كان لحرب غزة، التي امتدت على مدار العام 2024، تأثير في جميع أنحاء الشرق الأوسط، حيث أعادت تشكيل المنطقة بشكل جذري، وأدت إلى تغيير ديناميكيات القوة وإعادة رسم حدود الصراعات المحلية. بالنسبة لليمن، عزّزت حرب غزة وتداعياتها عوامل الصراع المحلي وفَاقمت الانقسامات المحلية وأفضت بعملية السلام إلى طريق مسدود. شهدت نهاية العام 2024، تصاعدًا في المعارك القتالية على عدة جبهات، وفي التوترات بين الحوثيين وإسرائيل، وهو ما غذى الآمال داخل المعسكر المناهض للحوثيين بكبح جماح الجماعة. في غضون ذلك، تواصلت الجهود الدولية من أجل التوصل إلى تسوية سلمية في اليمن، لكن هذا المسار ظل متمسكاً بالنهج المألوف والمختل في مسعى لتحقيق انفراجة لا تزال بعيدة المنال.
النهج الدولي: وصفة للفشل
خلال الأشهر الثلاثة الماضية، لم تطرأ تغييرات ملموسة على نهج المجتمع الدولي فيما يتعلق بتحقيق السلام في اليمن. على المستوى الداخلي، لا يزال مجلس القيادة الرئاسي منقسماً وفي حالة ضعف، ومجرد وسيلة لأعضائه لتعزيز أجنداتهم الخاصة. نتيجة لذلك، باتت الجهات الفاعلة المحلية تبادر على نحو متزايد للتواصل أو الاجتماع مع المسؤولين الدوليين. تعليقاً على ضعف مجلس القيادة الرئاسي، تقول أفراح ناصر – زميلة غير مقيمة لدى المركز العربي في واشنطن: ” لا يتمتع مجلس القيادة الرئاسي بالاستقلالية، حيث يعود دائمًا إلى ما يريده السعوديون والإماراتيون. هو قائم وباقٍ لأن رعاته يريدون بقاءه باعتباره الكيان الأنسب لكلا البلدين… إلاّ أنه يأتي بنتائج عكسية ويُعزّز ثقة الحوثيين بعدم وجود معسكر قوي مناهض لهم“.
في نوفمبر 2024، تم إشهار تكتل جديد للقوى السياسية اليمنية تحت رعاية المعهد الوطني الديمقراطي للشؤون الدولية (NDI)، حيث ضمّ 22 حزبًا ومكوناً سياسيًا. قاطع المجلس الانتقالي الجنوبي – وهو كيان انفصالي قوي بقيادة عضو مجلس القيادة الرئاسي عيدروس الزبيدي – المبادرة المشار إليها التي قادتها الولايات المتحدة. على الرغم من أن هذا التكتل الجديد يُعدّ أكثر شمولاً من مبادرات سابقة من هذا القبيل، إلا أنه يعكس النهج المختل للمجتمع الدولي في التعاطي مع الأزمة اليمنية – فالاعتماد على الأحزاب والمكونات السياسية في المناطق الحضرية وغياب تمثيل اللاعبين الرئيسيين على الأرض، مثل القبائل والمجلس الانتقالي الجنوبي، يجعلها مبادرة ضعيفة.
من جانب آخر، يبرز التنافس السعودي-الإماراتي كعقبة رئيسية أمام توحيد المعسكر المناهض للحوثيين، وحجر عثرة أمام عملية السلام في اليمن. في هذا السياق، يقول عبد الغني الإرياني – باحث أول في مركز صنعاء: ” إمكانية تشكيل قيادة موحدة هي مهمة شبه مستحيلة طالما أن السعودية والإمارات تتنافسان في اليمن“. من جهته، أشار فارع المسلمي، وهو زميل باحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) إلى أن التباين في الأولويات بين أبو ظبي والرياض ينعكس في كيفية انخراطهما في جهود السلام الجارية، قائلا: ” لا تهتم الرياض بالحوثيين ما دامت الحدود السعودية آمنة. الرياض تعتقد أنها حيّدت التهديد الحوثي، وأعاد [السعوديون] تقديم أنفسهم كصانعي سلام وباتوا منشغلين أكثر بسياقات بلدان أخرى، مثل سوريا“.
تاريخياً، لطالما نظرت الرياض إلى اليمن باعتباره تهديداً محتملاً، وبالتالي كانت الحاجة إلى احتواء هذا التهديد هي الدافع وراء التدخل السعودي في البلاد لعقود من الزمن. قد تفسر هذه النظرة – جزئياً – تمنّع السعودية عن دعم حلفائها في الحكومة اليمنية لمواجهة التهديد الحوثي.
غياب سياسة أمريكية
يمثل غياب سياسة أمريكية تجاه اليمن إشكالية أخرى، حتى مع عودة ترامب للبيت الأبيض في يناير المنصرم. دعمت الولايات المتحدة من خلف الكواليس المحادثات المباشرة بين السعودية والحوثيين، على أمل أن تفضي إلى تسوية للصراع، ولكن بمجرد أن بدأ الحوثيون بمهاجمة السفن في البحر الأحمر، اضطرت إدارة الرئيس السابق بايدن إلى إعادة تقييم مقاربتها ونهجها، وأدى ذلك آخر المطاف إلى تشديد سياسة العقوبات، مع توجيه ضربات مباشرة ضد أهداف حوثية استراتيجية.
أًطلقت عملية “حارس الازدهار“ في ديسمبر 2023، لحماية حركة الملاحة التجارية في البحر الأحمر، وتم رفدها لاحقاً باستراتيجية “الردع والإضعاف” التي أُعلن عنها في أكتوبر 2024. ركزت الحملة الأمريكية بشكل عام على استهداف القدرات العسكرية للحوثيين، ورغم أن شهري نوفمبر وديسمبر شهدا العديد من الضربات المبلغ عنها ضد منشآت تابعة للحوثيين، إلاّ أنها لم تتضمن ضربة قاصمة لقدرات الجماعة. إذًا، ما هي خيارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه اليمن والحوثيين؟
قَدِمَ الرئيس الجديد بأجندة لإنهاء جميع الحروب في الشرق الأوسط والتركيز على المسائل الداخلية لبلاده، على غرار الاجندة التي تبناها خلال فترة رئاسته الأولى. على صعيد السياسة الخارجية، سيتضمن هذا التوجّه غالباً العودة إلى ممارسة أقصى قدر من الضغط على إيران، الأمر الذي سيؤثر بدوره على الحوثيين. في يناير الماضي، أعاد البيت الأبيض تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية بقرار تنفيذي – والذي دخل حيز التنفيذ مؤخراً – مشيراً إلى أنه يقوم بتقييم شركاء الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية والمتعاقدين مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في اليمن بحثاً عن أي صلات محتملة بالجماعة. توازياً مع ذلك، أعلنت الإدارة الجديدة نيتها الحدّ من تدخلاتها في الشرق الأوسط، وهو ما يعني وجود احتمال بأن تسعى إلى حل سياسي بدلاً من الحل العسكري، فَالانخراط في عمل عسكري سيتطلب التعامل مع حكومة يمنية ضعيفة ومنقسمة، وهو ما قد يصب نهاية المطاف في مصلحة الحوثيين. في هذا السياق، ترى أفراح ناصر أن اتباع نهج عسكري أكثر عدائية يستهدف القيادات الحوثية قد يؤدي إلى “فراغ في السلطة مما سَيسمح للجماعات الإرهابية الأخرى – مثل تنظيمي القاعدة وداعش – بالاستفادة من الوضع ومن الضعف الذي يعاني منع المعسكر الموالي للحكومة على مستويات عدّة“. يتفق فارع المسلمي بالقول إن الضربات العسكرية لن تغير من سلوك الحوثيين، مضيفاً: ”الولايات المتحدة تنتظر انتهاء حرب غزة لتتعاطى مع الوضع في اليمن، حتى وإن لم تكن هناك مقاربة جيدة“.
التصعيد بين الحوثيين وإسرائيل
شهدت الأشهر القليلة الماضية تطورات إقليمية هامة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد بعد أكثر من 50 عامًا من الحُكم في سوريا. يقول فارع المسلمي إن خسارة إيران لحليف آخر ومُهم جعل الحوثيين ”الحصان الأخير الصامد“ في محور المقاومة المدعوم من إيران، وهذا سيدفعهم [أي الحوثيين] ليصبحوا أكثر تهورًا. لم يعد الحوثيون يعتمدون على الإيرانيين بقدر ما كنا نعتقد – بخلاف أنشطة التهريب. قد تضعف الجماعة إذا ما تعطلت طرق التهريب مع إيران، لكن الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً حتى يُحدث ذلك فرقاً فعلياً“.
أخذت الهجمات الحوثية منحى تصعيدي في الأشهر الأخيرة، حيث تضمنت استهداف إسرائيل التي ردّت بدورها بضرب البنى التحتية والمنشآت الحيوية في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، بما في ذلك مطار صنعاء وميناء الحديدة. كان الردّ الاسرائيلي محدوداً أو مُقيّداً نسبياً، لا سيما وأن شهر ديسمبر شهد أكبر عدد من الهجمات الحوثية ضد إسرائيل منذ بداية الحرب على غزة. قد يعود سبب هذا إلى رغبة إسرائيل بانتظار عودة الرئيس الأمريكي الجديد إلى البيت الأبيض، لأجل التنسيق وزيادة الضغط على الحوثيين بدعم من إدارة أمريكية أكثر إيجابية. في غضون ذلك، تتعزز الآمال لدى المعسكر المناهض للحوثيين بأن يؤدي استمرار التصعيد بين الحوثيين والقوى الغربية إلى إضعاف وتقويض القدرات العسكرية للجماعة بصورة حرجة.
المسار المطروح للمضي قُدماً
لا يزال إحلال السلام في اليمن مسألة بعيدة المنال، لكن الخبراء يتفقون على أن هناك مسارات للتوصل إلى تسوية في حال تحلت جميع الأطراف المنخرطة في النزاع بالمرونة الكافية. أحد الشروط الهامة للمُضي في هذا الاتجاه هو خفض الحوثيين لسقف طموحاتهم بشأن المكاسب التي يسعون لتحقيقها في الميدان، لا سيما طموحهم بالسيطرة على موارد النفط والغاز في اليمن. في هذا الصدد، يقول عبدالغني الإرياني: ”لا يُبدي الحوثيون أي اهتمام بإجراء محادثات جادة مع الأطراف اليمنية. هم يريدون فقط التعامل مع السعودية، ومن ثم تحويل بوصلة اهتمامهم إلى تدمير أي طرف منافس“. يتمثل أحد المسارات المحتملة لتغيير هذه الديناميكية في طرح خطة لإعادة الإعمار والإنعاش الاقتصادي لتحفيزهم على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
بالنسبة لأفراح ناصر، ترى أن ”اليمن أقرب إلى الحرب منه إلى السلام. ستعود الحرب الأهلية بمرحلة ثانية، انطلاقاً من رغبة المعسكر المناهض للحوثيين باستعادة صنعاء“. أظهر الإرياني تفاؤلًا أكثر بالقول: ”مع إعلان وقف إطلاق النار في غزة، سيتوقف الحوثيون عن هجماتهم [ضد إسرائيل والبحر الأحمر]“. من جهته، قال المسلمي: ”على المدى الطويل، سيتعين على الحوثيين إما توقيع اتفاق سلام أو [مواجهة] نهايتهم. السلام الشامل مُمكن، لكن الأمر يعود إليهم“.
يظل إشراك جميع الجهات الفاعلة اليمنية في عملية السلام واستنباط حلول محلية لمشاكل البلاد التي لا حصر لها، هو المفتاح لتحقيق تسوية دائمة، لكن تحقيق ذلك سَيعتمد على تقديم السعوديين والإماراتيين تنازلات لبعضهم البعض، وتجاوز تنافسهم في اليمن من خلال تبني نهج بناءة أكثر.
على نطاق أوسع، سيظل المشهد في اليمن خلال العام 2025، مرهونا بتطورات أخرى حاسمة مثل تراجع النفوذ الإيراني، وسياسات الإدارة الأمريكية الجديدة، ووقف إطلاق النار في غزة. تقف البلاد اليوم بين كفتي ميزان متأرجح وبالتالي فإن أية إجراءات جذرية تُتخذ قد تدفع اليمن إما نحو الحرب أو نحو السلام.