تصاعدت وتيرة العمليات المتبادلة بين الحوثيين وإسرائيل خلال الأشهر الأخيرة، مع زيادة الهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة التي أطلقها الحوثيون باتجاه إسرائيل، وفي إطار ما وصفته الجماعة بـ “المرحلة الخامسة من العمليات المساندة لغزة“. يلقي هذا الصراع بأبعاده على الطرفين ويتطور بشكل تدريجي، حيث شن الإسرائيليون ضربات جوية داخل اليمن رداً على هجمات الحوثيين، إلا أن هذه الضربات لم تُحدث أي أثر ملموس على الجماعة التي راكمت خبرتها في الصمود أمام الاستهداف الجوي خلال السنوات السابقة.
تختلف نوعية الأهداف الإسرائيلية في اليمن عن تلك التي استهدفتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، والتي ركزت غالبا منذ بدايتها على أهداف عسكرية مباشرة مثل منصات إطلاق الصواريخ المتحركة ومواقع الرادارات وكذلك ضرب مخازن الأسلحة وورش تصنيع الصواريخ والطائرات المسيرة. في المقابل، وسعت إسرائيل بنك الأهداف ليتضمن منشآت اقتصادية، حيث استهدفت القوات الإسرائيلية مينائي الحديدة والصليف وخزانات الوقود في رأس عيسى ومحطات كهرباء في الحديدة وصنعاء، وضربت أيضا مطار صنعاء الدولي، وقصفت 8 لنشات من أصل 15 لنش بحري تُستخدم لسحب السفن الكبيرة في ميناء الحديدة. مؤخراً، وسعت إسرائيل أهدافها في عمليتها التي شنتها بتاريخ 10 يناير، لتتضمن استهداف دار الرئاسة بصنعاء، وتعكس نوعية هذه الأهداف أن الخطوط الحمراء أمام إسرائيل أقل من تلك التي يفرضها حلفاؤها الغربيون على أنفسهم. يتم كل هذا في سياق مضطرب وفي خضم تحديات سياسية وأمنية عديدة تهيمن على المنطقة.
الأبعاد الاستراتيجية للصراع
يمثل الحوثيون اليوم أحد أهم الأذرع الفاعلة فيما يسمى “محور المقاومة”، لا سيما بعد نجاح إسرائيل في تحييد حماس وحزب الله وسقوط نظام الأسد في سوريا، وتراجع عمليات الميليشيات المدعومة من إيران في العراق. مع ترقّبها لمواجهة وشيكة مع إسرائيل والولايات المتحدة، تسعى إيران إلى بقاء الحوثيين كجماعة قادرة على تهديد المصالح الإسرائيلية والغربية بما في ذلك خطوط الملاحة البحرية، ما يجعل الحوثيين أحد الأوراق الهامة في استراتيجية إيران، وتؤهلهم ليتحولوا إلى خط دفاع لها.
تنامت مخاوف ايران مع عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، والمعروف بتبنيه استراتيجية “الضغط الأقصى” ضد إيران خلال فترة رئاسته الأولى. من جهتها، ترى إسرائيل ذلك فرصة لتوجيه ضربة ضد إيران بشكل مباشر مستقبلا، مُعولة على دعم إدارة ترامب، وستستفيد بالتأكيد من تصاعد العمليات المتبادلة بينها وبين الحوثيين لإظهار خطورة النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة. في هذا الصدد، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قد صرّح بأن عمليات إسرائيل لا تحمي نفسها فقط من الجماعة المتمردة المدعومة من إيران ولكن العالم بأسره.
يكتسب الصراع بين إسرائيل والحوثيين أبعاد استراتيجية متعددة: تسعى إسرائيل إلى حماية مصالحها الأمنية والاقتصادية المهددة من أنشطة الحوثيين، ومن جهة أخرى يسعى الحوثيون الى إستغلال الصراع لتعزيز صورتهم وسرديتهم بأنهم حركة مقاومة تواجه إسرائيل والولايات المتحدة. من جانب آخر، تستفيد إيران من الحوثيين استراتيجياً كوسيلة لإظهار نفوذها في المنطقة، وفرض تكاليف عالية على خصومها وتعزيز موقفها في المفاوضات الدبلوماسية على ملفات أخرى.
تتحول الضربات بين إسرائيل والحوثيين تدريجيا إلى حرب استنزاف، وصراع مُطوّل لا يصب في صالح الطرفين. بالإضافة إلى التداعيات الأمنية والسياسية، يتكبد الجانبان أضراراً اقتصادية فادحة، حيث يخسر الحوثيون موارد مالية هامة مع تدمير المرافق والمنشآت، بينما تتكبد إسرائيل تكلفة مادية عالية لاعتراض صواريخ الحوثيين وطائراتهم المسيرة.
التحديات أمام العمليات الإسرائيلية
تتباين الآراء داخل إسرائيل حول الرد المناسب على الحوثيين في اليمن. وبمراجعة تعليقات الخبراء والمسؤولين الإسرائيليين في وسائل الإعلام الإسرائيلية والدولية، يمكن استقاء مؤشرات على كيفية تطور الصراع في المستقبل. يقول الدكتور ناحوم شيلوه، زميل باحث في مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا التابع لجامعة تل أبيب: “ربما يجري الحوثيون حساباتهم معتقدين أنهم قادرون على تحمل الانتقام الإسرائيلي مرة كل بضعة أشهر مع الاستمرار في مهاجمة إسرائيل”، مشيراً إلى التعقيدات المترتبة على شن ضربات جوية داخل اليمن والذي يبعد حوالي 2000 كيلومتر عن إسرائيل. يضيف شيلوه: “في تحليلهم للتكلفة والعائد، يريدون تنفيذ أيديولوجيتهم المناهضة لإسرائيل والولايات المتحدة، مع الأخذ في الاعتبار أن قدرة إسرائيل على ضربهم محدودة”. هناك عدد قليل جدًا من الأهداف العسكرية القيمة لإسرائيل”.
البعد الجغرافي والتكاليف المرتفعة ليست التحديات الوحيدة التي تواجه عمليات إسرائيل في اليمن، فما يزال التباين في الآراء قائما بين صناع القرار الإسرائيليين حول هذا الجانب أيضاً. اقترح رئيس الموساد ديفيد بارنيع أن يتم استهداف إيران بشكل مباشر ردا على هجمات الحوثيين. بالمقابل، يميل جهاز استخبارات الجيش الإسرائيلي إلى انتهاج سياسة أكثر تحفظاً تتجنب الضربات المباشرة ضد إيران. ويبدو أن نتنياهو يميل إلى رأي جهاز الاستخبارات.
يبرز أيضاً تحدٍ إضافي يواجه الإسرائيليين مرتبط بالمعلومات الاستخباراتية. فَعلى الرغم من أن الحوثيين ينشطون منذ فترة غير قصيرة، يبدو أن إسرائيل لم تعتبرهم أولوية كالتهديدات الأخرى التي انخرطت تاريخياً في مواجهات معها، وبالتالي لم تستثمر بكثافة في جمع المعلومات الاستخباراتية عن الجماعة. رغم تهديد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو باستهداف القيادات الحوثية، وتصريح وزير الدفاع يسرائيل كاتس بالقول: “سنطارد جميع قادة الحوثيين وسنضربهم تماما كما فعلنا في أماكن أخرى، إلا أن شُح المعلومات الاستخباراتية الدقيقة ما يزال عائقاً مهما لهذا التوجه”. فَضعف بنية الاتصالات في اليمن يقلل من فرص الإسرائيليين في جمع المعلومات، ومن المفارقات أن هذه السلبية أصبحت واحدة من أهم الإيجابيات التي يستفيد منها الحوثيون حالياً في استراتيجيتهم الدفاعية، فمراقبة خطوط الاتصالات كانت ركيزة مهمة لإسرائيل في صراعاتها مع حركة حماس في غزة وحزب الله في لبنان، لكن ضعف البنية التحتية للاتصالات في اليمن وبطء خدمة الإنترنت جعلت من هذه الاستراتيجية أقل فعالية بالنسبة لإسرائيل.
بالإضافة إلى الخيارات العسكرية المباشرة، يدرس الإسرائيليون مساراً آخراً يتمثل في بناء تحالف دولي يضم السعودية والإمارات ودول أخرى في المنطقة، من مُنطلق أن الحوثيين تهديد لأمن ومصالح الجميع وليس لإسرائيل فقط. تحقيقاً لهذه الغاية، تنشط وزارة الخارجية الإسرائيلية في سعيها لتصنيف دولي للحوثيين كمنظمة إرهابية، حيث أصدر وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر تعليمات للدبلوماسيين الإسرائيليين في أوروبا بالعمل من أجل إعلان هذا التصنيف من قبل أكبر عدد ممكن من الحكومات. تشمل الدول التي تصنف الحوثيين حاليا كمنظمة إرهابية: (إسرائيل، الولايات المتحدة، كندا، استراليا، السعودية، الإمارات، نيوزيلندا، وماليزيا) لكن عدد محدود من الدولة الأوروبية تنضم إلى هذه القائمة.
هناك أيضا تباينات في الآراء على مستوى الخبراء الأمنيين الإسرائيليين حول كيفية تأطير الحوثيين: كدولة أم كمنظمة إرهابية. مثلاً، يدعو جيورا ايلاند، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي (الإسرائيلي)، إلى اعتبار الحوثيين دولة نظرا لسيطرتهم على العاصمة صنعاء وأجزاء كبيرة من شمال اليمن، ويقول إن هذا سيتيح لإسرائيل تطبيق قوانين الحرب التقليدية وشرعنة عمليات عسكرية أوسع. لكن هذا الرأي يثير مخاوف لدى البعض من تعقيدات أي دعم إقليمي لمثل هذا التوجّه، حيث قد يتردد حلفاء محتملون مثل السعودية والإمارات في دعم حرب معلنة ضد دولة مجاورة، والبعض – من أصحاب الرأي المغاير – يفضل الإبقاء على تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية ضمن الرؤية الإسرائيلية لمحاربة وكلاء إيران لتجنب عزل الحلفاء الدوليين.
واقع جديد
تشكل المواجهة بين الحوثيين وإسرائيل تطورا جديدا في مشهد الصراع الواسع والمعقد في المنطقة. هناك بالتأكيد فجوة كبيرة من ناحية الإمكانيات بين الطرفين لصالح إسرائيل التي تمتلك قدرات أكثر تطورا بمراحل، إلا أن الحوثيين ما يزالوا حتى اللحظة قادرين على البقاء كتهديد فعليّ لإسرائيل على المدى القصير والطويل (أي مرحلياً واستراتيجياً). لا يوجد لدى إسرائيل حتى الآن رصاصة سحرية بمقدورها حسم الصراع من جانبها بشكل فاعل، ويبدو أن الطرفين سيستمران في تعزيز استراتيجياتهم القتالية وتطويرها. ما حدث من عمليات متبادلة حتى الآن لن يكون الصفحة الأخيرة في هذه المواجهة المعقدة، ويبدو أن الطرفين ماضيان في حرب استنزاف مكلفة وغير محسومة النتائج، ما لم تظهر عوامل جديدة تغير الديناميكيات القائمة.