية.

بشكل عام، صبّت هذه الحرب في صالح الحوثيين لثلاثة أسباب أساسية: أولاً، ساعدت الجماعة على تحقيق طموحها الذي طالما امتلكته بتعزيز مكانتها إقليمياً، وأكسبتها شعبية واسعة وغير عادية خارج اليمن بسبب الغضب الشعبي المتصاعد في المنطقة وغيرها من أرجاء العالم جرّاء التصفية العرقية التي يتعرض لها الفلسطينيون. ساهمت الهجمات على ممرات الملاحة في البحر الأحمر في تقديم الحوثيين كفاعل إقليمي ودولي لا يستهان به، وبالتالي لن تتراجع الجماعة بعد هذا.

ثانياً: يستثمر الحوثيون هذه الحرب من أجل إضفاء شرعية على سلطتهم وترسيخ تصوّرهم السياسي للحُكم المُتمحور حول قيادة عبدالملك الحوثي كمرجعية سياسية ودينية مُطلقة. فالحوثي صعد للسلطة لأول مرة بقوة السلاح، لكن شرعية الجماعة ظلت مهزوزة وحاولت ترقيعها بالحديث عن الشراكة في السلطة (حتى إن لم يكن لديها نية للانخراط فعلياً في ذلك). اندلعت الحرب مع التحالف بقيادة السعودية لتوفر للحوثيين أول غطاء لتعزيز سلطتهم والتملص تدريجيا من تحالفهم مع الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح والذي انتهى بمقتله في ديسمبر/ كانون الأول 2017. على إثر ذلك، ومع غياب أية منافسة أو تحدٍ حقيقي في مواجهتهم بمرور الوقت، بدأت ثقة الحوثيين بأنفسهم تتصاعد وبدأوا يطبقون تصوراتهم السياسية من خلال سن قوانين جديدة وتغيير المناهج التعليمية.

ظلت قيادات الحوثيين تلوك مطلب الشراكة في السلطة أمام الإعلام الدولي لنفي اتهامات خصومهم بأن الجماعة تعتنق نهج سلطوي ولا تنوي الشراكة حقاً. ولهذا، تضمنت خارطة الطريق التي وضعتها السعودية – وأُعلن عنها قبل اندلاع حرب غزة بأسابيع – بندا ينص على التعهد بالانخراط في حوار يمني – يمني حول مستقبل الحُكم في البلاد.

إلاّ أن الحرب الحالية في غزة منحت الحوثيين ثقة بالنفس وشعورا بالنشوة لدرجة تجرؤهم على المجاهرة علانية بأن زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي يجب أن يتربع على رأس الدولة في أي نظام سياسي مستقبلا، كسُلطة مطلقة غير قابلة للمعارضة والنقاش. لطالما وُجد هذا التصور في أدبيات الجماعة وتُطبقه بالفعل على أرض الواقع، لكن لم يكن يُجاهر به في خطابها الموجه إلى الجمهور الغربي إلاّ مؤخراً عبر تصريحات عبدالملك العجري لمجلة أتلانتك الأمريكية.

ثالثاً وأخيراً: يستخدم الحوثيون الحرب ذريعة لتصعيد قمعهم ودحر كل أشكال المعارضة، بما في ذلك المعارضة الصامتة من أولئك الذين لا يُعبّرون عن ولائهم للجماعة. بدأت أولى مؤشرات هذا القمع باعتقال ومن ثمّ إخفاء القاضي عبدالوهاب قطران في 2 يناير/ كانون الثاني، جراء انتقاده لهجمات الحوثيين على البحر الأحمر، بالقول إن الأولى الاهتمام بالشؤون الداخلية في بلد يعاني من مجاعة. يُعتبر القاضي قطران أول شخصية معروفة تتم معاقبتها وسجنها بعد هجمات البحر الأحمر ويطبق عليها قانون “حظر وتجريم الاعتراف بكيان العدو الصهيوني والتطبيع معه”، الذي صدر في 5 ديسمبر/ كانون الأول 2023. ويُعد هذا القانون التجلي الأكبر لكيفية استثمار الحوثيين حرب غزة كوسيلة فعالة لإحكام سيطرتهم وتشديد قبضتهم الأمنية.

خلال سنوات الحرب في اليمن (الممتدة لقرابة عقد من الزمن)، قامت سلطة الحوثيين بمحاكمة مئات من معارضيها عبر النيابة العامة والمحكمة الجزائية الابتدائية المتخصصة، بتُهم عدة تندرج تحت الجرائم المتعلقة بأمن الدولة مثل المساس باستقلال ووحدة الدولة أو التخابر لصالح دول أجنبية… إلخ. معظم هذه التُهم مرجعها قانون الجرائم والعقوبات اليمني الذي يُطبق عقوبة الإعدام في حال ثبوت التُهم على المدعى عليه، وقد يحكم أيضاً بعقوبة تكميلية بمصادرة ممتلكات المتهم. إلا أن الحوثيين تمادوا في استخدام هذا القانون – خاصة بند مصادرة الممتلكات الذي يفترض أن يُطبق في “أضيق الحدود” بموجب نص القانون المشار إليه، ففي عام 2017 مثلاً، أصدرت النيابة الجزائية المتخصصة قراراً قضى بمصادرة ممتلكات 3700 شخص ممن وُصفوا بـ خونة ومرتزقة ومعظمهم مقيمون خارج اليمن.

رغم الاستخدام المكثف والجائر لهذا القانون والاستعانة بـ قضاة فاسدين في منظومة غارقة بالفساد، إلا أن بعض بنود قانون العقوبات ظلت عقبة مزعجة للحوثيين، حتى اندلعت حرب غزة التي وفرت للجماعة فرصة ذهبية لاستصدار قانون جديد تحت مسمى “حظر وتجريم الاعتراف بكيان العدو الصهيوني والتطبيع معه”. تكمن إشكالية هذا القانون في نصوصه العامة والتي قد تُطبق على الجميع وبشكل عشوائي، حيث يُجرّم أية علاقات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل أو مع دول لها علاقات (سرية أو علنية) مع تل أبيب، وكذلك أي تصريحات أو تلميحات تؤيد إسرائيل. في بنود أخرى من هذا القانون، يُحظر التواصل بأي وسيلة مع إسرائيل من خلال جهة رسمية تتبعها أو أفراد أو إنشاء علاقات تجارية مع هكذا جهات. كما نص القانون على تجريم ” استخدام الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الالكتروني بالتعامل أو التعاقد مع المواقع أو الخدمات الالكترونية المنشأة في كيان العدو الصهيوني التابعة لها أو الشركات المتواطئة والداعمة للاحتلال … إلخ”.

كما أن نطاق تطبيق هذا القانون منصوص بشكل واضح، حيث يُطبّق على اليمنيين بالداخل والخارج وكذلك على الأجانب المقيمين باليمن، وبنوده قد تشمل أي شخص دون استثناء. بل إن القانون لا يتطلب دليلاً لإدانة الشخص، فقط قرينة.

وحشية القانون لا تكمُن فقط في حقيقة أنه عريضة اتهام مفتوحة بالمُطلق وقد تطال أي شخص، بل أيضاً في قسوة عقوباته، حيث تنص بنوده على تشديدها في ظرف الحرب. وما يزيد من القلق والمخاوف أن القانون لا يتضمن بند عفو أو تخفيف العقوبة، وتتراوح عقوباته بين السجن ودفع الغرامات ومصادرة الممتلكات، ويُهدد بوقف نشاط أي شركة أو مؤسسة أو منظمة أو غيرها من كيانات اعتبارية في حال ثبتت إدانتهم.

تزامناً مع سنّ هذا القانون الجديد، أصبحت جماعة الحوثيين أكثر قمعية وبشكل علني، ولعل أبرز وأوضح مثال على هذا التوجّه هو حادث تفجير منزل أحد معارضي الجماعة مؤخراً في مدينة رداع بمحافظة البيضاء، والذي أدى إلى مقتل 13 شخصاً على الأقل وتدمير عدة منازل مجاورة.

تعتمد جماعة الحوثيين بشكل كبير على تدخلها في حرب غزة لتعزيز سلطتها بنجاعة أكبر من حربهم السابقة مع التحالف بقيادة السعودية، إلاّ أن الغطاء السياسي الذي توفره أزمة الحرب في غزة لن يكون كافياً لصرف الانتباه عن الأزمة الاقتصادية الحادة في مناطق سيطرة الجماعة والقمع المُمارس لإثقال قبضتها.

مشاركة