افتتاحية مركز صنعاء
مع مرور عام على توقيع اتفاق الرياض دون تنفيذ معظم بنوده، تستمر الآمال المعلّقة عليه ليكون بمثابة قوة موحدة بالتلاشي، فيما يلوح في الأفق التقسيم الفعلي للبلاد أكثر من أي وقت مضى.
وكما يوحي الاسم، جرى الاتفاق بهندسة سعودية، سعت من خلاله الرياض لتولي السلطة المطلقة على القوات اليمنية التي تقاتل جماعة الحوثيين المسلحة -استولت على العاصمة صنعاء ومعظم شمال اليمن قبل خمس سنوات -ووضع حد للمواجهات العنيفة بين تلك الأطراف التي قوّضت خلافاتها المعركة ضد عدوها المشترك.
تصوّر الاتفاق ما يلي: ستصبح السعودية الراعية للمجلس الانتقالي الجنوبي، وتتولى زمام الأمور من الإمارات التي قلّصت تدخلها العسكري في اليمن، وسيُدمج المجلس الانتقالي في الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا.
طرد المقاتلون التابعون للمجلس الانتقالي الحكومة اليمنية من عاصمتها المؤقتة عدن في أغسطس/آب 2019؛ وبالتالي قضى الاتفاق بتخلي المجلس عن سيطرته على المدينة ودمج قواته المسلحة في قوام القوات العسكرية والأمنية للحكومة مقابل منح شخصيات من المجلس مناصب وزارية وسياسية وأمنية وغيرها، ومشاركة ممثلين عن المجلس في أي وفد حكومي مستقبلي يحضر محادثات السلام التي ترعاها الأمم المتحدة لإنهاء الحرب الأوسع نطاقًا.
كان من المفترض أن يبدأ تنفيذ بنود الاتفاق السياسية والعسكرية على الفور، وتُستكمل في غضون ثلاثة أشهر، وهو جدول زمني طموح للغاية وغير منطقي لإتمام عملية دمج شامل بين خصمين لدودين.
تعثر تطبيق الاتفاق؛ إذ لم يتم الالتزام بالجدول الزمني لتنفيذ أي من بنوده، رغم جهود السعودية لإحيائه – بما في ذلك الجهود التي بُذلت خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول – وعقدها الكثير من المحادثات وسط جو من التكهنات دون تحقيق أي نتيجة.
تعرقل تنفيذ الاتفاق نتيجة عدة عوامل من بينها العداء الشديد بين طرفي الاتفاق، المجلس الانتقالي الجنوبي وحكومة هادي، وافتقار الاتفاق إلى تفاصيل بخصوص آلية التنفيذ، وبطء السعودية في اتخاذ القرارات اللازمة في الاستجابة للظروف المتغيرة على الأرض.
أما العامل الأهم وراء تعثر التنفيذ كان الخلاف الجوهري حول ماذا يُنفذ أولًا، الشق السياسي أم الأمني؟ يريد المجلس تأمين موقعه السياسي قبل التخلي عما يمنحه أفضلية عسكرية في أجزاء من جنوب اليمن، بينما يريد الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي دمج قوات المجلس عسكريًا وأمنيًا ضمن قوات الحكومة قبل أن يتنازل عن أي سلطة سياسية.
تظاهر كلا الطرفان في أكثر من مناسبة بقبولهما التوصل إلى تسوية، لكنهما تجنبا تقديم أي تنازلات قد تؤثر على نقاط نفوذهما ضد بعضهما البعض.
شهدت جهود الوساطة الأوسع في البلاد 2016 مأزقًا مشابهًا؛ حين فشلت محادثات السلام التي رعتها الأمم المتحدة بين حكومة هادي وجماعة الحوثيين المسلحة، وفشل مبادرة السلام التي طرحها وزير الخارجية الأمريكي – آنذاك – جون كيري؛ إذ أصر هادي – حينها – على عدم تحديد وصياغة الأبعاد السياسية لحكومة ما بعد الصراع قبل أن تسلم قوات الحوثيين أسلحتها الثقيلة وتنسحب من المناطق التي استولت عليها، ليرفض الحوثيون التخلي عن نفوذهم العسكري قبل ضمان مركزهم في حكومة ما بعد الصراع.
ومنذ ذلك الحين، ونتيجة غياب اتفاق سياسي أوسع، رسخ الحوثيون أنفسهم بفضل قوتهم العسكرية وخلقوا واقعًا سياسيًا جديدًا في مناطق سيطرتهم. وبات من الواضح اليوم أنهم يعيدون تفصيل الدولة على مقاسهم في شمال اليمن، ما يجعل إبقاء اليمن موحدًا أضغاث أحلام.
وبشكل مماثل، فإن فشل تطبيق اتفاق الرياض فتح المجال أمام المجلس الانتقالي الجنوبي لفرض سيطرته العسكرية على عدن والمحافظات المجاورة؛ وتهيئة الظروف لتحقيق طموحاته في انفصال جنوب اليمن، ويشمل ذلك إعلانه الادارة الذاتية في جنوب اليمن أواخر أبريل/نيسان. كما اتخذ المجلس – وفي انتهاك واضح لاتفاق الرياض – خطوات عملية لوضع أسس مالية مستقلة من خلال إعادة توجيه إيرادات الدولة في المناطق التي يسيطر عليها إلى مؤسسته المالية شبه الحكومية التي أنشأها حديثًا، ميناء عدن كان مثالًا.
من شبه المؤكد أن العداوات التاريخية والهويات المتشابكة في الجنوب تمنع المجلس الانتقالي من بسط سيطرته في المحافظات الواقعة شرق عدن، كما مارست عليه الرياض – في نهاية المطاف – ضغوطًا للتراجع عن إعلان الإدارة الذاتية، لكنه ما يزال صاحب السلطة الفعلية في عدن – أكبر المدن الجنوبية – ومحافظتي لحج والضالع المجاورتين، وبحسب المؤشرات الحالية، فمن المحتمل أن يستمر المجلس في ترسيخ نفسه سياسيًا في هذه المناطق.
وفي هذه الأثناء، تضغط قوات الحوثيين بشكل كبير على الحكومة اليمنية – التي طُردت من العاصمة صنعاء ومن العاصمة المؤقتة عدن – في مأرب، آخر معاقلها المهمة في البلاد.
استمرار الحكومة اليمنية بفقدان أهميتها في اليمن خلال الأشهر والسنوات القادمة سيدفع على الأرجح نحو مزيد من التقسيم الفعلي للبلاد، وسيقتصر وجود دولة يمنية واحدة على الشكل القانوني فقط، أي على غرار الوضع بالصومال. وبالتالي، فإن اتفاق الرياض، وبالرغم من العيوب الجادة التي تشوبه، يمثل على الأرجح الخيار الأفضل، وربما الأخير، القابل للتطبيق لعكس هذا المسار.
ظهرت هذه الافتتاحية في التقرير الشهري “الوعد المتلاشي لاتفاق الرياض” – تقرير اليمن، أكتوبر/تشرين الأول 2020.
افتتاحيات مركز صنعاء السابقة:
- سبتمبر/أيلول 2020: ست سنوات منذ استيلاء الحوثيين على صنعاء: هل ينجحون في ابتلاع اليمن؟
- يوليو – أغسطس 2020: ناقلة FSO Safer: لماذا لا نزال ننتظر؟
- يونيو/حزيران2020: على الرئيس هادي الرحيل
- مايو/أيار 2020: هل ينجو اليمن من فيروس كورونا؟
- ابريل / نيسان 2020: سحق الأصوات المختلفة
- مارس / آذار 2020: لإنهاء الحرب قبل تفشي جائحة كورونا
- يناير – فبراير / كانون الثاني – شباط 2020: الوكالات الإنسانية كأسرى حرب
- نوفمبر / تشرين الثاني 2019: حقل ألغام مكافحة الفساد في اليمن
- أكتوبر / تشرين الأول 2019: التوقيع على السيادة
- سبتمبر / ايلول 2019: سياسات الهاوية لكارثة صافر
- أغسطس / آب 2019: اليمن… مقبرة التحالفات
- يوليو / تموز 2019: التناحر على المهرة
- يونيو / حزيران 2019: الحرب بالريموت
- مايو / أيار 2019: الحوثيون كجماعة مظلِمة
- ابريل / نيسان 2019: صراع البرلمانات اليمنية
- مارس / آذار 2019: “عاصفة الترحيل” السعودية
- فبراير / شباط 2019: الإغاثة كاعتذار
- تقرير اليمن السنوي 2018: ما بعد الهاوية
- نوفمبر / تشرين الثاني 2018: المستفيدون من حرب اليمن هم المعرقلون المحتملون لعملية السلام
- أكتوبر / تشرين الأول 2018: الصعود السياسي والعسكري لحزب الإصلاح في تعز
- سبتمبر / ايلول 2018: مجاعة محتملة ولا بنك مركزي فعال يحمي الريال اليمني
مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية هو مركز أبحاث مستقل يسعى إلى إحداث فارق عبر الإنتاج المعرفي، مع تركيز خاص على اليمن والإقليم المجاور. تغطي إصدارات وبرامج المركز، المتوفرة باللغتين العربية والإنجليزية، التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بهدف التأثير على السياسات المحلية والإقليمية والدولية.