شكَّلت الأحداث المتسارعة في سوريا، والتي انتهت بسقوط نظام الأسد وصعود الإسلاميين إلى السلطة، نقطة تحول محورية في المشهد الإقليمي. يترأس الحكومة الجديدة “هيئة تحرير الشام” – جماعة تمردية سابقاً – بقيادة أحمد الشرع، المعروف سابقا بإسمه الحركي “أبو محمد الجولاني”. قبل تشكيل الهيئة، كان الشرع قيادي بارز في فرع تنظيم القاعدة في سوريا، وقَاتل كذلك في العراق إلى جانب شخصيات متطرفة مثل أبو مصعب الزرقاوي. ومع صعوده كرئيس لسوريا، أصبح يمثل نموذجا جديدا للإسلاميين بعد انفصالهم عن تنظيم القاعدة، ويثير تساؤلات جوهرية حول مستقبل التنظيم وتوجهاته.
مستقبل غامض يواجه تنظيم القاعدة عالمياً
يمكن القول بأن نجاح هيئة تحرير الشام غير المتوقع في سوريا وتحقيقه انتصارات ميدانية حاسمة، بعد أن أمضى السنوات الأخيرة من الحرب متحصناً في محافظة إدلب الشمالية، يرجع إلى عدة عوامل، من بينها الدعم الخارجي من قوى إقليمية. لكن الهيئة أثبتت، خلال فترة الحرب وحالياً على رأس السلطة، قدرة استثنائية على التكيف مع البيئة السياسية والاجتماعية السورية المعقدة، إذ تمكنت من بناء تحالفات واسعة مع فصائل متنوعة، تتجاوز في كثير من الأحيان حدود الأفكار الأيديولوجية التقليدية لتنظيم القاعدة.
تمكن الشرع بذلك من حشد تأييد شعبي واسع، خاصة في المناطق التي عانت من ويلات الحرب، وذلك من خلال تقديم نفسه كمحرر وليس مجرد متطرف. من المهم الإشارة هنا إلى أن هذه الاستراتيجية تميزت عن النهج التقليدي المتشدد الذي اتبعه وتمسك به تنظيم القاعدة وفروعه في الماضي بغض النظر عن تقلبات الظروف.
يأتي صعود الشرع في وقت يشهد فيه تنظيم القاعدة تراجعا ملحوظا على الصعيد العالمي، فَمقتل زعيمه الأبرز أسامة بن لادن في 2011 ومن ثم خلفه أيمن الظواهري في 2023، وتصاعد الضغط الدولي على التنظيم (بما في ذلك استهدافه بِالطائرت المسيرة في أفغانستان وباكستان واليمن)، قد يدفع قادة القاعدة إلى إعادة النظر في استراتيجياتهم.
لهذا السبب، قد تُمثل تجربة هيئة تحرير الشام في سوريا نموذجا يمكن أن يلهم قادة التنظيم للبحث عن طرق جديدة للبقاء والتوسع، أو لانتهاج طريقة الشرع ذاتها عبر تنحية مفهوم الجهاد العالمي والتركيز على التأثير على السياسة المحلية في مناطق نشاطها.
بناء على ذلك، يطرح نجاح الشرع في سوريا تساؤلات جوهرية حول مستقبل تنظيم القاعدة: هل سيشهد التنظيم تحولا استراتيجيا يتبنى فيه أساليب أكثر مرونة وتكيفًا مع الظروف المحلية، أم أنه سيتمسك بأيديولوجيته التقليدية، مهما كانت التكلفة؟ وما هي أفرع القاعدة الأقرب إلى التأثر بهذا النموذج؟ هذه هي الأسئلة الأكثر إلحاحا بالنسبة للتنظيم في أعقاب التحوّل المذهل في سوريا، والذي قد يشكل مستقبله وتأثيره.
فرع القاعدة في اليمن: هل يستلهم من نموذج الشرع؟
يتجاوز الحديث عن مرونة نموذج الشرع إلى سياق أوسع يتمثل في المنافسة الشديدة بين تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية، وتعمق الشقاق حول وحشية تنظيم الدولة الإسلامية وفرع القاعدة في العراق الذي تشكّل عن الأخير. في عام 2014، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية إنشاء دولة الخلافة بعد انفصاله عن تنظيم القاعدة، وهو ما دفع تنظيم القاعدة إلى إعادة النظر في العديد من تكتيكاته سعيا منه إلى التمييز بينه وبين تنظيم الدولة.
أبرز مثال على ذلك هو فرع القاعدة في اليمن – المعروف بتنظيم القاعدة في جزيرة العرب – والذي كان قد تخلى عن العديد من التكتيكات التي اشتهر بها تنظيم الدولة، مثل عمليات القتل عن طريق الذبح العلني، كما تبرأ هذا الفرع من العمليات التي تستهدف المساجد الشيعية وغيرها من الأفعال الطائفية التي تستغل الانقسامات الاجتماعية والدينية. هذه التحولات في استراتيجية تنظيم القاعدة في جزيرة العرب كانت بمثابة استجابة مباشرة للانتقادات الواسعة التي وُجهت إلى تنظيم الدولة، وإدراك أن العنف المفرط يؤدي إلى العزلة وفقدان التعاطف الشعبي.
شكل أسلوب الشرع في سوريا نموذجا جديدا لتنظيم القاعدة، يجمع بين التشدد الإيديولوجي والمرونة التكتيكية. فَالشرع أثبت قدرته على تحقيق مكاسب ميدانية كبيرة من خلال تبني استراتيجيات غير تقليدية، مثل بناء التحالفات مع فصائل أخرى من خارج الدائرة العقائدية للهيئة، وتقديم نفسه كمحرر للشعب السوري.
بالمثل، يعكس انخراط تنظيم القاعدة في جزيرة العرب بشكل مباشر في صفوف المقاومة الشعبية اليمنية ضد الحوثيين تحولا استراتيجيا كبيرا في نهج التنظيم. فَبعد أن كان التنظيم يعتبر السعودية عدوا لدودا إلى جانب الولايات المتحدة، قام بتغيير حساباته وشارك في القتال ضد الحوثيين إلى جانب فصائل مقاومة تتلقى دعما سعوديا. تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ هذا التعاون مع المقاومة الشعبية جاء بعد أن كان التنظيم قد هدد نهاية عام2014، بتنفيذ المزيد من العمليات داخل الأراضي السعودية. أقر فرع القاعدة في اليمن صراحة بمشاركته في المعارك ضد الحوثيين في 11 جبهة قتال، مما يؤكد حجم هذا التحوّل الذي يعكس مرونة التنظيم على تكييف استراتيجياته وفقا للمصالح المتغيرة، حيث فضّل التنظيم التعاون مع أعدائه السابقين لمواجهة تهديد أكبر لأيديولوجيته يراه في الحوثيين – وفقاً لجهادي سابق.
بعد ذلك، غيّر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب استراتيجيته في اليمن مرة أخرى تحت قيادة زعيمه الجديد سعد العولقي، حيث أصبحت الحكومة والانفصاليين الجنوبيين المدعومين من الإمارات هدفاً رئيسياً له. لكن هذا يشير إلى وجود قابلية لدى تنظيم القاعدة في اليمن لتوطيد علاقته بالفصائل الأخرى، والعمل معها ضد ما يعتبره عدوا مشتركاً.
باختصار، يُظهر نجاح الشرع في سوريا أن الجماعات المماثلة تمتلك القدرة على التكيف والتطور استجابة للتحديات التي يواجهها. من المتوقع أن يؤدي النموذج السوري إلى حوار واسع داخل تنظيم القاعدة حول مستقبله، وقد يشجع العديد من قادته على إعادة تقييم استراتيجياتهم، ما قد يؤدي إلى تغييرات جوهرية في طبيعة التنظيم وأهدافه في منطقة الخليج.
حركة “الشباب” الصومالية: هل هي أقرب فروع تنظيم القاعدة للتحوّل؟
حركة الشباب في الصومال قد تكون أقرب أفرع تنظيم القاعدة للتحول، والتأثر بنموذج هيئة تحرير الشام، فَالحركة تُعد الفرع الأقوى بين فروع تنظيم القاعدة حاليا، وتسيطر على مساحات واسعة في الصومال عبر إدارة حُكم ذاتي غير معترف به. في هذا الصدد، يقول الكاتب والباحث اليمني أمجد خشافة “تسعى حركة الشباب منذ مدة لخوض تجربة مشاورات مع أمريكا مماثلة لمشاورات الأخيرة مع حركة طالبان في الدوحة، والتي انتهت بخروج الجيش الأمريكي من أفغانستان وتسلم الحركة السلطة، و”الشباب” الصومالية تعتبر تجربة طالبان ملهمة لتثبيت سلطتها في الصومال، بالإضافة إلى إمكانية أن تؤدي قطر دور وساطة فعالة”.
مع ذلك، قد تنظر الجماعات المتطرفة إلى هيئة تحرير الشام باعتبارها بالغت في إظهار المرونة، وقدمت الكثير من التنازلات لليبرالية الغربية مقابل مكاسب سياسية واقتصادية ضئيلة. بالتالي، أي محاولات من قيادات القاعدة لتغيير بنيته الفكرية والتنظيمية قد تأتي بنتائج عكسية و تؤدي إلى توترات داخلية. في مثل هذا السيناريو، قد تتجه أفرع القاعدة في اليمن والصومال ومناطق أخرى إلى التمسك بأسسها الأيديولوجية التقليدية تفاديا لأزمة هوية تهدّد بُنيتها.
ستواجه الولايات المتحدة أيضا بعض الخيارات الصعبة، منها الحاجة إلى تغيير استراتيجيتها التقليدية في حال أُعتُبر أنها فشلت طوال السنوات الماضية، وإعادة تقييم خياراتها في مجال مكافحة الإرهاب. يُمكن لأي إشارة إيجابية من تنظيم القاعدة أن تؤدي إلى إثارة اهتمام السياسة الخارجية ووكالات الأمن الدفاع، وتدفع واشنطن لاعتماد استراتيجيات جديدة تتضمن الاعتراف والإدماج.
خلاصة
يمكن القول بأن تجربة أحمد الشرع في سوريا أظهرت مرونته الاستراتيجية كقائد أكثر من أي قيادي في أي تنظيم جهادي آخر منذ الثمانينيات. فَمن خلال قدرته على التكيف مع الظروف المحلية وبناء تحالفات عابرة للخطوط الفكرية، تمكنت هيئة تحرير الشام من تحقيق مكاسب ميدانية كبيرة توّجت بإسقاط نظام الأسد.
هذا النجاح الاستثنائي لهيئة تحرير الشام، في ظل الصعوبات التي يواجهها تنظيم القاعدة على المستوى المحلي والعالمي، قد يدفع قادة التنظيم إلى إعادة تقييم استراتيجياتهم التكتيكية، لكنَّ أي تحول سريع وجذري قد يواجه مقاومة داخلية، ويؤدي إلى انقسامات تهدد تماسك التنظيم ووجوده في مختلف بؤر نشاطهالمحلية.
أخيراً، لا ينبغي الاستهانة بالعوامل الخارجية، فصعود هيئة تحرير الشام وأحمد الشرع – رغم نهجه المبتكر ومهارته في إدارة السياسة الجهادية – ما كان ليحدث أو لينجح بهذا الشكل دون دور محوري لقطر وتركيا، وبالتالي، فإن أية رغبة من الفروع الأخرى لتنظيم القاعدة في محاكاة نموذج الشرع تتطلب بالضرورة الانتباه إلى الدول الفاعلة في المنطقة والتي لها تأثير.