إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

تحليلات هجمات الحوثيين في البحر الأحمر من وجهة نظر إيران: ما بين حماية المكاسب والحدّ من الخسائر

Read this in English

أتاحت الحرب في غزة فرصة لجماعة الحوثيين (أنصار الله) لتعزيز قبضتها على مفاصل السلطة داخل اليمن وتوسيع نفوذها إقليمياً. محلياً، استغل الحوثيون مشاعر اليمنيين القوية المؤيدة للقضية الفلسطينية في تعزيز جهود التعبئة العامة. أما على الصعيد الإقليمي، فقد ساعدت تلك الحرب الحوثيين على ترسيخ مَكانتهم كقوة صاعدة، وإثبات ما لديهم من قدرة وعزم على تعطيل الملاحة في أحد أهم الممرات المائية بالنسبة للاقتصاد العالمي من خلال شنّ عشرات الهجمات المستهدفة للسفن العابرة في البحر الأحمر.

لفهم مصالح إيران وتصوراتها فيما يتصل بالأزمة الراهنة في البحر الأحمر، من المُجدي التعمّق قليلاً في النهج الذي اتبعته طهران بشأن اليمن قبل هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، الذي نفذته حركة حماس ضد مستوطنات إسرائيلية. فمن منظور إيران، كانت القوة المتنامية للحوثيين بمثابة تطور إيجابي للغاية. فرُغم ما يواجهه الحوثيون من عقبات داخل اليمن – أبرزها الوضع الاقتصادي المتدهور وتنامي حالة الاستياء الشعبي في المناطق الخاضعة لسيطرتهم – برزوا من الحرب الأهلية والتدخل العسكري بقيادة السعودية كسلطة أمر واقع تحكُم شمال غرب البلاد المأهول بالسكان، لا سيما في ظل غياب خصم سياسي أو عسكري قادر على التصدي لهم. فَالحكومة المعترف بها دولياً لا تزال ضعيفة ومُنقسمة على ذاتها.

لا يتضح بالضبط مستوى وقدر الدعم الإيراني المقدم للحوثيين، لكنه على الأرجح لم يتجاوز بضع مئات الملايين من الدولارات الأمريكية منذ عام 2015. استطاع الإيرانيون تحقيق مكاسب كبرى من خلال استثمارهم المحدود المتمثل في تزويد الحوثيين بالأسلحة الصغيرة والذخائر وقطع غيار للأسلحة الأكثر تطورًا (كالصواريخ والطائرات المسيرة) فضلا عن تدريب الحوثيين وتزويدهم بالمعلومات اللازمة لكيفية استخدامها. وبفضل هذا الدعم جزئياً، أصبح الحوثيون قوة مهيمنة في اليمن ولاعبًا فاعلاً ورئيسياً في “محور المقاومة” – وهي شبكة إقليمية لجماعات مسلحة غير حكومية تحت قيادة طهران. من وجهة نظر إيران، تتمثل الخطوة التالية في إضفاء الشرعية على سلطة الحوثيين، ولهذا السبب تدعم طهران المسار التفاوضي السياسي بين الحوثيين والمملكة العربية السعودية لأن النتيجة ستكون ببساطة ترسيخ حُكم الحوثيين وليس عملية مصالحة وطنية تُضعف نفوذ وقوة الجماعة في اليمن.

من ناحية أخرى، تستفيد إيران من تصعيد الحوثيين في البحر الأحمر كون ذلك يتيح لها تعظيم العائد على تكلفة استثمارها في اليمن بدون تغيير حساباتها كُليا. في ظل التطورات الحاصلة، تمت تنحية العملية السياسية السعودية – الحوثية جانبا بشكل مؤقت، لكن لا يوجد أدنى شك بأن الرياض لا تزال ترغب في مَخرج من مأزق حربها المُكلفة في اليمن. وانطلاقا من هذا، تسعى إيران إلى تشجيع السعودية على إغلاق ملف حربها في اليمن وترسيخ سلطة الحوثيين، حيث ستستفيد طهران من تعزيز قبضة الحوثيين محلياً في ظل توسع نشاطهم إقليميا والذي سيُمكّنهم من انتزاع أكبر قدر من التنازلات من الرياض بمجرد استئناف العملية السياسية بين الطرفين.

خارج حدود اليمن، تستفيد إيران من صعود الحوثيين كلاعب إقليمي قوي كون ذلك يعزز قدرات الردع للجمهورية الإسلامية وقدرتها على فرض أعباء على خصومها: الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية. فـ بالإضافة إلى مضيق هرمز، بات بإمكان إيران وحلفائها تعطيل حركة الملاحة في أحد أهم الممرات المائية – مضيق باب المندب الذي يربط خليج عدن بالبحر الأحمر ويمر عبره حوالي 12% من حجم التجارة البحرية العالمية. كما أن إظهار جماعة الحوثيين لقدراتها كلاعب إقليمي وتَمْتين روابطها مع حلفاء إيران الآخرين – لا سيما حركة حماس و حزب الله – يَدْعم التوجّه الحالي لإضفاء الطابع المؤسسي على “محور المقاومة”. وأخيرا، يُساهم تَموْضع الحوثيين كَالمناصرين والداعمين للقضية الفلسطينية في تعزيز السردية التي يتبناها محور المقاومة، ويُعزز قدرتهم على استغلال موقف الشعب اليمني وباقي الشعوب العربية المؤيد حقاً لفلسطين ضد خصومهم ممن هم أكثر توافقا مع الولايات المتحدة وأقل صراحة في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين.

برُغم هذه المكاسب، تشكل الأحداث الأخيرة في البحر الأحمر مخاطر على إيران. فَالسياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية تقوم على مبدأ أساسي ألا وهو تجنب المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية نظراً للتفاوت الكبير في قوة الدولتين. ولذا، تنتهج إيران سياسة دعم الجماعات المسلحة غير التابعة للدول في مختلف أنحاء المنطقة كفُرصة لدرء الاضطرابات الأمنية عن حدودها، من باب إدراكها أن الولايات المتحدة الأمريكية قادرة في نهاية المطاف على إلحاق خسائر كبيرة بطهران في حال حدوث تصعيد كبير. وهذا أحد الأسباب وراء حرص إيران على إحجام حزب الله عن تصعيد صراعه مع إسرائيل وتشجيعه على ممارسة ضبط النفس بما يتوافق مع المصالح الداخلية الحالية لحزب الله.

على ضوء هذه المعطيات، تُشكل غطرسة الحوثيين وأفعالهم مخاطر على إيران. يُدرك الحوثيون عدم وجود طرف داخل اليمن يُمكنه التصدي لهم حالياً، وهو تصوّر في محله. فَالحوثيون قادرون على تحمّل الضربات الجوية الأمريكية – البريطانية المحدودة النطاق حتى الآن، بل واستغلال تلك الهجمات لأغراض سياسية. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن قدرة الحوثيين على تحمل المخاطر أعلى من قدرة إيران – المهتمة أكثر بتجنب التصعيد – على تحملها. من جانبها، تُدرك إيران أن حركة حماس تتكبد خسائر عسكرية جسيمة وفقدت القدرة على حُكم قطاع غزة – ركيزتان مهمتان بالنسبة لطهران لممارسة الضغط الإقليمي. ولذا، تحرص إيران على تجنب تكبّد الحوثيين أضرار أكثر من الأضرار المحدودة التي لحقت بهم حتى الآن.

تحقيق التوازن المثالي بالنسبة للجمهورية الإسلامية هي بمثابة منطقة رمادية، حيث يَعمد الحوثيون – مثل الجماعات المسلحة الأخرى الموالية لإيران – إلى استفزاز السعودية وإسرائيل والولايات المتحدة وتوريطهم في صراعات مُكلفة بأكبر قدر ممكن، بينما يَستغل محور المقاومة ذلك لَتزخيم خطاباته بما يُعزز التأييد الشعبي الذي يحظى به. هذا بحدّ ذاته يسمح لإيران بالضغط – بشكل مباشر وغير مباشر – على خصومها وفرض أعباء عليهم، وفي نفس الوقت تجنب التصعيد الذي قد يكون مُكلفا لها. ولعلّ هذا هو السبب الذي دفع إيران – حسبما أشارت تقارير إعلامية مؤخراً – إلى كبح جماح بعض الميليشيات التي تدعمها في العراق والتي تجاوزت الخطوط الحُمر وزادت من مخاطر حدوث مزيد من التصعيد.

تُثير عملية الضبط الدقيقة المشار إليها نقاشات طويلة حول مستوى النفوذ العملياتي والاستراتيجي الذي تمارسه إيران على الحوثيين. ينظر بعض المحللين إلى الحوثيين باعتبارهم وكلاء، ويجادلون بأن طهران تمارس نفوذاً كبيراً عليهم حتى وإن كانت لا تتحكّم بهم بشكل مباشر. إلاّ أن الأحداث الأخيرة تقدم رؤية مختلفة نوعاً ما، وهي أن جماعة الحوثيين المتشددة أصبحت جهة فاعلة قوية وأكثر استقلالاً، رُغم تلقيهم دعم إيراني مُهم. ولَتوصيف أكثر دقة للوضع، يُمكن النظر إلى الجماعة باعتبارها شريك لإيران، فَمصالحهما متوافقة في الغالب – رغم التباينات أحياناً – وهما يعملان يداً بيد في مَساعيهما لتحقيق أهدافهما.

يظل الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية الإيرانية هو تقليص مساحة مناورة الولايات المتحدة من خلال رفع التكاليف الفعلية أو المحتملة لأي تحرّكات أمريكية وتَوريطها في خيارات وسياسات سيئة. هذه هي الزاوية التي حاصرت فيها إيران الولايات المتحدة وورّطتها لخوض مواجهة في البحر الأحمر: فَواشنطن متورطة الآن في الحرب في اليمن من خلال قصفها لمناطق سيطرة الحوثيين و بُفرص نجاح ضئيلة. في الوقت الراهن، يتمثل هدف الجمهورية الإسلامية في حماية المكاسب التي حقّقها حلفاؤها (فَإسرائيل متورطة في حرب مُكلفة في غزة، بينما برز الحوثيون كقوة إقليمية صاعدة وحققوا زخماً دعائياً ملموساً)، ومن جهة أخرى تقليل الخسائر المتكبدة بسبب معركة حماس والخسائر المحتملة بسبب معركة الحوثيين – وهي معادلة صعب تحقيقها بلا شك.


هذه المقالة هي جزء من سلسلة إصدارات يُنتجها مركز صنعاء بتمويل من الحكومة الهولندية. تستكشف السلسلة قضايا ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وبيئية، بهدف إثراء النقاشات وصنع السياسات التي تعزز السلام المستدام في اليمن.