إصدارات الأخبار تحليلات تقرير اليمن أرشيف الإصدارات

طفولة ضائعة: ظاهرة تجنيد الأطفال في اليمن مستمرة بلا هوادة

Read this in English

قُدّر عدد الأطفال اليمنيين المجندين خلال الفترة من 1 يوليو/تموز 2021 وحتى 31 ديسمبر/ كانون الأول 2022 بـ 2233 طفل، رغم الهدوء النسبي الذي أعقب الهدنة المبرمة في أبريل/ نيسان 2022م برعاية أممية، وهذا يبدّد الاعتقاد السائد لدى الكثيرين بتخلي الآلاف من الأطفال المجندين من قبل الأطراف المتحاربة عن مهامهم القتالية والعودة إلى مقاعد الدراسة.

ما يحدث على أرض الواقع هو عكس تلك الآمال تماما. فقد أشار تقرير أممي صدر عام 2021 بعنوان “عندما يتعرقل التعليم” إلى عدم عودة الأطفال المجندين سابقاً إلى مقاعد الدراسة بسبب افتقارهم إلى الدعم الكافي لذلك، من ضمن أسباب أخرى. يضيف التقرير بأن هناك “قلق متزايد من أن الأطفال غير الملتحقين بالمدارس أو الذين تسربوا من مدارسهم في الآونة الأخيرة قد لا يعودون للدراسة اطلاقًا إذا لم يتم دعمهم بشكل صحيح”. يعكس هذا التأثير المفجع والطويل الأمد لظاهرة تجنيد الأطفال على المجتمع اليمني حيث سلب جيلا بأكمله مستقبله.

استمراراً لهذه الظاهرة، أشارت تقارير صدرت مؤخراً إلى استغلال جماعة الحوثيين (أنصار الله) الحرب الجارية في غزة كفرصة جديدة لتجنيد الأطفال ضمن صفوف قواتها، وهو ما يفرض ضرورة ملحة للتصدي لهذه الظاهرة الخطيرة. ورُغم أن تجنيد الأطفال في اليمن مُورس من قبل جميع الفصائل المتحاربة، إلا أن التقارير الصادرة عن منظمات محلية ودولية تشير إلى تجنيد الحوثيين لأكثر من عشرة آلاف طفل منذ عام 2021.

تجنيد الأطفال مستمر بلا هوادة

استغل الحوثيون الهدنة المبرمة عام 2022 كفرصة لتعبئة وتجنيد المقاتلين، بمن فيهم أطفال تم الدفع بهم قسرا إلى ساحات المعارك في غالب الأحيان. فَبحسب تقارير، أجرى المسؤولون الحوثيون زيارات ميدانية وأطلقوا حملات تجنيد الهدف منها استقطاب المقاتلين والتعبئة لمرحلة جديدة من الحرب. ففي أواخر سبتمبر/أيلول 2023، ظهر قيادي حوثي بارز في مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي ، متحدثا إلى طلاب مدرسة في محافظة عمران الواقعة على بُعد 50 كيلومترا شمال صنعاء. رصد المقطع القيادي وهو يقول بأنه يبحث عن الطلاب المُستعدّين لإدانة مؤيدي الثورة اليمنية (التي اندلعت عام 1962) وأولئك المهتمون بحماية قِيَم البلاد وتصحيح البوصلة الأخلاقية للمجتمع. جاء ذلك على خلفية خروج العديد من اليمنيين إلى الشوارع للاحتفال بذكرى الثورة، في تحدٍ واضح لحُكم الحوثيين، وهو ما دفع الجماعة إلى فرض إجراءات أمنية مشددة.

عملية التجنيد

استخدمت أطراف الصراع أساليب مختلفة لتجنيد الأطفال في ساحة المعركة. فقد تبنى الحوثيون، على سبيل المثال، تكتيكات ناجحة صُقلت على مدار 10 سنوات تقريباً من الحرب. تعود هذه التكتيكات إلى فترة تأسّس نواة الجماعة من رَحِم حراك سعى لإحياء الامامة الزيدية، وعُرف بمنتدى “الشباب المؤمن” بصعدة في تسعينيات القرن الماضي. تم تطوير أساليب التلقين هذه وأصبحت أكثر انتشارا بعد استيلاء الجماعة على صنعاء عام 2014.

وفقا لمنظمة ميون لحقوق الإنسان والتنمية، يعتمد الحوثيون أساليب لاستقطاب وتجنيد الأطفال تشمل استغلال الظروف المعيشية والاقتصادية المتدهورة؛ والتلقين العقائدي الذي غالباً يستند إلى خطاب الكراهية؛ وبثّ الرسائل عبر الإعلام الرسمي والأهلي ومنصات التواصل الاجتماعي؛ والسيطرة التامة على المؤسسات التعليمية والمؤسسات الدينية؛ واستغلال المراكز الصيفية، بالإضافة إلى استخدام التضليل والاختطاف وممارسة الضغوط على زعماء القبائل والمشايخ والأعيان والوجاهات الاجتماعية. غالبا ما تكون هذه الشخصيات مسؤولة بشكل مباشر عن تجنيد الشباب المقاتلين، باستخدام صلاحياتهم في عمليات تسليم المعونات كحافز للتجنيد.

يعتمد الحوثيون كذلك أساليب أخرى أكثر تأثيراً ونجاعة، فقد اعتادوا إطلاق ما يعرف بالكنى على الأطفال المجندين وهو تقليد شائع في معظم المجتمعات العربية، حيث لا يشار إلى الرجال بأسمائهم بل بكنية “أبو [اسم أول نَجل]، مثلاً “أبو محمد”). يُستخدم تقليد إطلاق الكنى على نطاق واسع في جميع أنحاء الشرق الأوسط، لكن في اليمن تحديداً، يستخدمه الحوثيون مع الصغار كَدلالة على النُضج أو البلوغ. يجد الحوثيون في هذا التقليد وسيلة لتعزيز شعور الأطفال بأنهم بالغين وتهيئتهم لتخطّي مرحلة الطفولة تماماً، عبر تبني سردية زائفة تتمحور حول الطريقة التي سيُعاملهم بها المجتمع والاحترام الذي سَتمنحهم إياه الجماعة.

برزت قصص عديدة لحالات استخدم فيها الحوثيون هذا التكتيك. على سبيل المثال، جنّد الحوثيون طفلا يبلغ من العمر 11 عاما وأطلقوا عليه اسم “أبو ليث”. لم يكن والد الطفل يعرف بمقتله في إحدى المعارك حتى رأى صورته على لافتة طُبع تحتها اسم “الشهيد أبو ليث”. يجد العديد من الآباء اليمنيين صعوبة كبيرة في معرفة مصير أطفالهم بعد إطلاق كنى عليهم بهذه الطريقة، وغالبا لا يتم إبلاغهم بِمقتل أطفالهم في المعارك.

منتصف عام 2019، جمعت منظمة العمل الدولية عدد من وجهاء صنعاء في ورشة عمل لإذكاء الوعي بخطورة تجنيد الأطفال وتأثيره المدمر ليس فقط على الصغار ولكن على مجتمعاتهم أيضاً. للأسف، لم يكن للتدخلات الدولية أي تأثير يُذكر، حيث صُنف اليمن عالمياً كأحد البلدان ذات أعلى معدلات تجنيد الأطفال في عام 2019.

مواطن ضعف الأطفال المجندين

وفقاً لمَكتب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة المعني بالأطفال والنزاع المسلح، جميع المهام التي توكل للأطفال المُجندين هي مهام خَطِرة، وأحياناً مميتة. كثير من الفتيات والفتيان يُستخدمون بدايةً في مهام للدعم، تنطوي عادة على مخاطر جسيمة ومشقة بالغة. من ضمن المهام التي يُعهد بها عادة إلى الأطفال: دعم القوات البرية، كالعمل بوصفهم “حمّالين” للذخائر الثقيلة أو حتى الجنود المصابين، كما يُستخدم بعض الأطفال كمستطلعين أو رسلاً أو طهاة. يتم استضعاف الفتيات المجندات بصورة خاصة، حيث غالباً ما يكنّ عرضة لخطر الاعتداء الجنسي.

في قصة الطفل “أبو ليث” البالغ من العمر 11 عاما، وعد المُجندون والده بأن تكون مهامه متناسبة مع عمره الصغير. لكن بمجرد وصوله إلى ساحة المعركة، دُفع به إلى الصفوف الأمامية بدون تلقي تدريب كاف يساعده على حماية نفسه، ليلقى حتفه ضمن قتلى الحرب الذين ارتفعت أعدادهم باستمرار.

نداءات لا تلقى آذانا صاغية

لم تلق نداءات منظمات حقوق الإنسان وحماية الطفل المستنكرة لظاهرة تجنيد الأطفال في صفوف الجماعات المسلحة آذانا صاغية، سواء في اليمن أو في بلدان أخرى حول العالم تشهد صراعات. حذر تقرير اليونيسف (عام 2021) من ضياع مستقبل الجيل القادم في اليمن، بالقول “ثمة احتمال حقيقي للغاية بأن يفقد جيل كامل من الأطفال فرصة استغلال طاقاتهم الكامنة إذا لم يتم في الوقت الراهن معالجة التحديات التي تقف أمام النظام التعليمي على ٍ نحو ملائم، وعلى المدى المتوسط إلى المدى الطويل”.

في أبريل/نيسان 2022، أدركت الأمم المتحدة خطورة تغيير الحوثيين للمناهج التعليمية بهدف تجنيد الأطفال، وعلى ضوء ذلك، اتفقت مع سلطة الحوثيين على خطة عمل لإنهاء ومنع تجنيد الأطفال التي تؤدي إلى قتلهم أو تشويههم، واستهداف المدارس والمستشفيات، إلا أن تلك الخطوة لم تُحدث فرقاً يُذكر في اليمن حيث استمر تجنيد الحوثيين للقُصّر بلا هوادة.

في مايو/أيار الماضي، طالبت منظمة يمنية “منظمة سام للحقوق والحريات”، الحكومة المعترف بها دوليا بإصدار تشريع ينص على تشديد عقوبة المتورطين في تجنيد الأطفال واستخدامهم في أعمال القتال، وفتح مراكز تأهيل للأطفال المجندين قبل إعادتهم إلى أسرهم وإعادة دمجهم في المجتمع. كما أوصت المنظمة بأن تصادق الحكومة الشرعية “على نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية لمساءلة المتورطين في جرائم تجنيد الأطفال”.

تجذّر ثقافة تجنيد الأطفال

مما لا شك فيه أن الأطراف المتحاربة دفعت بالعديد من الأطفال إلى الانضمام لصفوفها، إلاّ أن أصول المشكلة تعود إلى ما قبل اندلاع الحرب. فقد غذّت الصراعات القبلية والاحتراب الداخلي ثقافة تجنيد المقاتلين الصغار، وتدفع كثير من الأسر أبناءها إلى القتال بسبب الثارات الدموية التي لا تتوقف. يروي أحد الناجين (على معرفة بالكاتب) المعاناة التي خلفتها حرب قبلية استمرت لأكثر من عشر سنوات في مديرية العدين بمحافظة إب، وكيف قضت تلك الحرب على سنوات طفولته وسلبته أصدقاءه الذين لقوا حتفهم أمام عينيه أثناء القتال. وأشار الناجي إلى أن انخراطه في حرب قبيلته أجبره على ترك المدرسة وحمل السلاح، شأنه شأن أطفال آخرين كبروا أيضا في ساحات القتال حيث ضاعت طفولتهم. هذا الشخص هو نموذج من أبناء جيل افتقروا إلى دعم يُعيدهم إلى مقاعد الدراسة ويُعيد إدماجهم في المجتمع، وتُركوا بقدر محدود من المهارات لا تتعدى الخبرة القتالية.

هذه التجارب تؤكد على أهمية إشراك الأطراف القبلية في أي جهود تسعى لمعالجة قضية تجنيد الأطفال في اليمن.من المهم أن تُصبح المجتمعات المحلية لاعبا محوريا يُساهم في التصدي لظاهرة تجنيد الأطفال، فّبدون دعم أفراد المجتمع وايلاء أولوية للتعليم، سيُترك الأطفال بلا حماية وعُرضة للانجرار إلى العنف القائم حولهم.


هذه الورقة هي جزء من سلسلة منشورات لمركز صنعاء تحت مبادرة “منتدى سلام اليمن” الساعية إلى تمكين الجيل القادم من الشباب اليمني والجهات الفاعلة في المجتمع المدني وإشراكهم في القضايا الوطنية الحرجة.

مشاركة