لطالما شكل اتساع جغرافيا محافظة حضرموت عقبة أمام الحكومة اليمنية في توفير الخدمات العامة وتلبية احتياجات مجتمعات متناثرة في قرابة ثلث المساحة الإجمالية لليمن. مع اندلاع الحرب، تحولت التعاقدات مع المعلمين -أي أولئك العاملين بعقود مؤقتة -إلى آلية معتمدة على نطاق واسع لتغطية عجز الكادر التعليمي في المدارس الحكومية وضمان استمرار المنظومة التعليمية. إلاّ أن مسار هذه الآلية لم تكن مدروسة بشكل كاف، وتعاني من اختلالات واضحة تفرض ضرورة ملحة لمعالجتها.
لَعِبت مبادرات مجتمعية، تولى زمامها رجال أعمال حضارم معروفون مثل سالم بن محفوظ وعبد الله بقشان، [1] دورا مهماً في إنشاء مدارس بالمناطق المحتاجة والتعاقد مع معلمين من خارج إطار المنظومة التعليمية الرسمية. شملت تعاقدات مجموعة بقشان نساءً فقط، ممن تم تعيينهن كمُعلمات في مدرسة أُنْشئت عام 2016، في مسعى من المجموعة للنهوض بتعليم المرأة في حضرموت الوادي. وكجزء من تحفيز المعلمات للتعاقد مع المدارس التي أنشأها، دعم بقشان إدماج المتعاقدات في سلك التوظيف الحكومي – كمعلمات نظاميات/رسميات – وهو ما شجع العديد على التوافد من حضرموت الساحل الى الوادي.[2] إلى جانب هذه المبادرات، دعمت منظمات محلية غير ربحية، مثل مؤسسة العون للتنمية، قطاع التعليم في حضرموت الوادي والساحل حيث تعاقدت مع 310 معلماً ومعلمة بالإضافة إلى دعم مدرسة خيرية في دوعن.[3]
تزايد الاعتماد على المعلمين المتعاقدين في حضرموت بعد اندلاع الحرب التي ألحقت أضراراً جسيمة بقطاع التعليم وبالموارد المالية للحكومة. تنامت إضرابات المعلمين النظاميين/الرسميين المطالبين برواتبهم، الأمر الذي اضطر السلطات المحلية إلى التعاقد مع معلمين بعقود مؤقتة لتعويض النقص في الكادر التعليمي بالمدارس الحكومية.
ازدادت الأمور تعقيدا مع بلوغ عدد من المعلمين سن التقاعد، فَخلال العام الماضي، بلغ عدد المتقاعدين في مدينة المكلا وحدها 88 متقاعداً.[4] فضلا عن ذلك، أدى افتتاح العديد من المدارس الجديدة – أغلبها للبنات – إلى تعميق أزمة نقص المعلمين، ومن هنا، أصبح التعاقد مع معلمين جُدُد بمثابة حلّ شامل يساعد على التعامل مع الاعداد المتزايدة من الطلاب والمدارس الجديدة في حضرموت، [5] وإشكالية توقّف التوظيف الرسمي من قبل الحكومة، والأعداد الكبيرة من خريجي الجامعات الباحثين عن فرص عمل، ومسألة بلوغ عدد من المعلمين سن التقاعد.
تعاقدات تشوبها اختلالات
واجهت عمليات التعاقد تحديات إجرائية ومالية. بادئ ذي بدء، كانت شروط التعاقد المرتبطة بمؤهلات المعلمين غير واضحة حيث جرى تعيين عدد كبير من خريجي تخصصات لا تمتّ للسلك التربوي بصلة. نتيجة لذلك، أدت التعاقدات مع معلمين غير مؤهلين تربوياً إلى تدهور جودة التعليم لعدم تطابق تخصصاتهم مع المواد التي يتم تدريسها. فعلى سبيل المثال، قد يُكلَّف معلم حاصل على شهادة في إدارة الأعمال بتدريس مادة الرياضيات، أو تكليف متخصص قانون بتدريس مادة اللغة العربية.
من جهة أخرى، أعاقت الضائقة المالية التي تواجهها الحكومة العملية التعليمية. وأمام عجز الحكومة عن تخصيص ميزانية لاستيعاب معلمين نظاميين/ رسميين جُدُد، أنشأ محافظ حضرموت السابق أحمد بن بريك صندوقاً لدعم قطاع التعليم في عام 2016 ، حيث يتم تمويل الصندوق من رسوم محددة فُرِضت على الواردات عبر ميناء المكلا.[6] إلاّ أن مصادر تُشير إلى أن الجهات الحكومية المعنية لا تلتزم بتوريد هذه المبالغ إلى الصندوق إلا بمتابعة شاقة و بالاعتماد على شبكة علاقات شخصية، [7] وفي جميع الأحوال، بالكاد تكفي المبالغ التي يتم توريدها إلى الصندوق حيث لا تتجاوز المليار ريال يمني (أي ما يعادل نحو 720 ألف دولار أمريكي).[8]
كرة ثلجية
أصبح التعاقد مع معلمين كرة ثلجية تنمو باستمرار، فَمِن عشرات المعلمين المتعاقدين، إلى المئات، إلى الآلاف، ليبلغ عدد المتعاقدين 11 ألف معلم ومعلمة في حضرموت الساحل[9] و 5,800 في حضرموت الوادي[10] في عام واحد فقط، وفق ما أفاد به مصدران أواخر عام 2022. ورغم أن هذه الآلية ساعدت على ملء الفراغ الموجود في الكادر التعليمي بالمدارس المحلية، إلاّ أنها فشلت في معالجة التحديات الجذرية التي تسببت بشلل قطاع التعليم.
أمام هذه الأعداد الكبيرة من المعلمين المتعاقدين، وضُعف الموارد المالية لدفع أجورهم ومستحقاتهم بشكل منتظم، حذا كثير من المتعاقدين الجُدُد حذو معظم الموظفين الحكوميين – بمن فيهم المعلمون النظاميون/ الرسميون– ممن توجهوا الى سوق العمل خلال فترة الحرب بحثا عن وظائف ومِهَن أخرى تغطي احتياجاتهم المعيشية، ولا سيما بعد أن أصبحت رواتبهم لا تفِ بالحد الأدنى من متطلبات الحياة. فعلى سبيل المثال، يتقاضى حامل الشهادة الجامعية 55 ألف ريال يمني فقط شهريا (أي ما يعادل نحو 40 دولارا أمريكيا)، بينما يتقاضى حامل الشهادة الثانوية 45 ألف ريال يمني شهرياً (أي ما يعادل نحو 32 دولارا أمريكيا)، وغالبا ما يتم صرف الأجور إما متأخرا أو بشكل غير منتظم.[11] ونتيجة لعملهم في وظائف إضافية، اضطر العديد من المدرسين إلى تخصيص وقت أقل للتدريس، دون إعارته ما يستحق من الاهتمام، مما أثر سلبا على العملية التعليمية ومستوى التحصيل العلمي للطلاب.
ضُعف الحوافز
رُغم الجهود المبذولة لتنظيم دورات تدريبية للمعلمين المتعاقدين، بغيّة تحسين مستواهم ورفع مهاراتهم التربوية، لا يتم الالتزام بحضور هذه الدورات نظرا لضُعف المردود المالي أو الحوافز. باستثناء الدورات التدريبية المدعومة من منظمات دولية، [12] تظل خبرات ومهارات المعلمين المتعاقدين دون تطوير. يُمكن فهم حالة الإحباط وعدم اللامبالاة التي يعيشها المعلمون، نتيجة تدني أجورهم ونقص الدعم المقدم لهم من السلطات المعنية، حيث تمكن قلّة فقط (عبر وساطات شخصية) من تحقيق مطالبهم بإحلالهم وظيفياً بدل المعلمين النظاميين/ الرسميين المتقاعدين.
علاوة على ذلك، ساهمت السياسة غير المدروسة المتمثلة بتعيين المعلمين في مناطق تبعُد كثيراً عن مُدنهم في تقويض اهتمامهم وقدرتهم على حضور الدورات التدريبية. في بعض الأحيان، يتم تعيين المعلمين في مناطق ريفية، بعيدا عن أسرهم، دون حوافز مادية تُعينهم على تحمّل مشقة البُعد وتغطية نفقات المعيشة. أضف إلى ذلك التوزيع غير المتكافئ للحصص الدراسية بين المعلمين، والذي قد يتراوح بين ست حصص و 15 حصة أسبوعياً لكل معلم.[13]
و كَدليل آخر على سياسة انعدام الشفافية في إجراءات التعاقد، أفاد العديد من المعلمين عدم تلقيهم نسخة من العقود الموقعة معهم، حيث يلتزم عدد قليل من الإدارات المدرسية بتزويد المعلمين المتعاقدين بنسخ من عقودهم.[14] تَظهر أيضاً تناقضات قانونية أخرى: فَمِن بين 17 ألف معلم/ة متعاقد/ة تقريباً عُيّنوا منذ عام 2016، [15] تم التعاقد بشكل رسمي مع 500 منهم فقط من قبل السلطة المختصة في حضرموت – أي مكتب وزارة الخدمة المدنية والتأمينات – في حين تم التعاقد مع الباقين عبر مكاتب وزارة التربية والتعليم رغم عدم تخوليها قانونياً بذلك.
الحاجة إلى تبني نهج جديد ومختلف
كان أحد أسباب التعاقد مع معلمين جُدُد – بعقود مؤقتة – هو إضرابات المعلمين النظاميين/ الرسميين المطالبين بحقوق أفضل. من باب المفارقة، وجد المعلمون المتعاقدون أنفسهم بحاجة إلى الإضراب أيضاً للمطالبة بتوظيفهم رسمياً ، كحافز مباشر لهم للتعاقد بصفة مؤقتة. واستجابة لهذه الإضرابات، شُكّلت لجنتان في كل من حضرموت الساحل والوادي أواخر عام 2018 لتمثيل المعلمين المتعاقدين، [16] إلاّ أن مساعيهما باءت بالفشل، ما دفع لجنة الساحل إلى الاستقالة. وفيما يبدو محاولة لحلّ الإشكالية، شُكّلت لجنة برئاسة وكيل المحافظة للشؤون المالية والإدارية في سبتمبر/ أيلول 2022، للنظر في القضية وحصر أعداد المعلمين المتعاقدين، [17] علماً أنه لم يُكشف عن النتائج التي خلصت إليها اللجنة المشار إليها حتى كتابة هذا التقرير.
تتطلب معالجة قضية المعلمين المتعاقدين أولاً وضع سياسات تعاقدية واضحة، تشمل تحديد المؤهلات التي ينبغي توافرها في المتعاقد وضمان خضوع الأفراد المُهتمين لدورات تدريبية كشرط مسبق للتعاقد معهم كمُعلمين. كما يجب منح الأولوية لخريجي كليات التربية والتخصصات ذات الصلة، وحصر الجهات المسؤولة عن التعاقد في مكتب وزارة الخدمة المدنية والتأمينات فقط ، بالتنسيق مع مكاتب وزارة التربية والتعليم.
ثانيا، ينبغي (وبصورة عاجلة) إعادة النظر في البدل المادي الشهري للمعلمين المتعاقدين، وكذلك تزويد المتعاقد بنسخة من عقده ومنحه أولوية التعيين في وظيفة دائمة كمُعلم نظامي/ رسمي. فهذا من شأنه أن يحفز الأفراد المُهتمين على تطوير مهاراتهم التربوية واستيفاء شروط التعاقد بما يخدم العملية التعليمية بأكملها.
وأخيرا، ينبغي النظر إلى عملية التعاقد كخطوة مؤقتة تُمهد لتوظيف المعلم رسمياً في نهاية المطاف، وفق إجراءات واضحة ومحددة قد تشمل التقييم المستمر لمهارة وأداء والتزام المعلم/ة المتعاقد/ة.
هذه الورقة هي جزء من سلسلة منشورات لمركز صنعاء ، تحت مبادرة “منتدى سلام اليمن” الساعية إلى تمكين الجيل القادم من الشباب اليمني والجهات الفاعلة في المجتمع المدني وإشراكهم في القضايا الوطنية الحرجة.
- مقابلة أُجريت عبر تطبيق الواتساب مع معلمة نظامية/ رسمية في إحدى مدارس مدينة المكلا ، ومتعاقدة سابقة ضمن مبادرة بقشان، بتاريخ 26 يوليو/تموز 2023.
- مقابلة أُجريت عبر تطبيق الواتساب مع الأستاذ/ محمد عبد الله قفزان ، رئيس لجنة المعلمين المتعاقدين بالشحر، بتاريخ 26 يناير/ كانون الثاني 2023.
- مقابلة أُجريت عبر تطبيق الواتساب مع الأستاذ/ عبدالله بن عثمان – رئيس مؤسسة العون للتنمية، بتاريخ 28 يناير/ كانون الثاني 2023.
- مقابلة أُجريت عبر تطبيق الواتساب مع مصدر من مكتب وزارة التربية والتعليم بمحافظة حضرموت، بتاريخ 26 يوليو/تموز 2023.
- في مجمع الخنساء للبنات، الواقع في ضواحي الشحر، بلغ عدد المعلمات المتعاقدات 31 معلمة مقابل 13 معلمة نظامية/ رسمية. مقابلة أُجريت عبر تطبيق الواتساب مع الأستاذة/ وفاء الأرضي – مديرة مجمع الخنساء بالشحر، بتاريخ 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
- فُرضت رسوم بقيمة 5 آلاف ريال يمني على كل حاوية بضائع صغيرة تدخل ميناء المكلا، وبقيمة عشرة آلاف ريال على الحاويات الكبيرة، بينما تم فرض رسوم بمقدار ريالين فقط على كل لتر من الوقود يُستورد عبر الميناء، وفقا لمقابلة أجرتها الكاتبة مع الأستاذ/ محمد عبد الله قفزان – رئيس لجنة المعلمين المتعاقدين بالشحر- بتاريخ 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022.
- مقابلة أُجريت عبر تطبيق الواتساب مع مسؤول سابق بمكتب وزارة التربية والتعليم بالمكلا، بتاريخ 25 يوليو/تموز 2023.
- نفس المصدر السابق.
- مقابلة أُجريت عبر تطبيق الواتساب مع الأستاذ/ محمد مبارك حمدان – رئيس لجنة المتعلمين المتعاقدين في حضرموت الساحل، بتاريخ 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
- مقابلة أُجريت عبر تطبيق الواتساب مع الأستاذ/ صالح قرطب – رئيس لجنة المتعلمين المتعاقدين في حضرموت الوادي، بتاريخ 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022.
- مقابلة شخصية مع معلم متعاقد في مدرسة الملاحي بمدينة الشحر، بتاريخ 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
- تشمل هذه دورات تدريبية تنظمها منظمة سول للتنمية، وكذلك دورات تابعة لمشروع استعادة التعليم والتعلّم (الممول من قبل البنك الدولي و الشراكة العالمية للتعليم ، والمنفذ من قبل منظمة انقذوا الأطفال (Save the Children) ، واليونيسيف وبرنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة). وفقاً لمقابلة شخصية أجريت مع معلمة متعاقدة في مدرسة النوبان بالشحر، بتاريخ 9 أغسطس/ آب 2023 ، ومقابلة أخرى أجريت عبر تطبيق الواتساب مع الأستاذ/ حسن الشنيني ـ عضو سابق في لجنة صندوق دعم التعليم ومدرب تربوي ، بتاريخ 9 أغسطس/ آب 2023.
- مقابلة شخصية أجريت مع مديرة مدرسة في مدينة الشحر، بتاريخ 15 أكتوبر/تشرين الأول 2022.
- مقابلة أُجريت عبر تطبيق الواتساب مع الأستاذة/ ذكرى باتمباك – وكيلة مدرسة الملاحي في الشحر، بتاريخ 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022.
- مقابلة أُجريت عبر تطبيق الواتساب مع الأستاذ/ محمد مبارك حمدان – رئيس لجنة المتعلمين المتعاقدين في حضرموت الساحل، بتاريخ 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
- نفس المصدر السابق.
- مقابلة أجريت عبر الهاتف مع الأستاذ/ أمين باعباد – مدير عام مكتب وزارة التربية والتعليم في حضرموت الساحل، بتاريخ 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2022.