تغلغل الخوف وحالة عدم اليقين مع تنامي التصعيد في البحر الأحمر
انقلب المشهد السياسي في اليمن رأسا على عقب على ضوء تداعيات هجمات الحوثيين على حركة الملاحة وسفن الشحن، وتداعيات الحرب الجارية في غزة على الوضع المحلي والإقليمي. جُمّدت محادثات السلام بين المملكة العربية السعودية وجماعة الحوثيين (أنصار الله) إلى أجل غير مسمى، ولا يتضح بَعد مستقبل الصفقة التي كانت وشيكة بين الطرفين. واصل الحوثيون استهداف السفن العابرة في البحر الأحمر رُغم مُضيّ أكثر من شهرين على بدء الغارات الجوية الأمريكية -البريطانية، الأمر الذي عزّز حالة عدم اليقين بشأن مآل الصراع. نَسَجَ الحوثيون حملة دعائية لعملياتهم في البحر الأحمر بهدف كسب التأييد وإثقال قبضتهم على السلطة محلياً، في وقت تفتقر فيه الحكومة المعترف بها دوليا والمنقسمة على ذاتها إلى القدرة على التصدي للجماعة. لا تتضح بَعد استراتيجية العالم الغربي للتعامل مع هذه التطورات في ظل محدودية الخيارات، ومع توقف المسار التفاوضي للملف اليمني، يواجه البلد الآن مستقبلاً قاتماً في ظل المصاعب الاقتصادية والانهيار المؤسسي وإمكانية العودة إلى صراع أوسع نطاقاً.
الحوثيون يستغلون هجماتهم في البحر الأحمر لقمع المعارضة وترسيخ سلطتهم محلياً
أثارت تدخلات الحوثيين في البحر الأحمر والردّ الغربي مخاوف من تجدّد العنف المدمر وحالة انعدام الاستقرار السياسي في اليمن. شهدت الجبهات على المستوى المحلي هدوءًا نسبياً منذ فشل الهجوم العسكري الواسع الذي شنه الحوثيون في شتاء 2021-2022، للسيطرة على مأرب الغنية بالنفط. استمر الوضع على ما هو عليه بعد ابرام الهدنة برعاية الأمم المتحدة في أبريل/نيسان 2022، والتي صمدت بشكل غير رسمي رغم فشل جهود تجديدها في وقت لاحق من ذلك العام. أتاحت حالة الاستقرار النسبي هذه مُتنفساً، لا سيما في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، حيث أدت محادثات السلام بين الجماعة والسعودية إلى تخفيف القيود المفروضة على حركة التجارة والتنقل. استفاد الحوثيون من تلك المحادثات ومن تفوقهم العسكري لشن حرب اقتصادية ضد الحكومة المعترف بها دوليا، وفرض حصار فعلي على مصادر إيراداتها كوقف صادرات النفط والغاز، إلى جانب إعادة توجيه سفن البضائع الى الموانئ الخاضعة لسيطرتها للاستحواذ على العائدات الجمركية. لكن مع تدهور الوضع الاقتصادي نتيجة سنوات من الصراع وانخفاض غنائم مقاتلي وأتباع الجماعة في أعقاب الهدنة، بدأت حالة من السخط والاستياء الشعبي تنمو في مناطق سيطرة الحوثيين في ظل عدم دفع رواتب موظفي القطاع العام ووجود متأخرات مستحقة لرواتب أكثر من خمس سنوات، لا سيما أن عدد سكان تلك المناطق المعارضين لهم يفوق عدد مواليهم بكثير. في أغسطس/ آب العام الماضي، دعت نقابة المعلمين اليمنيين إلى إضراب عام، وفي أواخر سبتمبر/أيلول خرج أفراد من الشعب في احتفالات علنية بمناسبة ذكرى الثورة الجمهورية التي يُنظر إليها كتحدٍ لحُكم الحوثيين ونقيض لانقلابهم. لم يسبق مطلقاً أن واجهت الجماعة تحدٍّ بهذه الجدية وهو ما دفع سلطات الحوثيين إلى شنّ حملة قمع، إلاّ أن عدم قيامها بدفع المرتبات يظل نقطة ضعف أساسية لها وهو ما يُفسر طرحها هذه المسألة كأحد المطالب الجوهرية في المحادثات مع السعودية.
ومن ثمّ جاءت التطورات الإقليمية بمثابة ورقة يانصيب رابحة بيد الحوثيين سارعوا في استغلالها. فقد اجتاحت إسرائيل قطاع غزة بعد العملية الدموية التي نفذتها حركة حماس ضد مستوطنات إسرائيلية في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. ردّا على التوغل الإسرائيلي، بدأت قوات الحوثيين باستهداف حركة الملاحة والسفن التجارية العابرة في البحر الأحمر، إلى جانب شن هجمات بالصواريخ والطائرات المسيرة كَشكل من أشكال فرض حصار اقتصادي على إسرائيل تضامنا مع سكان غزة المحاصرين. صعّد الحوثيون هجماتهم على نحو ملحوظ مع استيلائهم على سفينة الشحن “غالاكسي ليدر” في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني، واستمر التصعيد بشكل مطرد وجدّي ضد أهداف في البحر الأحمر وخليج عدن (انظر قسم التطورات العسكرية والأمنية). استغل الحوثيون القضية الفلسطينية التي تضرب وتراً حساساً في اليمن والعالم العربي، خصوصاً أن التوجّه المعادي لإسرائيل والولايات المتحدة كان جزءا محورياً من الشعار الرسمي الذي تبنته جماعة الحوثيين منذ تأسيسها، واعتمدته قبل وقت طويل من امتلاكها الوسائل والأسلحة لشنّ هجوم على أهداف إسرائيلية أو أمريكية. وعلى هذا الأساس، استغلت الجماعة الفظائع والانتهاكات الحاصلة في غزة لتُصوّر نفسها كعضو نشط في “محور المقاومة” الذي تقوده إيران. ورغم أن عموم مناطق اليمن شهدت مظاهرات تضامنية مع الفلسطينيين، فقد قام الحوثيون بمأسستها وتحويلها إلى مسيرات أسبوعية ضخمة في محاولة لاستغلال الحرب في غزة وهجماتهم في البحر الأحمر لتشتيت انتباه سكان المناطق الخاضعة لسيطرتهم وتهدئة حالة السخط وعدم الرضا إزاء الوضع المحلي.
في الوقت الحالي، يعمل الحوثيون على إخماد حالة الغضب والاستياء من الوضع الاقتصادي المتردّي محلياً عبر تعزيز جهود التعبئة العامة لدعم فلسطين بين جميع شرائح المجتمع وبشكل غير مسبوق يكاد يبلغ حد الاستبداد. يبدو أن هذا ساعد على إضفاء درجة من الشرعية لسلطة الجماعة، في ظل تجنيد أعداد كبيرة من المقاتلين الجُدد، ويخدم كمبرر لممارسة موجة جديدة من القمع والاستبداد. فقد أصبح بإمكان الجماعة الآن اتهام منتقديها ومعارضيها بالتواطؤ مع إسرائيل والغرب، وهو اتهام كفيل بسجنهم ومصادرة ممتلكاتهم وأصولهم. يطال هذا حتى النساء، حيث صدر حُكم بالإعدام على الناشطة الحقوقية فاطمة العرولي في ديسمبر/كانون الأول 2023، بعد إدانتها بتُهم غامضة شملت التجسس والتخابر لصالح أطراف معادية. لطالما تعوّدت جماعة الحوثيين على الإفلات من العقاب رغم الاعتقالات التعسفية وحالات الاختفاء القسري والتعذيب والإعدام خارج نطاق القضاء، إلاّ أن إقرار مثل هذه الممارسات بموجب القانون يُمثل تطوراً مثيراً للقلق.
لا يتضح بّعد إلى متى قد يستمر هذا الوضع، حيث مضت ستة أشهر على الحرب في غزة – وهي فترة أطول مما توقع العديد من المراقبين – وسط تقاعس المجتمع الدولي عن إنهائها. ومع استمرار الحرب، سيستغلّ الحوثيون سردية المقاومة لتشتيت الانتباه الشعبي وتوجيه الغضب نحو إسرائيل والغرب، مما يسمح لهم بالتحايل على التساؤلات المثارة عن سوء الإدارة الاقتصادية وترسيخ حكمهم الاستبدادي وأيديولوجيتهم. بيد أن هذا لن يستمر طويلاً حيث إن تجاهل الوضع الاقتصادي المتردي لن يخدم أجندة الحوثيين على المدى الطويل، لا سيما وأن الجماعة تواصل تمويل عملياتها من خلال التحكّم بالمصالح التجارية، والاستيلاء على الأصول العامة، وتحصيل الضرائب والجبايات غير القانونية، وهي ممارسات تهدد بتجدّد حالة الاستياء والسخط الشعبي. سيواجه الحوثيون تحديات في تخفيف هذه الضغوط خاصة وأن الهجمات على سفن الشحن ضاعفت من تكلفة الواردات، ومع تغيير بعض السفن مسارها بعيدا عن موانئ الحديدة، قد لا تعود الجماعة قادرة على جمع نفس حجم الإيرادات الجمركية التي استطاعت تأمينها منذ رفع القيود عن تلك الموانئ. فضلا عن ذلك، يُلقي التصعيد المتزايد بين فرعي البنك المركزي اليمني في صنعاء وعدن، وتداعيات إعادة إدراج الحوثيين في قائمة الكيانات الإرهابية العالمية، بظلاله على التحويلات المالية والتدفقات النقدية إلى داخل مناطق سيطرتهم. ومع توقف المحادثات السعودية – الحوثية، أصبحت البنود التي كانت تَعِد بتخفيف وطأة الوضع المتدهور بعيدة المنال الآن.
حسبما يظهر، لا يزال الحوثيون يميلون حتى الآن إلى قبول المبادرة السعودية وإبرام اتفاق يُسهّل على الرياض إغلاق ملف حربها في اليمن مقابل الحصول على الأموال التي تشتد حاجة الجماعة إليها. تظهر بوادر ذلك في التصريحات الإيجابية التي أدلت بها قيادات حوثية بشأن إعادة فتح الطرق والاستئناف المحتمل لصادرات النفط والغاز. إلاّ أن الحوثيين أكثر جرأة اليوم بسبب نجاحاتهم المستمرة على الميدان، وهو ما قد يدفعهم إلى استغلال قدراتهم العسكرية مجدداً – في أي مرحلة حتى بعد التوصل إلى اتفاق – إما لانتزاع المزيد من التنازلات أو لتحقيق مكاسب في ساحة المعركة. في الأشهر القليلة الماضية، أرسلت الجماعة تعزيزات عسكرية إلى جبهات متعددة، ومع تجنيدهم أفواج من المقاتلين الجُدد ودرجة الشرعية التي اكتسبوها مؤخراً على الصعيد الإقليمي والدولي، بات بإمكانهم شن هجوم جديد على مأرب والسعي للسيطرة على حقولها ومصافيها النفطية التي ستؤمن لهم مصدر إيرادات هم بأمس الحاجة إليه. وحتى في حال بدء محادثات مع الحكومة، سيٌمسك الحوثيون باللجام مع تعزّز موقفهم وشرعيتهم بفضل عملياتهم في البحر الأحمر.
خيارات محدودة بالنسبة للقوى الغربية
سرعان ما استقطبت هجمات الحوثيين على سفن الشحن انتباهاً دولياً، وأظهرت ضُعف أمن حركة الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب. فبعد سلسلة من الإدانات والتحذيرات العلنية ، و قرار أممي يطالب الحوثيين بوقف فوري لهجماتهم، والإعلان عن تشكيل قوة دفاعية متعددة الجنسيات لحماية الملاحة التجارية في البحر الأحمر، جاء ردّ الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على استفزاز الحوثيين في 12 يناير / كانون الثاني، عبر شنّ سلسلة من الغارات الجوية طالت منشآت عسكرية ومواقع منصات إطلاق الصواريخ. فيما مضى، قدمت الولايات المتحدة دعما لوجستيا واستخباراتيا للتحالف الذي قادته السعودية ضد الحوثيين في فترة اندلاع الحرب في اليمن عام 2015م، إلاّ أن ذلك الدعم تقلّص بعد تنامي الانتقادات إزاء الحصيلة الكبيرة للقتلى المدنيين واغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في عام 2018. مع تولي منصبه كرئيس، عَمَد بايدن إلى اختزال دور الولايات المتحدة في مهام دفاعية، وألغى تصنيف إدارة سلفه ترامب للحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية، إلاّ أن الولايات المتحدة أصبحت اليوم طرفا في الصراع نتيجة شنها غارات مستمرة وإعادتها إدراج الجماعة في قائمة الكيانات الإرهابية العالمية (وهو القرار الذي دخل حيز التنفيذ في 16 فبراير/شباط).
قرار إعادة الانخراط في عمل عسكري مباشر ضد الحوثيين له تداعيات سياسية وخيمة ، فالمشكلة الأكبر تتمثل في عدم نجاح الضربات في إحجام الحوثيين عن استهداف سفن الشحن، برُغم التنسيق مع القوى البحرية الدفاعية الأمريكية والاوروبية والجهود المبذولة لاعتراض شحنات الأسلحة الإيرانية المتجهة إلى الحوثيين. وبصرف النظر عن التهدئة المؤقتة في شهر فبراير/ شباط، والتي تزامنت مع أنباء عن تراجع إمدادات الأسلحة، استمرت هجمات الحوثيين بلا هوادة. شهد أواخر مارس/ آذار تهدئة مؤقتة مماثلة، لكن لا يتّضح بعد ما إذا كان ذلك بسبب نجاعة الغارات الجوية أو نتيجة تنامي الحذر عقب دخول سفن بحرية روسية إلى المنطقة والهجوم العرضي – على ما يبدو – على ناقلة نفط صينية. بحسب الأنباء، حرصت الولايات المتحدة على أن تقتصر الضربات الجوية على مواقع إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة والمنشآت العسكرية التابعة للجماعة، إلا أن الحوثيين معتادون على الغارات الجوية ومعظم ترسانة أسلحتهم متنقلة، وبالتالي، لم تفلح تلك الغارات – الهادفة لإلحاق أضرار مباشرة أو استنفاد مخزونات الأسلحة – في القضاء على قدرات الجماعة العملياتية، ولا يحتاج الحوثيون إلى الهجوم على أهداف دقيقة لزرع الفوضى وبث المخاوف لدى سفن الشحن العابرة في البحر الأحمر. فحتى لو تدهور الوضع بالنسبة لها، تحتفظ الجماعة بقدرة رَدْع بعض الشيء.
كان لهجمات الحوثيين تداعيات مادية محدودة على إسرائيل، كون الدولة تعتمد في الغالب على التجارة عبر البحر الأبيض المتوسط، ولذا كانت محاولات استهداف ميناء إيلات على البحر الأحمر غير فعالة. صحيح أن المدينة تضررت اقتصاديا من هذا الوضع، إلا أن حالها كان حال جميع الموانئ الإقليمية تقريبا، بما في ذلك موانئ البلدان الفقيرة في القرن الأفريقي. من المُرجح أن تكون مصر أكثر الاقتصادات تضررا بسبب خسارة قناة السويس لعائدات كبيرة، إلى جانب اليمن الذي أصبح – وبشكل مأساوي – مُهدّدا بسبب تأثر حركة التجارة وتدفق الإغاثة الإنسانية. ورُغم زعم الحوثيين أنهم يستهدفون فقط السفن المرتبطة بالولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإسرائيل، أو تلك المتجهة الى الموانئ الإسرائيلية، قاموا بضرب عدد من السفن التي ليس لها صلة واضحة بتلك الدول. حتى الصفقة التي أشارت أنباء إلى التوصل إليها بعدم استهداف السفن الروسية والصينية، ما لبث أن أعقبها هجوم على ناقلة صينية.
ولعلّ النطاق المحدود لعمليات الحوثيين هو ما دفع الولايات المتحدة للإحجام عن استهداف قيادة الجماعة أو وزارة الدفاع التابعة لسلطتها أو قواتها على الجبهات، كون ذلك سيؤدي إلى مزيد من حالة انعدام الاستقرار في اليمن – فمن غير الواضح ما الذي سيحدث إذا تم اغتيال أعضاء من قيادة الجماعة، أو فجأة تم تقويض سلطة الجماعة المُحكَمَة في الشمال. فَسلطة الجماعة تقوم على هيكل تراتبي شديد المركزية، وهو ما قد يُخفف من تداعيات خسارة بعض من كبار قياداتها. في الوقت الحالي، لم تحقق الغارات الأمريكية -البريطانية إنجازاً يُذكر باستثناء اتاحة فرصة للحوثيين لإظهار تحدّيهم للقوى الغربية ولإسرائيل و تَزخيم خطابهم الدعائي من أجل إحكام قبضتهم على السلطة. في المقابل، لم تنجح هجمات الحوثيين باستهداف السفن الحربية الأمريكية، ولكن مجرد قدرة الجماعة على الصمود في وجه الغارات الامريكية – البريطانية تحت هذه الظروف هو انتصار سُوِّقَ له بشكل مقنع.
ساهمت النبرة الخطابية المعتمدة من قبل واشنطن ولندن في تعزيز الدعاية الحوثية، حيث سعت العاصمتان إلى الفصل بين هجمات الحوثيين والسبب المُعلن لشن تلك الهجمات (أي الاجتياح الإسرائيلي لغزّة)، وصورتا غاراتهما الجوية على أنها عملية لمكافحة الإرهاب الذي ترعاه إيران ولحماية التجارة الدولية. إلاّ أن الرأي في هذا يعود نهاية المطاف إلى قناعة مراقبي التطورات – فَسواء بدأت هذه الهجمات بسبب العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة أو نجحت في فرض ضغوط على الاقتصاد الإسرائيلي من عدمه، حظيت جرأة الحوثيين بشعبية كبيرة على مستوى اليمن والمنطقة لا سيما في ظل تراخي الغرب وافتقاره الشجاعة الأخلاقية للتنديد بالانتهاكات الحاصلة في غزة. قدمت الولايات المتحدة الدعم العسكري والغطاء السياسي للاجتياح الإسرائيلي منذ البداية، وبالتالي فقدت أسباب ردها العسكري في اليمن المصداقية بسبب عدم اكتراثها الواضح بالانتهاكات الصارخة للقانون الدولي والعدد الهائل من الضحايا المدنيين في غزة. يزداد موقف الولايات المتحدة سوءًا مع إعلان الكونغرس عن مشروع قانون يحظر أي دعم مالي مباشر لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين (الأونروا) – وهي واحدة من أهم الجهات المقدمة للمساعدات والمُوفرة لفرص عمل في القطاع. كما استخدمت الولايات المتحدة مراراً حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي ضد مشاريع قرارات لوقف إطلاق النار، وتم تمرير قرار فقط بعد امتناعها أخيراً عن التصويت. إن عدم رغبة الولايات المتحدة والقوى الغربية في الضغط بجدية من أجل إنهاء الحرب في غزة ينزع الشرعية عن مزاعمهم بدعم النظام الدولي، وفي المقابل يُضفي شرعية – في نظر العديد من الجهات – على عُنف الحوثيين المستمر لدعم الفلسطينيين.
وإدراكاً منها للتأثير المحدود للغارات الجوية وحدها، تبحث الولايات المتحدة على ما يبدو عن شركاء محليين داخل اليمن لتوسيع نطاق الردّ على الحوثيين، وهو توجّه حرصت أطراف مختلفة في الحكومة المعترف بها دوليا على تشجيعه. فقد أُشِيع أن زيارة قائد قوات المقاومة الوطنية وعضو مجلس القيادة الرئاسي “طارق صالح” إلى لندن تضمنت طلبا للحصول على دعم، ويبدو أن الولايات المتحدة تُقيّم حالياً عدد من الأطراف الفاعلة في معسكر الحكومة وتدرس مسألة تعزيز قدرات القوات المناهضة للحوثيين إما عبر توفير الدعم المادي أو تنسيق العمل معها. تتخلل هكذا خطة عدد من التحديات، حيث لاتزال الحكومة منقسمة على ذاتها وتنبع شرعية أعضاء مجلس القيادة الرئاسي المتنافسين من قدراتهم العسكرية في المقام الأول. وبالتالي، قد تأتي أي خطوة لتمكين فصيل بعينه ضد البقية بنتائج عكسية وقد يُخلّ أكثر بالتوازن الهش بينها، خصوصاً وأن ذلك أدى بالفعل إلى تعبئة شعبية ومواجهات عسكرية وأعمال عنف. وهذا بحدّ ذاته سيُضعف الحكومة المعترف بها دوليا، وسيزيد من اختلال ميزان القوى بل وسيصب في صالح الحوثيين وسيُهدد أي فرص محتملة للتوصل إلى تسوية تفاوضية لإنهاء الصراع في اليمن.
يخضع أعضاء مجلس القيادة الرئاسي لهيمنة وسياسات داعميهم الإقليميين (أي السعودية والإمارات)، وسيتطلب الأمر الالتزام بموارد هائلة على المدى الطويل للحفاظ على هذه العلاقات أو إنهائها. يحرص السعوديون على عدم استعداء الحوثيين آملين في إبرام صفقة مع الجماعة، ومن جهتها، أظهرت الإمارات (المعادية أكثر للجماعة) اهتماما ضئيلاً بالتمدّد شمالا منذ أن أوقف اتفاق ستوكهولم المبرم عام 2018 تقدم القوات المدعومة منها على الساحل الغربي. تزيد التوترات والتنافس المستمر بين الدولتين الخليجيتين – وسياساتهما المختلفة بشأن اليمن – من تعقيد الأمور.
من اللافت أن مكانة السعودية – كقائد للتحالف العسكري – لا تنعكس على أرض الواقع في اليمن، فَالإمارات تدعم أقوى فصيلين في الجنوب: المجلس الانتقالي الجنوبي (بقيادة عضو مجلس القيادة الرئاسي عيدروس الزبيدي) وألوية العمالقة (بقيادة عبدالرحمن المحرمي، المكني بأبي زرعة). تتعارض أولويات هذين الفصيلين مع أولويات القوى الغربية، حيث يتشبث المجلس الانتقالي الجنوبي بأجندته الانفصالية علناً (في إطار دعوته إلى إقامة دولة الجنوب)، وهو ما قد يجعله غير مهتم بالقتال من أجل مناطق لا مصلحة له بالسيطرة عليها. أما أبو زرعة، فيُعتبر شخصية إشكالية في حدّ ذاتها حيث تضم ألوية العمالقة عناصر سلفية، وهو ما قد يجعل الولايات المتحدة تتردد على الأرجح في دعم هذه الألوية. بحسب تقارير، تسبب هذا التنافس (من أجل الحصول على الدعم الدولي) في زرع الشكوك بين الفصيلين، بينما تبرز قوات المقاومة الوطنية بقيادة طارق صالح كطرف مرشح آخر لتلقي الدعم لا سيما وأنها متمركزة على الساحل الغربي. لكن كغيره من القادة اليمنيين، يبقى صالح منشغلاً بالحرب المستمرة على الأرض وبميزان القوى – سواء داخل الحكومة أو في المعسكر المناهض للحوثيين.
لم يتضح بَعْد ما إذا كان الغرب قادرا على وقف هجمات الحوثيين على المدى القصير. فَرُغم فشل غالبية هجمات الحوثيين (بالصواريخ والطائرات المسيرة) في إصابة أهدافها بدقة، كانت نجاحاتهم العملياتية وتهديداتهم بشنّ مزيد من الهجمات كافية لرفع أسعار التأمين على الشحن البحري ودفع السفن إلى تغيير مساراتها. وبالتالي، سيستلزم وقف هذه الهجمات تماماً التدمير الكُلي لمواقع ومنصات إطلاق الصواريخ ومخزونات الأسلحة والقضاء على قدرات تصنيعها، إلى جانب اعتراض الأسلحة المهربة. في الوقت الحالي، يعد ذلك شبه مستحيل حيث لا تمتلك الولايات المتحدة وسيلة للضغط الدبلوماسي على الحوثيين، وتقلّص نفوذها الدبلوماسي مع إيران منذ انسحابها من خطة العمل الشاملة المشتركة حول البرنامج النووي الإيراني. قد تجد الولايات المتحدة في توسيع نطاق الغارات الجوية ومحاولة القضاء على الحوثيين أو الضغط على قيادتها خطوة مغرية، لكن يُستبعد أن ترسل الولايات المتحدة قوات كبيرة خاصة بها ولا يظهر حتى الآن من الطرف المحلي الذي ستختار الولايات المتحدة دعمه والقادر على دعم خططها بالتحوّل إلى عمل عسكري برّي ضد الحوثيين. كما من المُستبعد أن يؤدي دعم الفصائل المتنافسة المنضوية تحت الحكومة المنقسمة إلى نتائج فعالة، بل وقد يُهدد بزعزعة الاستقرار.
على ضوء هذه المعطيات، تُعدّ الفرصة الأكبر لوقف فوري لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر هي وقف شامل لإطلاق النار في غزة وانسحاب إسرائيلي. تتباين آراء الخبراء حول ما إذا كان الحوثيون سيوقفون هجماتهم فعلاً في حال تحقق ذلك، أم سيواصلون عملياتهم لانتزاع المزيد من التنازلات واكتساب تأييد شعبي أكبر يمنحهم شرعية. من المؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي يُوفر للحوثيين ذريعة لمواصلة الهجمات، إلاّ أن الولايات المتحدة تبدو عازمة على التمسك بسياستها الحالية تجاه القضية الفلسطينية: فهي لم تفعل شيئا يُذكر – بخلاف العتاب الصامت – للضغط على إسرائيل جدياً من أجل وقف الفظائع المرتكبة حتى الآن، وهو ما يزيد الشكوك إزاء حدوث أي تطورات قد تُغير الموقف الأمريكي ومجرى الأحداث.
على المدى الطويل، يُحتمل أن يواجه الغرب مستوى جديد من نفوذ محور المقاومة التابع لطهران على البحر الأحمر. بالنسبة لجماعة الحوثيين، قد لا يعود من مصلحتها تعطيل حركة التجارة والموانئ اليمنية في حال أصبحت طرفا في أي صفقة سلام (يتم التوصل إليها) أو أصبحت مثقلة بعبء الحُكم في مناطق سيطرتها. فاستمرار الهجمات في البحر الأحمر يُهدد فرص السلام التي يمكن أن تُحفز الجماعة على تغيير سلوكها، بينما تبدو السعودية – من جهتها – مكتفية في الوقت الحالي بمسار تفاوضي يقوم على الاسترضاء والتهدئة. نجح الحوثيون، عبر تكديس الأسلحة (أغلبها إيرانية الصنع)، في تطوير قدراتهم العملياتية ومعها نفوذهم على الساحة الإقليمية والدولية. فالقدرة الهائلة على تصنيع الطائرات المسيرة من قطع غيار رخيصة الثمن، وانتشار استخدامها، قد يُقلّص التفاوت في القدرات بين القوى الغربية والجهات الفاعلة المسلحة غير الحكومية، تماما كما فعلت بنادق الكلاشينكوف قبل أكثر من نصف قرن. في الوقت الحاضر، تبدو الخيارات محدودة لمجابهة هذا التحدي، وإذا أرادت الولايات المتحدة التحرّك بشكل فعٌال في اليمن، فَسيتحتّم عليها فعل ذلك عبر تقديم الدعم الاقتصادي واللوجستي للحكومة المعترف بها دوليا، بما يعزز قدرة الأخيرة على تلبية الاحتياجات الملحة للشعب وضمان تمثيله على نحو أفضل في أي محادثات حول تسوية نهائية.
تعيين رئيس جديد للحكومة التي تظل مقصية
بعد إقصائها من المحادثات السعودية – الحوثية، ووقوفها على حافة الإفلاس مع استمرار التدهور الاقتصادي والمؤسسي، أصبحت الحكومة المعترف بها دوليا مجرد طرف مُتفرج على الأزمة الدولية في البحر الأحمر. بعد تكهنات طويلة، تغير أخيراً رئيس الوزراء معين عبدالملك سعيد، ليخلفه أحمد عوض بن مبارك (وزير الخارجية آنذاك) في 5 فبراير/ شباط. شغل بن مبارك سابقا منصب سفير اليمن لدى الولايات المتحدة والأمم المتحدة، وكان مدير مكتب رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي. اختطفه الحوثيون في يناير/كانون الثاني 2015 ووُضع تحت الإقامة الجبرية، ليصبح بعدها من أشد المنتقدين للجماعة. من جهته، يخدم معين عبدالملك حالياً كمستشار لرئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي.
منذ توليه منصبه، يحرص بن مبارك على الظهور بمظهر القيادي المنشغل حيث عقد اجتماعات مع مسؤولين من قطاع الكهرباء ومصلحة الضرائب والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وأصدر قرارا في 18 فبراير/شباط بتشكيل لجنة مناقصات وشراء وقود محطات توليد الكهرباء، إلى جانب قرار بإيقاف رئيس مصلحة الضرائب عن العمل وإحالته للتحقيق. صحيح أن هذا شجّع سياسيين آخرين على اتخاذ سلسلة من الأنشطة، إلاّ أن بن مبارك يتمتع بقدر محدود من السلطة والنفوذ ويُقال إنه اختير من الرياض لهذا المنصب ولا يحظى بتأييد من قبل أعضاء حكومته أو أعضاء مجلس القيادة الرئاسي. من جهة أخرى، تم تعيين السفير اليمني لدى الرياض، شايع الزنداني، وزيراً للخارجية في 26 مارس/ آذار، ويُقال بأنه أيضاً لا يحظى بتأييد لدرجة تأخير أعضاء المجلس الرئاسي مراسم أدائه اليمين الدستورية، على أمل العثور على شخص آخر.
تكمُن المشكلة الأساسية في اعتماد الحكومة على التمويل الخارجي (المحدود) والذي قلّص استقلاليتها في اتخاذ القرارات. تزامن تعيين بن مبارك رئيسا للوزراء مع الإفراج عن دفعة ثانية من المنحة السعودية بقيمة 1 مليار ريال سعودي (أي ما يعادل 250 مليون دولار أمريكي) تقريباً، وهو ما ساعد على استقرار قيمة الريال اليمني نسبيا، وسَمح للحكومة باستئناف مزادات بيع العملات الأجنبية التي جرى تعليقها في الفترة الماضية والتي تعتبر مُهمة لتمويل واردات السلع الأساسية – بما في ذلك المواد الغذائية (انظر قسم التطورات الاقتصادية).
تقف الحكومة على حافة الإفلاس، وبحسب أنباء، طلب بن مبارك من المسؤولين الحدّ من رحلات العمل غير الضرورية لخفض التكاليف. ساعدت منحة وقود مقدمة من الإمارات على توفير الكهرباء في عدن، علماً بأن مشكلة الانقطاع المتكرر في التيار الكهربائي أجّجت مظاهرات خلال العام الماضي. إلا أن سياسة ضخ أموال المنح تدريجيا تُقوّض قدرة الحكومة اليمنية على إجراء إصلاحات شاملة، ولا تكفي للتعامل مع الهبوط المطرد في قيمة العملة وتدهور الوضع المعيشي في مناطق سيطرتها. يعتمد أكثر من نصف سكان اليمن على المساعدات الإنسانية في وقت تعاني فيه جهود الإغاثة من نقص التمويل. لا يتضح حتى الآن سبب مَيل السعودية إلى إبقاء الحكومة في حالة استجداء الدعم، وقد يُعزى ذلك إلى مخاوف الرياض من أن تقديمها المزيد من الدعم للحكومة سيُهدد مسار استئناف محادثاتها مع الحوثيين وما سيتبع ذلك من محادثات بين الأطراف اليمنية – وفق التصوّر السعودي. في جميع الأحوال، ستكون الحكومة المنقسمة الطرف الأضعف حتماً في أي مفاوضات من هذا النوع، واستمرار تقويض موقفها لن يؤدي سوى إلى نسف فرص بقائها للمشاركة في أي حوار مستقبلي. في غضون ذلك، تستمر معاناة السكان المدنيين من أوجه الحرمان على نحو متزايد.
في خطوة قد تُفسر على أنها يائسة على أمل الحصول على الدعم ، حاولت أطراف من الحكومة اليمنية الاستفادة من الاهتمام الغربي مؤخراً بتوفير الدعم المادي للأطراف المناهضة للحوثيين. على سبيل المثال، دعا رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي “عيدروس الزبيدي” علناً الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى تشاطر المعلومات الاستخباراتية وتوفير الأسلحة والتدريب للقوات الموالية للحكومة، معتبراً أن الدعم غير الكافي للقوات البرية كان السبب الرئيسي وراء فشل الحرب ضد الحوثيين حتى الآن. من جهته، التقى قائد قوات المقاومة الوطنية “طارق صالح” بالسفير الأمريكي في اليمن “ستيفن فاجين” والقادة العسكريين الأمريكيين بالإقليم في فبراير/شباط، علما أنه سبق ذلك لقاء عن بُعد بين الرجلين (عبر تقنية الاتصال المرئي).
على نفس المنوال، التقى رئيس مجلس القيادة الرئاسي “رشاد العليمي” بوزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون في الرياض، وضغط على بريطانيا لتحذو حذو الولايات المتحدة في إدراج الحوثيين ضمن قائمة الكيانات الإرهابية. تأمل الحكومة اليمنية بأن تشدد الولايات المتحدة تصنيفها للحوثيين كـ “منظمة إرهابية أجنبية”، وهي خطوة ستوسع دائرة العقوبات وستفرض حظر السفر على أي فرد له صلة أو ارتباط بالجماعة. وفي إطار هذه المساعي، التقى العليمي بكل من وزير الخارجية البحريني والأمين العام المساعد للشؤون السياسية والسياسة والأمنية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) السفير بوريس روج على هامش مشاركته في مؤتمر ميونيخ للأمن في ألمانيا. كما أفادت أنباء عن تواصل العليمي مع المسؤولين بالولايات المتحدة، في مارس/آذار، بشأن توسيع نطاق الحماية لتشمل موانئ جنوب البلاد، لا سيما موانئ تصدير النفط للسماح باستئناف صادرات النفط والغاز التي تعد مصدر رئيسي للإيرادات والعملة الأجنبية بالنسبة للحكومة، علماً أنها توقفت بعد استهداف الحوثيين الموانئ النفطية الجنوبية بسلسلة من الصواريخ والطائرات المسيرة في أكتوبر/تشرين الأول 2022.
من المهم إدراك أن دعم طرف بعينه من الأطراف الفاعلة الحكومية لن يؤدي سوى إلى زيادة التنافس الداخلي. ففي فبراير / شباط، شهدت محافظة حضرموت مواجهة بين قوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعومة إماراتياً وقوات درع الوطن المدعومة من السعودية إثر محاولة الأخيرة السيطرة على مواقع بالقرب من المكلا، علماً بأن قوات درع الوطن شُكّلت لتكون تحت إمرة رئيس المجلس الرئاسي رشاد العليمي الذي لم يملك قوات مسلحة محسوبة عليه. وبالتالي، تعكس التوترات بين هذه القوات التنافس الحاصل بين السعودية والإمارات والتنافس المستمر داخل مجلس القيادة الرئاسي بين العليمي والزبيدي. هذه المواجهة الأخيرة ما هي سوى واحدة من المواجهات العديدة التي تجري في الساحة، حيث قامت قوات المجلس الانتقالي الجنوبي بالتحشيد بشكل منتظم ضد القوات الموالية لحزب الإصلاح في المنطقة العسكرية الاولى في حضرموت، وهناك تقارير مستمرة تفيد بتصاعد حدة التوترات بين المجلس الانتقالي الجنوبي وألوية العمالقة (بقيادة القائد البارز أبو زرعة).
ورُغم أن الحرب في اليمن كانت قد تحوّلت إلى الجبهة الاقتصادية، أصبحت حالة عدم اليقين جرّاء التصعيد العسكري المتجدد تثير قلق القادة. فقد حشد الحوثيون أعدادا هائلة من المجندين على خلفية خطابهم الدعائي المتعلق بنصرة فلسطين، وأرسلوا تعزيزات عسكرية إلى عدد من الجبهات الرئيسية حيث شهدت مناطق في تعز والضالع وجنوب الحديدة ومأرب اقتتال مستمر. لا تثق الحكومة بنوايا الحوثيين، وبأن الجماعة لن تسعى إلى تعزيز موقفها عسكرياً سواء على المدى القصير أو بعد إغلاق السعودية ملف حربها في اليمن وخروجها من المشهد. على هذا الأساس، تعتبر الحكومة مُحقة في سعيها لطلب الدعم من أجل تعزيز موقفها، إلاّ أن التنافس بين الأطراف المنضوية تحت مظلتها والتنافس بين داعميهم الإقليميين تظل مشكلة جوهرية بدأت منذ تأسيس المجلس الرئاسي المثير للجدل قبل عامين. لا بد من الأخذ بالحسبان أن أي دعم غربي مُحتمل يجب أن يتم وفق خطة مدروسة وإلاّ سيُعزز وسيُبرز هذه الانقسامات وستفوق تداعياته المزعزعة للاستقرار أي مكاسب مادية.
انحسار احتمالات فرص التوصل إلى سلام
من أبرز الخسائر التي تكبدها اليمن بسبب الهجمات في البحر الأحمر هي تجميد محادثات السلام إلى أجل غير مسمى، مع إعادة الأطراف تقييم مواقفها واستراتيجياتها. أحرزت المحادثات الثنائية بين السعودية وجماعة الحوثيين تقدماً على مدار عام كامل وبدا الإعلان عن صفقة (تُعرف بخارطة الطريق) أمراً وشيكا، قبل أن تبدأ الهجمات في البحر الأحمر. صيغت خارطة الطريق لتشمل مراحل، تبدأ بخروج السعودية من مشهد الصراع، ويتبع ذلك حوار بين الأطراف اليمنية. أثارت الآفاق السياسية للخارطة المقترحة مخاوف بشأن تداعياتها على المدى الطويل، حيث لا يتضح ما الذي قد يُحفز الحوثيين على التنازل وتقاسم السلطة، وفي نفس الوقت، أي اعتراف بسلطتهم الفعلية على شمال اليمن سيُعتبر نهاية الدولة اليمنية المُوحّدة. مؤخراً، تناقلت وسائل الإعلام تصريحات لنائب كبير مفاوضي جماعة الحوثيين “عبد الملك العجري” الذي أكد أن عبد الملك الحوثي سيبقى السلطة العليا في أي ترتيب سياسي، وهو ما اعتبر أول تصريح علني يعكس رؤية الجماعة لترتيبات السلطة بعد انتهاء الحرب.
شهدت اليمن فترة هدوءا نسبيا في أعقاب إبرام الهدنة عام 2022، لا سيما في مناطق سيطرة الحوثيين حيث أعيد فتح مطار صنعاء وتخفيف القيود على موانئ الحديدة، إلاّ أن التصعيد الجاري في البحر الأحمر يهدد بنسف عملية السلام برمّتها. حرص السعوديون على النأي بأنفسهم وتجنب انتقاد هجمات الحوثيين علنا، ويرجع ذلك – حسب ما يبدو – إلى اهتمامهم ورغبتهم بالتوصل إلى اتفاق، وتخوفهم من استهدافهم مباشرة أو من إثارة الحساسيات في الداخل. وإذا ما تم النظر في مواقف جميع الأطراف المنخرطة في اليمن، يعتبر موقف السعوديين الأكثر ثباتا حيث من الواضح أن المملكة عازمة على تخليص نفسها من مأزق الحرب في اليمن في أقرب وقت ممكن.
لم تكسب السعودية شيئا من انخراطها في اليمن، ويبدو أن الرياض قد فهمت متأخرة أن شراء كارت انسحابها من المشهد اليمني هو أرخص ثمناً بكثير من بقائها فيه – لا سيما مع تركيزها على أجندتها التنموية واهتمامها بتعزيز مكانتها كقوة اقتصادية إقليمية. وربما يأتي التصعيد في البحر الأحمر كمُبرر لوجهة نظر السعودية بأن التهديد الحوثي الدائم بإثارة الفوضى والاضطرابات الاقتصادية لا يمكن احتواؤه من خلال الغارات الجوية، وأن ترسيخ سلطة الحوثيين قد يمنح الغرب فاصلا ومساحة لدعم محادثات السلام. بات أمام السعوديين خيارات محدودة بعد أن حاولوا على مدى سنوات القضاء على الحوثيين بقوة السلاح دون جدوى، وربما لا تزال فرصة توصلهم إلى اتفاق مع الحوثيين قائمة ومُمكنة: ففي أواخر مارس/ آذار، ظهرت شائعات غير مؤكدة بأن وفدا حوثيا زار الرياض لإحياء المحادثات بين الطرفين. أيا كان الأمر، لم تتغير أهداف المملكة ولا مساعيها ووسائلها للحصول على مبتغاها.
على الجانب الآخر، يبقى موقف الولايات المتحدة أقل وضوحا لا سيما وأن قدرات الحوثيين التي برزت مؤخرا هي تطور مثير للقلق، بل وتساهم في توسّع نفوذ إيران وقدراتها الرادعة عبر وكلائها من الأطراف الفاعلة غير الحكومية. ورُغم أن واشنطن عرضت دعمها لكل من عملية السلام التي ترعاها الأمم المتحدة والمحادثات الثنائية بين السعودية والحوثيين (قبل أن تُبدي تحفظها لاحقا بشأن الأخيرين)، يُستبعد حالياً أن تدعم الولايات المتحدة أي اتفاق سلام يكافئ الحوثيين أو يعزز موقفهم، لا سيما أن التعويض المالي كان ركيزة أساسية للصفقة المقترحة، وبالتالي قد يُصبح هو العائق الرئيسي لإتمامها (بالنسبة للولايات المتحدة). في جميع الأحوال، لن يدعم الغرب أي اتفاق في ظل استمرار الهجمات في البحر الأحمر، وفي المقابل، يُستبعد أن يتراجع الحوثيين عن استهداف حركة الملاحة في ظل استمرار حرب غزة. تبدو فرص خفض التصعيد ضئيلة، خصوصاً وأن المسؤولين الإسرائيليين أشاروا إلى أن القتال سيستمر طوال عام 2024، إلاّ أن الولايات المتحدة – وفق ما جاء على لسان مبعوثها الخاص إلى اليمن تيم ليندركينغ لوسائل الإعلام، على هامش لقائه مؤخراً بمسؤولين سعوديين وعُمانيين – تُفضل الحل الدبلوماسي وتُدرك عدم وجود حلّ عسكري. تَعكس هذه التصريحات ربما استعداد الولايات المتحدة لإبقاء خياراتها مفتوحة، وليس استعدادها لدعم استئناف محادثات السلام – خصوصاً وأن الغارات الجوية مستمرة.
تظل الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا في موقف صعب، لا سيما بعد إقصائها من المحادثات السعودية – الحوثية، حيث فُرضت عليها خارطة الطريق من قبل المسؤولين السعوديين كأمر واقع. لكن من المهم الأخذ بالحسبان أن محاولات الرياض الواضحة لتخليص نفسها من مأزق الصراع بأي ثمن، ومساعيها لإبقاء الحكومة عاجزة، سيضرّ بموقف الحكومة التفاوضي – متى ما سُمح لأعضائها بالجلوس على طاولة الحوار. وهذا وحده سبب كاف لتخوّف الحكومة من مآل المحادثات ومن بنود التسوية النهائية، في ظل موقفها الضعيف والمُهمش، إلاّ أن مأزقها الماليّ حالياً قد يدفعها لقبول أي مُتنفس اقتصادي توفره السعودية. ومع تجميد مسار المفاوضات حالياً، تنهمك الحكومة في انشغالاتها المعتادة بالتعامل مع الانهيار الاقتصادي والمؤسسي، والتنافس العسكري، والانقسامات الداخلية.
على الرغم من أن الأحداث لا تجري حسب هواهم بَعْد، إلاّ أن قرار الحوثيين بالمجازفة بعملية السلام سعياً وراء اعتراف إقليمي ودوليّ عاد عليهم بمكاسب فورية. بدا الحوثيون واثقون من اهتمام السعوديين باستئناف المحادثات من حيث توقفت، ولا يُستبعد أن يرفعوا سقف مطالبهم المالية بعد أن أظهروا نطاق قدراتهم العسكرية لا سيما وأن مواقفهم المتعنتة في السابق آتت ثمارها خلال المسار التفاوضي. ورُغم أن الحوثيين أعربوا علنا عن انفتاحهم على تدابير خفض التصعيد، يبدو من غير المحتمل أن يتمكنوا من إبرام صفقة مع السعوديين في ظل استمرار الغارات الجوية والهجمات بالطائرات المسيرة. لكن هذا لا يعني أن الصفقة غير مطروحة على الطاولة، أو أنها لن تُبرم متى ما خفّ الضغط الدولي.
في جميع الأحوال، تثير الهجمات في البحر الأحمر والردّ الغربي حالة من عدم الاستقرار وعدم اليقين. لا يمكن التنبؤ بمآل الحرب أو بالتداعيات العسكرية والسياسية للتصعيد الجاري، ورُغم الثغرات والمشاكل الذي شابته، كان الاتفاق السعودي – الحوثي الوشيك آنذاك يمثل خطوة نحو السلام في بلد تمزقت أوصاله بفعل الحرب. ما يزال هناك أمل بالغد وبإمكانية إنقاذ عملية السلام، لكن الواقع اليوم هو أن الحرب مستمرة ومعها أوجه المعاناة والحرمان.