إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

تعليقات نحو الشرق: دراسة في تحولات العلاقة السعودية مع القبائل اليمنية

Read this in English

شهدت علاقة المملكة العربية السعودية بشيوخ القبائل اليمنية العديد من التحولات على مدار العقود الماضية، حيث ركزت بشكل أساسي على إنشاء علاقات وثيقة ومباشرة مع شيوخ القبائل اليمنية. مع خط حدودي مشترك يبلغ حوالي 1800 كيلو متر، راقبت المملكة عن كثب كل التطورات داخل اليمن، مُولية اهتماماً خاصاً بعلاقتها مع الرموز القبلية اليمنية في سياساتها الخارجية كوسيلة للحفاظ على نفوذها و”التأثير على صنع القرار السياسي الداخلي في اليمن بما يتناسب مع مصالحها.”[1] إلاّ أن ديناميكيات هذه العلاقة (بين السعودية ومشايخ القبائل اليمنية) غير ثابتة ولا متجانسة، حيث تحوّلت وتطوّرت وفقا لمصلحة الطرفين.

زاد انخراط السعودية في الصراعات اليمنية المتعاقبة (وتحديداً منذ عام 2004) من تعقيد هذه الديناميكيات، فضلا عن أن هذه العلاقة مبنية على أسس غير متكافئة. فالسعودية بلد غني – باعتبارها أكبر الدول المُصدّرة للنفط في العالم وعضو في مجموعة الدول الصناعية العشرين. في المقابل، يُعدّ اليمن أفقر دولة في الشرق الاوسط وضعيف إقتصاديًا نتيجة للصراعات السياسية والعسكرية على السلطة والثروات الشحيحة. وبالتالي، لطالما كان لدى السعودية القدرة على استقطاب شيوخ القبائل اليمنية وممارسة نفوذ عليهم، على حساب الحكومة المركزية في بعض الأحيان.

تُعدّ استراتيجية الملك عبدالله بن عبدالعزيز بداية القطيعة مع السياسات السابقة، حيث ركّز توجّهه على بناء علاقات رسمية أقوى مع الحكومة اليمنية، بهدف مكافحة الإرهاب، وأدت هذه السياسة إلى تقليص العلاقة المباشرة بشيوخ القبائل تدريجيًا. لكن غداة وصول الملك سلمان إلى سدّة الحكم، وبدء التدخل العسكري بقيادة السعودية في اليمن لمواجهة جماعة الحوثيين (حركة أنصار الله) في مارس/ آذار 2015، عادت العلاقة بين السعودية وشيوخ القبائل إلى الواجهة من جديد، وإن شهدت توجّهاً مختلفاً. فَالصراع دَفَع بِالرياض إلى التحوّل عن سياساتها القديمة بتعزيز العلاقة مع شيوخ المناطق القبلية الشمالية، لتُركز على شيوخ المناطق الشرقية اليمنية في مأرب والجوف وشبوة والمهرة وحضرموت.

على ضوء ما تقدّم، وفي ظل التنافس الجاري بين المملكة والإمارات لبسط النفوذ في حضرموت، تسعى هذه الورقة التحليلية الى دراسة الأسباب وراء تحوّل علاقة السعودية نحو قبائل الشرق اليمني.

تنامي وتراجع النفوذ السعودي

خلال معظم تاريخ اليمن الحديث، ركزت السياسة السعودية على تعزيز نفوذها على قبائل المناطق الشمالية باليمن نظرا لممارسة هذه القبائل للشؤون السياسية وقُربها من مركز الحكم في صنعاء. كان الأمير سلطان بن عبد العزيز المسؤول عن تنفيذ هذه السياسة، ويُمكن القول بأنه أول من عمل على توثيق العلاقة بشيوخ القبائل الشمالية اليمنية خصوصا منذ اللقاء الشهير بينه وبين شيخ مشائخ اتحاد قبائل حاشد “عبدالله الأحمر” في جدة عام 1970.[2] فَالحضور الكبير لقبيلة حاشد في المناطق المحيطة بصنعاء، ودعمهم للجمهوريين خلال الثورة اليمنية 1962 ، منحهم امتيازات سياسية لا تضاهى في العقود التالية،[3] حيث مَثّل الشيخ عبد الله الأحمر الجناح السياسي للقبيلة في حين قاد الشيخ مجاهد أبو شوارب الجهود العسكرية لدعم القوات الجمهورية ضد نظام حُكم الإمامة في الفترة (1962-1968). تحظى مديرية خمر في محافظة عمران، والمعروفة أيضا باسم “مدينة السلام”، بأهمية سياسية كبيرة باعتبارها معقل قبيلة حاشد، لا سيما بعدما تعزّز النفوذ السياسي لحاشد عقب انعقاد مؤتمر خمر عام 1965.[4] أصبح الأمير سلطان معروفا بعقده اجتماعات مباشرة وتطوير علاقات شخصية مع شيوخ القبائل، مما ساهم في تعزيز النفوذ السعودي.

شهدت علاقة السعودية بشيوخ القبائل اليمنية فتورا كبيرًا مع وصول الملك عبدالله سدّة الحكم مطلع 2005، بينما في المقابل، تعززت العلاقات المباشرة بين الرياض وصنعاء. وافقت السعودية على دعم نظام علي عبدالله صالح عسكرياً في أعقاب اندلاع الحرب بين الحكومة اليمنية والحوثيين في 2004 . تزامن قرار السعودية بالتعامل مع الحكومة اليمنية، عوضاً عن القبائل، مع جهود الدولة اليمنية لعسكرة القبائل من أجل مواجهة الحوثيين بدلا من استخدام جيشها الوطني وقواتها الأمنية. غالبا ما عمدت الدولة اليمنية إلى حشد مقاتلين قبليين لإسناد جيشها في أي صراع محلي، في حال تخلل الجيش الضعف، إلا أنّ الدفع بهم في مواجهة جماعة عقائدية مسلحة في حروب صعدة عملت على إضعاف قوة القبائل الشمالية.[5]

بوفاة الأمير سلطان عام 2011، تراجعت علاقة السعودية بشيوخ القبائل أكثر فأكثر. ومع غياب همزة الوصل مع تلك القبائل، تحوّلت الرياض إلى تشكيل تحالفات تكتيكية قصيرة المدى.[6] تنبهت الرياض لضرورة استعادة علاقتها بالقبائل بعد تدخلها عسكريا في اليمن في مارس/ آذار 2015 (لدعم الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً في مواجهة انقلاب جماعة الحوثيين وسيطرتهم على العاصمة صنعاء)، إلا أن تركيزها هذه المرة كان على شيوخ المناطق الشرقية اليمنية الواقعة خارج سيطرة الحوثيين.[7]

كان هناك عدة أسباب لهذا التوجّه السعودي، فقد واجهت السعودية تحديات في ترميم علاقاتها مع قبائل المناطق الشمالية الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، نتيجة الهزيمة التي لحقت بالحلفاء القبليين وأدت إلى إضعاف نفوذهم. فضلا عن ذلك، أدت سيطرة الحوثيين على تلك المناطق، وما فرضته من قيود على الأنشطة السياسية، إلى تقليص سلطة ونفوذ مشايخ القبائل ممن كان لهم حضور في المشهد اليمني سابقاً. غادر العديد من الشخصيات القبلية البارزة مناطقهم بعد قصف الحوثيين لمنازلهم، مثل الشيخ صغير بن عزيز، والشيخ حسين الأحمر، والشيخ عبد الوهاب معوضة، [8] ممن انتقلوا للعيش في الخارج أو في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة المعترف بها دوليا. كما عمدت جماعة الحوثيين إلى استبدال العديد من الشيوخ بقيادات شابة موالية لهم فكرياً وأيديولوجياً ممن يُشاطرون الجماعة وجهة نظرها عن السعودية باعتبارها عدو.

مطلع 2017، اجتمع محمد بن سلمان – وزير الدفاع السعودي آنذاك – مع عدد من المشايخ في الرياض سعياً لترميم العلاقات السعودية مع قبائل اليمن بشكل عام، وقبائل الشرق بوجه خاص، حيث طمأنهم بقوله: “نحن معكم دائمًا في كل خطوة إلى آخر يوم في حياتنا كما كنا في السابق سوف نكون في المستقبل”.[9] يعود تحول السعودية نحو المناطق الشرقية باليمن لعدة عوامل؛ فالعديد من القبائل المحلية في هذه المناطق تعارض جماعة الحوثيين، وفي السنوات الأولى للصراع، شكلت بعض قبائل مذحج وبكيل في الجوف ومأرب تجمعات قبلية تقليدية تُعرف بالمطارح لحشد المقاومة العسكرية ضد الحوثيين.[10] كما شكلت تحالفاً قبلياً أصدر ما يسمى بـ”عهد وميثاق”، حيث نصت الوثيقة على مطالبة الحوثيين بالانسحاب من أراضيهم، وحشد هذا التحالف القبلي 12 ألف مقاتل من أبناء الإقليم لمواجهة الحوثيين.[11] أصبحت مأرب، تحديداً، مركزًا رئيسيا لأبناء المناطق الشمالية المعارضين لجماعة الحوثيين والهاربين من بطشها. ولذا، كان من مصلحة السعودية أن تعزز من قوة شيوخ هذه المناطق وإدماجهم في عمليات التحالف العسكري بقيادتها، لمنع الحوثيين من التمدد والتوسع الى الجوف وشبوة وشرقيّ مأرب.

يُدرك المتتبّع لعَلاقة السعودية بقبائل هذه المحافظات أنها لم تخلُ من التعقيدات، فَهناك بعض التعاطف مع الحوثيين من قبل بعض الفئات الاجتماعية من الطبقة الهاشمية (ممن يدّعون نسبهم إلى سلالة النبي محمد تماماً كالحوثيين)، إلا أن تأثير هذه الفئات – المعروفة بطبقة السادة أو الأشراف – ليس قوياً في السياسة القبلية. كما أن الطبيعة المعقدة للمجتمعات القبلية في هذه المناطق، التي تهيمن عليها الثارات، جعل السعودية غير قادرة على توحيدها تحت مظلة واحدة وبما يحقق مصالحها.

هذا التوجّه السعودي المائل إلى التخلي عن تحالفاتها مع بعض المشايخ، متى ما انتهت المصلحة، لم يخدمها كثيراً. على سبيل المثال، أُقيل محافظ شبوة محمد بن عديو (شيخ قبلي و عضو في حزب التجمع اليمني للإصلاح) من منصبه في ديسمبر/كانون الأول 2022، بسبب مطالبته بانسحاب القوات الإماراتية من منشأة بلحاف للغاز الطبيعي المسال، من ضمن أسباب أخرى. كما فَقَد شيخ بارز آخر، أمين العكيمي، حظوته لدى السعوديين بعد أن بدأ الحوثيون بالسيطرة على المديريات الغربية (المأهولة بالسكان) لِمحافظة الجوف في مارس/ آذار 2020، ليُوضع لاحقاً تحت الإقامة الجبرية في السعودية ويُعزل من منصبه كمحافظ الجوف.[12]

في أقصى شرق اليمن، حاولت السعودية بناء علاقات مع قبائل المهرة، الواقعة على الحدود مع سلطة عُمان، إلا أنّ العلاقة القوية التي تربط القبائل هناك بسلطنة عُمان لم تمنح السعودية فرصة لممارسة نفوذ عليها. تنقسم قبائل المهرة أساساً إلى ثلاثة معسكرات: الأول يميل لسلطة عُمان بقيادة الشيخ علي الحريزي، والثاني يميل للسعودية بقيادة محافظ المهرة الشيخ محمد علي ياسر، والثالث يميل للإمارات والمجلس الانتقالي الجنوبي (المدعوم إماراتياً) بقيادة المحافظ السابق راجح باكريت، الذي كان حليفاً للسعودية فيما مضى. لذا، وجدت السعودية صعوبة في تقديم نفسها كراعٍ رئيسي لقبائل المحافظة المتناقضة في توجهاتها، وفي كسب ولاءات تلك القبائل، بعد أن أصبحت المهرة ساحة مفتوحة للتنافس الإقليمي. [13] بيد أن التنافس بين الأطراف الإقليمية لكسب ولاءات القبائل كان أكثر حدّة في حضرموت.

التنافس لكسب ولاءات القبائل الحضرمية

لطالما لعبت القبائل في حضرموت دوراً هاماً في المشهد الاجتماعي والسياسي باليمن. فَقبل استقلال اليمن الجنوبي عام 1967، تشكلت سلطنات عديدة بزعامة قبائل حضرمية، ولعبت هذه القبائل دوراً هاماً في التاريخ السياسي الحديث لليمن من خلال دعمها أو معارضتها للسلطات الحاكمة.[14] وبالتالي، يُمكن النظر الى هذه القبائل باعتبارها شبكة من التحالفات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تربط فصائل صغيرة داخل اتحادات كبرى، وتتقيّد بمبدأ أساسي يَعتبر الهجوم على قبيلة واحدة كَهجوم على الكلّ. تُعتبر قبائل حضرموت متشعبة ومنتشرة في جميع أنحاء المحافظة الشاسعة، ولها امتداد وروابط مع القبائل العربية في السعودية المنتشرة شمال حضرموت، ومع قبائل المحافظات الشرقية اليمنية المجاورة مثل المهرة وشبوة.

من أبرز القبائل الحضرمية هي قبائل نهد التي يتزعمها الشيخ صالح بن علي بن ثابت النهدي، وهو كبير مشايخ قبيلة نهد وأيضًا “حَكَمْ” جميع قبائل حضرموت (أي المَرْجِع في العُرف القبلي الذي يُحترم حُكمه من قبل الجميع)، بينما يُعتبر الشيخ عبدالله بن صالح بن عجاج الرجل الثاني في زعامة قبائل نهد. بالإضافة الى نهد، توجد قبائل آل الكثيري التي حكمت إحدى السلطنات في المحافظة، وتنتشر في وادي حضرموت امتداداً إلى المهرة ويرأسها الشيخ عبدالله بن صالح الكثيري- وهو رئيس تجمّع قبلي يعرف باسم “مرجعية حلف قبائل حضرموت الوادي والصحراء”. كما توجد قبائل الحموم المنتشرة في قصيعر والشحر والمسيلة ومديريات أخرى ، ويرأسها الشيخ عمر بن حبريش – وهو رئيس مُكوّن قبلي يُعرف باسم “حلف قبائل حضرموت”. فضلا عن ذلك، تتواجد قبائل بني مرة، التي تقطن وادي حضرموت ويرأسها عمر بن مسلم بن هلابي، [15] إلى جانب حلف قبائل بني ظنة، المنتمية إلى قبائل بني تميم العربية، ويرأسها المقدم أنور بن يماني التميمي – وهو نائب رئيس مرجعية حلف قبائل حضرموت الوادي والصحراء. كما تضم حضرموت قبائل أخرى بارزة مثل المناهيل، والعوامر، والصيعر، وقبائل دوعن، و با وزير، وقبائل نوّح وسيبان.

تاريخياً، حافظت قبائل حضرموت على علاقات قوية مع السعودية، حيث تشكلت هذه العلاقة عبر تاريخ عريق من أنشطة التجارة والتفاعلات الاقتصادية. فَالعديد من رجال الأعمال الحضارم وأُسرهم مقيمون في مُدن سعودية مثل الطائف، [16] وأصبح البعض منهم يحظى بِصيتٍ عالٍ مثل سالم أحمد بن محفوظ، وعبدالله أحمد بقشان ، وآل بامعوضه، وآل باخشب، وآل بن لادن.[17] تحمل بعض القبائل التي تقع على الشريط الحدودي مع السعودية جنسيات سعودية، بينما يحمل البعض الآخر بطاقة إقامة تتيح لهم الدخول والتنقل داخل أراضي المملكة.[18]

سعت السعودية إلى توسيع شبكات علاقاتها مع القوى القبلية في حضرموت، لعدة أسباب: أولًا، تعويضاً لخسارتها نفوذها في شمال اليمن بسبب سيطرة الحوثيين على القبائل الشمالية. ثانيًا، حماية جزء واسع من حدود السعودية المشتركة مع محافظة حضرموت لمواجهة أي تطورات أمنية محتملة. ثالثًا، سعياً لتوسيع نفوذها في محافظة حضرموت المترامية الأطراف، والتي تمثل ثلث مساحة اليمن تقريبا، في إطار تنافسها مع الإمارات. فَخلال العام الماضي، كثفّت السعودية من الدعم السياسي والمالي للرموز القبلية الحضرمية بهدف تقليص النفوذ الإماراتي في المحافظة الذي تجلى بشكل أساسي من خلال نشاط المجلس الانتقالي الجنوبي. رابعاً، ترى السعودية أن حضرموت يُمكن أن تكون مكاناً خصباً لاستثماراتها في المستقبل عبر إمكانية إدماجها في خططها الاقتصادية الطموحة، بما في ذلك طموحها القائم منذ فترة طويلة بمدّ خط أنابيب نفط سعودي عبر اليمن إلى بحر العرب، وهو ما قد يُخلصها من عبء التهديد الإيراني على تصدير نفطها عبر مضيق هرمز.[19]

لوحظ خلال السنوات الماضية نجاح الإمارات في استقطاب ولاءات الكثير من الرموز المجتمعية والقبلية، خاصة من الصف الثاني من المشايخ القبليين، كوسيلة لبسط نفوذها (ولو جزئياً) ونفوذ حليفها المحلي المجلس الانتقالي الجنوبي الطامح إلى إعادة إنشاء دولة مستقلة في مناطق اليمن الجنوبي سابقاً. وكان أحد اختراقاتها الهامة هو استقطاب فادي باعوم، رئيس الحراك الثوري في حضرموت وأحد الشخصيات الانفصالية المعروفة، الى جانب استقطاب عناصر من مؤتمر حضرموت الجامع (وهو تكتل سياسي أُسّس عام 2017 ويضم ممثلين عن قبائل حضرمية، وسياسيين، وأكاديميين، وقيادات دينية، ونشطاء). ومن بين المشايخ الآخرين الموالين للمجلس الانتقالي الجنوبي: الشيخ حسن الجابري، قائد الهبة الحضرمية ورئيس لقاء حضرموت العام (وهما مُكوّنان تم تأسيسهما من قبل المجلس الانتقالي الجنوبي)، و علي الكثيري (من قبيلة آل كثير)، وأحمد بن بريك (مسؤول كبير في المجلس الانتقالي الجنوبي). تتلقى هذه القوى (عملياً) دعماً مباشراً من الإمارات ومن قوات النخبة الحضرمية المدعومة إماراتياً (التي شُكّلت في عاصمة المحافظة “المكلا” في عام 2016).

كانت أحد أبرز أهداف الإمارات والمجلس الانتقالي الجنوبي في حضرموت خلال السنوات الأخيرة هو التخلص من قوات المنطقة العسكرية الأولى في سيئون، آخر ما تبقى من قوات الجيش اليمني النظامي في جنوب البلاد. استغل المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب الحضرمية بالحُكم الذاتي كوسيلة لكسب التأييد الشعبي لحُجته، والدفع بفكرة أن تُصبح حضرموت إقليماً فيدرالياً في إطار أجندة المجلس الانتقالي ورؤيته لدولة الجنوب المنشودة.[20] هذا الموقف كان بمثابة ورقة ناجحة بيد قوات النخبة الحضرمية لتجنيد أبناء المحافظة وكسب ولاء مشايخ القبائل، ممن يُحبّذون جميعاً فكرة الحكم الذاتي في حضرموت.

و كَدلالة على تنامي نفوذ حلفاء المجلس الانتقالي داخل حضرموت، عقدت الجمعية الوطنية للمجلس دورتها الاعتيادية السادسة في المكلا في مايو/ أيار العام الماضي، والتي صادفت الذكرى التاسعة والعشرين للمطالب الجنوبية بفك الارتباط مع الجمهورية اليمنية مع نشوب الحرب الأهلية عام 1994. حرص المجلس الانتقالي، خلال الحَدَث، على استعراض قوته من خلال المدرعات الإماراتية التي جابت شوارع المكلا، مما أثار حفيظة بعض القوى القبلية والمجتمعية الحضرمية.[21] وفي كلمة غاضبة ألقاها بتاريخ 22 مايو/أيار 2023، ذهب رئيس الجمعية الوطنية أحمد بن بريك إلى حدّ وصف من يُعارض مشروع المجلس الانتقالي “بالصفاصيف”[22] (أي الصراصير). من جانبه ، وصف فرج البحسني – محافظ حضرموت السابق وعضو مجلس القيادة الرئاسي الذي تم استقطابه إلى قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي في وقت سابق من ذلك الشهر – التجمّع بأنه “لحظة تاريخية حاسمة”.[23] كان استقطاب البحسني انتصارا كبيرا يُحسب للمجلس الانتقالي الجنوبي، على الرغم من أن السعودية لا تزال تحتفظ بولاءات رجال أعمال وشخصيات سياسية بارزة ذات خلفيات قبلية قوية، مثل عبد الله بقشان، وبدر باسلمة، وخالد بحاح (رئيس الوزراء اليمني السابق الذي تم تعيينه مؤخرا سفيرا لليمن لدى جمهورية مصر العربية).

وفي مسعى منها لكبح النفوذ الإماراتي المتنامي وتعزيز سيطرة الحكومة اليمنية، عَقَدت السعودية سلسلة اجتماعات مع رموز حضرمية تمخض عنها إشهار ما يُعرف باسم “مجلس حضرموت الوطني” في يونيو/ حزيران العام الماضي.[24] من بين الشخصيات التي وقعت على وثيقة تأسيس المجلس: محافظ حضرموت مبخوت بن ماضي، ونائب رئيس مجلس النواب محسن باصره، ورئيس مرجعية حلف قبائل حضرموت الوادي والصحراء الشيخ عبد الله صالح الكثيري، لكن كان من اللافت رفض رئيس مؤتمر حضرموت الجامع، الشيخ عمرو بن حبريش، الانضمام الى هذا الكيان الجديد[25] ، رغم مشاركته في النقاشات الأولية التي أفضت إلى تأسيسه لاحقاً. يسعى بن حبريش حالياً الى تقديم مؤتمر حضرموت الجامع ككيان مستقل وأكثر أصالة في تمثيل المجتمع الحضرمي والرأي العام للحضارم، بعيداً عن مجلس حضرموت الوطني الذي أُسّس وفقاً لما يلبي المصالح السعودية ومصالح المكونات الحضرمية المنخرطة في إطار هذا المجلس. وقرار بن حبريش ما هو سوى دلالة على الطبيعة المعقدة للتحالفات في المحافظة.

حاولت السعودية ربط مبادرتها السياسية بمنافع اقتصادية، حيث أعلن رئيس مجلس القيادة الرئاسي “رشاد العليمي” خلال زيارة له إلى المحافظة بعدها بفترة، عن حزمة من المشاريع التنموية في حضرموت بقيمة 266 مليون دولار أمريكي.[26] أما على المستوى العسكري، فقد سعت السعودية أيضاً إلى التأثير على مجرى الأحداث من خلال تشكيل قوات درع الوطن أوائل عام 2023، المؤلفة من جنود معظمهم من المحافظات الجنوبية والمنطقة العسكرية الأولى، وهي خطوة يُنظر إليها على أنها استجابة جزئية للأصوات الحضرمية المطالبة بقدر أكبر من الحكم الذاتي المحلي.

الخاتمة

يُهدد تركيز السعودية على مشايخ حضرموت – في إطار مساعيها لكبح النفوذ الإماراتي – بتعزيز الانقسام المجتمعي و حالة التشظي السياسي، ولذا، قد يكون من الأنسب للسعودية تبنّي سياسة أكثر نجاعة وفعالية من خلال بناء علاقات طويلة الأمد مع المسؤولين الرسميين اليمنيين تقوم على أساس المصالح المشتركة وبما يُحقق الأمن والاستقرار للجميع، عوضاً عن السعي لخدمة مصالحها الذاتية والذي لن يعود عليها سوى بمَكاسب قصيرة الأجل. يحتاج اليمنيون – سواء المواطنون العاديون أو مشايخ القبائل – إلى استعادة ثقتهم بالنظام السياسي، ولتحقيق ذلك، يُمكن للأطراف الخارجية الداعمة لفصائل محلية، كالسعودية، مساعدة اليمن على الخروج من أزمته الحالية وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، ودعم المجتمعات المحلية في الاضطلاع بدورها في مرحلة إعادة الإعمار. إن الاستمرار في انتهاج السياسة قصيرة الديمومة، بالاعتماد على القوى القبلية لن يؤدي سوى إلى مزيد من الانقسام والتشرذم السياسي بين القبائل نفسها، الأمر الذي لا يخدم السلام في اليمن ولا أمن المملكة.


هذه المقالة هي جزء من سلسلة إصدارات يُنتجها مركز صنعاء بتمويل من الحكومة الهولندية. تستكشف السلسلة قضايا ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وبيئية، بهدف إثراء النقاشات وصنع السياسات التي تعزز السلام المستدام في اليمن.

الهوامش
  1. زياد الكوراني، “رؤية جيوستراتيجية لمستقبل الصراعات الاقليمية في منطقة تزاحم الإستراتيجيات”، (ط1، دار مجد للنشر والتوزيع، الأردن، 2018) ص75.
  2. مذكرات الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر: قضايا ومواقف، ط1، (الآفاق للطباعة والنشر، صنعاء، 2008) ، ص 194.
  3. ميساء شجاع الدين، “ما تبقى من نفوذ حاشد: صعود وأفول القبيلة الأقوى في اليمن”، تقرير اليمن، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية ، 17 سبتمبر/ أيلول 2023، https://sanaacenter.org/ar/the-yemen-review/august-2023/20895
  4. عادل دشيلة، “الحركة الحوثية والقبيلة اليمنية بين عامي 2011 و2020″، (إسطنبول: دار ومكتبة الاسرة العربية، 2021)، ص. 104.
  5. عادل دشيلة، قبائل شمال اليمن بين حقبة صالح وعهد الحوثيين: دراسة مقارنة، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 2022. https://sanaacenter.org/ar/publications-all/analysis-ar/16724
  6. نيل بارتريك، “المغامرة السعودية في اليمن”، تحليلات (صدى) عن الشرق الأوسط، مركز كارنيغي للشرق الأوسط ، 1 أكتوبر/ تشرين الأول2015 ، https://carnegieendowment.org/sada/61476
  7. “الصراع الصامت على النفوذ: مستقبل التحالف السعودي الإماراتي في اليمن”، مركز أبعاد للدراسات والبحوث ، 22 سبتمبر/ أيلول 2019. https://abaadstudies.org/news/topic/59819
  8. عادل دشيلة، “الحركة الحوثية والقبيلة اليمنية بين عامي 2011 و2020″، (إسطنبول: دار ومكتبة الاسرة العربية، 2021)، ص. 92.
  9. ياسر نجدي، “ولي العهد في حديث سابق مع القبائل اليمنية: نحن معكم إلى آخر يوم في حياتنا” ، جريدة سبق، 2 ديسمبر/ كانون الأول 2017، https://cutt.ly/ZCFuAPs
  10. أحمد الطرس العرامي ، “القبائل والدولة في مأرب”، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية ، 5 مايو/ أيار 2021، https://sanaacenter.org/ar/publications-all/analysis-ar/13968
  11. “القبيلة والنفط في حرب اليمن.. معركة مأرب” ، مركز أبعاد للدراسات والبحوث، 2020. https://abaadstudies.org/en/policy-analysis/topic/59855
  12. “هجمات الحوثيين تدفع الحكومة إلى تصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية”، تقرير اليمن، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية ، 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، https://sanaacenter.org/ar/the-yemen-review/october-2022/19069
  13. عامر الدميني، “تعرّف على القوى والشخصيات التي تتصدر المشهد اليوم في محافظة المهرة (إنفوجرافيك)”، الموقع بوست، 28 مارس/آذار 2019، https://almawqeapost.net/reports/39333
  14. د. أحمد باحارثة ، “الدور السياسي للقبيلة في حضرموت”، موقع المدائن بوست ، https://almadayinpost.com/7800.html
  15. مقابلة أجراها الباحث عبر الهاتف مع شخصية قبلية من قبائل بني مرة بوادي حضرموت، بتاريخ 2 يوليو/ تموز 2023.
  16. مشعل الحارثي ، “بعض العوائل والأسر الحضرمية بالطائف” ، موقع صحيفة الجزيرة. كوم ، 12 يونيو/ حزيران 2023، https://www.al-jazirah.com/2023/20230612/rj1.htm
  17. نبيل سلطان و ديفيد وير، “الحضارم: رواد الأعمال العظماء في شبه الجزيرة العربية”، مؤتمر الاكاديمية الأوروبية للإدارة (يورام) ، روما – إيطاليا، 2010 ، ص 6. https://www.researchgate.net/publication/277311125_Hadhramis_The_Great_Entrepreneurial_Leaders_of_Arabia
  18. مقابلة أجراها الباحث عبر الهاتف مع أحد الرموز القبلية من وادي حضرموت، بتاريخ 1 يوليو/ تموز 2023.
  19. يحيى أبو زيد، “هل استيقظت الرياض من حلمها بإنشاء أنبوب نفط في المهرة؟، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية ، 24 ديسمبر/ كانون الاول 2021، https://sanaacenter.org/ar/publications-all/analysis-ar/16060
  20. وضاح العوبلي ، “اليمن وإشكالية بناء التسويات: اتفاقيات متناقضة وضامن غائب”، مركز ساوث 24 للأخبار والدراسات ، 26 سبتمبر/ أيلول 2023، https://south24.net/news/news.php?nid=3546
  21. “تقدير موقف – تشكيل مجلس حضرموت الوطني: الدلالات ومحددات المستقبل” ، مركز مداد حضرموت للأبحاث والدارسات الاستراتيجية، يوليو/ تموز 2023 ، ص 5 ، https://drive.google.com/file/d/1-z8gN90nc-4Od4nYdXSkLZ9_-OosecWm/view
  22. “كلمة اللواء ركن أحمد سعيد بن بريك في الجلسة الختامية للدورة السادسة للجمعية الوطنية”، قناة عدن المستقلة، 22 مايو/أيار 2023، https://tinyurl.com/mvzu4kkx
  23. “صعود المجلس الانتقالي الجنوبي من جديد ، تقرير اليمن – مايو/ أيار 2023” ، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 22 يونيو/ حزيران 2023، https://sanaacenter.org/the-yemen-review/may-2023/20386
  24. “اليمن: إشهار مجلس حضرموت الوطني كحامل سياسي” ، جريدة عكاظ، 20 يونيو/ حزيران 2023 ، https://www.okaz.com.sa/news/politics/2136595
  25. نايف القداسي، “حضرموت 2023.. السعودية في مُهمّة استعادة منطقة نفوذ تاريخي خسرته لصالح الإمارات”، موقع المصدر أونلاين، 5 يناير/ كانون الثاني 2024، https://almasdaronline.com/articles/288255
  26. عبدالهادي حبتور ، “العليمي يدشن مشاريع تنموية في حضرموت تتجاوز قيمتها 266 مليون دولار”، صحيفة الشرق الأوسط، 25 يونيو/ حزيران 2023 ، https://aawsat.com/العالم-العربي/4401021-العليمي-يدشن-مشاريع-تنموية-في-حضرموت-تتجاوز-قيمتها-266-مليون-دولار